وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

صباح فخري: القلعة الثانية لحلب والغناء العربي

صباح فخري
صورة تم التقاطها يوم ١٣ مايو ٢٠١٠ للمطرب السوري صباح فخري أثناء مشاركته في مهرجان “أنغام من الشرق” في العاصمة الإماراتية أبو ظبي. وكان فخري قد توفي عن ٨٨ عاماً في العاصمة السورية دمشق يوم ٢ نوفمبر ٢٠٢١. المصدر: EBRAHIM ADAWI / AFP.

يوسف شرقