بالنسبة للعديد من القرّاء حول العالم، تُختزل تركيا باسم واحد: أورخان باموق. ومع الحياة الممتدة على مدى العقود المضطربة التي شكلّت الحياة التركية الحديثة، يؤلف باموق الروايات التي تخوض في مفارقات ونقاط التقاء ثقافة وسياسات وطنه، مُعرياً توترات وجهات النظر التي تظلل المجتمع التركي.
قضى باموق، الذي ولد عام 1952 لأسرة مثقفة في أحد أحياء اسطنبول الراقية، المطلق والأب لابنتين، معظم حياته تقريباً في المدينة، التي لا يزال لها تأثيرٌ غاية في الأهمية على مؤلفاته. وبالفعل، لقب بـ”صوت اسطنبول.”
تزخر كتب باموق بعناصر من حياة المؤلف وتطور تركيا على حد سواء. روايته الأولى، جودت بيك وأبناؤه، تروي قصة ثلاثة أجيالٍ من أحد عائلات اسطنبول الثرية التي تعيش في حي نيشان تاشي، الحي الذي يقطنه باموق. فقد تحمّلت عائلته الكثير من التغييرات التي اجتاحت تركيا في السنوات الأولى من القرن العشرين. فعائلة باموق التي كانت يوماً ما ثريةً وتألف حياة الثراء العثمانية، باتت تسعى مع ظهور الجمهورية التركية إلى مظاهر الحياة الغربية. سكنت العائلة مكسنها الخاص من مجموعة الشقق الضخمة، بمنزلٍ يُطل على أشهر معالم اسطنبول حيث لا يزال يسكن باموق.
ومع ذلك، وعلى الرغم من مكانة باموق كأكثر روائي، على قيد الحياة، شهرةً على الصعيدين المحلي والدولي، إلا أنّ لا يُنظر إليه من قِبل جميع مواطني بلاده كصوت تركيا الحديثة. فوجهات نظر باموق، خريج أحد مدارس النخبة في اسطنبول، العلمانية المتحضرة المائلة إلى الغرب، بعيدة كل البعد عن المحافظين، سيما قلب المجتمع التركي المؤيد بوضوح لأردوغان.
فعمل باموق ميّزه باعتباره روائي يبدع بسلاسة حياكة خيوط الحياة والسياسة التركية الحديثة عبر مجموعة من الاعدادات. وعلى الرغم من أن بعض أشهر رواياته تبدأ في تاريخ تركيا البعيد والأكثر حداثة، إلا أن باموق معروفٌ بكتاباته المثيرة للذكريات والعواطف وحماسه الشديد في استكشاف كلٍ من الماضي والحاضر. ففي أعماله، مثل رواية ثلج، أعاد باموق إحياء مدينة قارص الجبلية الكردية فضلاً عن القصص الأخرى غير المألوفة للأجانب والأتراك من سكان المدن على حد سواء.
فقد جذبت رواية الكتاب الأسود، التي نشرت عام 1990، لباموق الإشادة الدولية وعززت من سمعته ككاتبٍ حظى بشعبيةٍ حتى في بداياته. وبعد عام، كتب باموق سيناريو فيلم الوجه الخفي (Hidden Face)، استناداً إلى قصة من ثلاث صفحات في رواية الكتاب الأسود.
وفي عام 2008، نشر باموق رواية متحف البراءة، وهي رواية تركز على ملاحقة رجلٍ طوال حياته لإمرأة شابة ومسعاه لافتتاح متحفٍ يعرض تمائم حبه. وبعد أربع سنوات، افتتح باموق بنفسه المتحف في حي شكر جمعة في اسطنبول، ناقشاً أدبه في أحد معالم مدينته الحبيبة. تتبع الحرف اليدوية في المتحف علاقة الحب لنفس الرواية السابق ذكرها، لتعكس بطرقٍ عديدة علاقة حب باموق مع المدينة التي ولد بها.
ولكن مع نمو شهرة باموق، دفعت به سياساته، بقدر كتاباته، إلى عناوين الصحف. ففي عام 1994، ساعد صحيفة كردية بعد أن قصفت مكاتبها، فيما كان يعتقد أنه هجوم من قبل الحكومة. وضعته جهوده هذه على الصفحة الأولى لصحيفةٍ وطنية تركية، بوصفه “خائن.” كما أيد باموق بقوة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، مدعوماً بالاعتقاد أن العضوية في الاتحاد الأوروبي ستدفع عجلة الإصلاحات التي طال انتظارها في المجالات القانونية والسياسية في تركيا.
وعلى الرغم من أن رواياته لم تعالج القضايا السياسية المعاصرة، إلا أنه استخدم صورته العامة لتسليط الضوء مراراً وتكرراً على جوانب المجتمع التركي، والتاريخ، الذي باعتقاده بات يُنسى ويُجمّل بشكلٍ متعمد. وفي عام 2005، أثار باموق غضب السلطات التركية بعد أن ناقش في صحيفةٍ سويسرية ماضي وطنه المضطرب مع الأقليات الكردية والأرمنية. وقال باموق في المقابلة: “30 ألف كردي ومليون أرمني قتلوا على هذه الأرض، ولا أحد غيري يجرؤ على الحديث عن هذا الأمر.” أدى هذا المقال إلى محاكمته بتهمة “إهانة الأمة التركية،” وهي تهمة تحمل عقوبةً محتملة بالسجن لثلاث سنوات. ووسط ما أسماه بحملة الكراهية، أجبر باموق على اللجوء مؤقتاً خارج البلاد، تماماً كحال عمق المشاعر حول الجدل التاريخي لتركيا.
أسقطت التهم الموجهة ضد باموق، في نهاية المطاف، عقب ضغوطاتٍ من الدول الاعضاء بالاتحاد الاوروبي، والرسائل المفتوحة الموقعة من قِبل الحائزين على جائزة نوبل، والاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق. ومع ذلك، تخلت السلطات التركية عن القضية تقنياً، إلا أنها لم تعترف بحق باموق في حرية التعبير. ولا يزال بعض المفكرين الأتراك منزعجين من هذا الأمر. واليوم، تبقى آراء باموق السياسية قوةً فعّالة. كما أفيد أن مقابلته الأخيرة التي أجراها مع صحيفة يومية تركية حول دعمه لحملة “لا” المناهضة للاستفتاء الذي يوسع الصلاحيات الرئاسية، رفعت بسبب ضغوطاتٍ حكومية.
وفي عام 2006، حصل باموق على جائزة نوبل للآدب، ليكون بذلك ثاني أصغر فائز بالجائزة على الإطلاق. وقد ذكرت لجنة نوبل على وجه التحديد كيف “أثناء بحثه عن الروح الكئيبية لمدينته الأصلية اكتشف رموز جديدة للصراع والتداخل بين الثقافات.” فالتوترات العميقة الجذور بين الشرق والغرب، وبين التراث والعلمانية، فكرةٌ رئيسية تتقاطع عبر العديد من أعمال باموق. فقد باع باموق أكثر من 13 مليون نسخة من كتبه في 63 لغة. ومع ذلك، وعلى الرغم شهرته وشعبيته، يبقى الرأي العام التركي منقسماً حول ابن البلد.
يواصل باموق الكتابة والنشر بنشاط. ومع ذلك، يعتقد بعض أعضاء الجيل الجديد من الأتراك، الذي ترعرعوا في ظل النظام الاستبدادي للرئيس رجب طيب أردوغان، أن الصراعات القديمة بين الحداثة الغربية والتقاليد الشرقية قد حُسمت، دون أدنى شك، لصالح الماضي العثماني التركي. وبالتالي، من الصعب أن نرى كتابات باموق تحمل نفس الرنين في هذا المستقبل الجديد كما كانت في السابق. وقد يكون عصر أورخان باموق، باعتباره صوت تركيا الحديثة، آخذٌ في التلاشي.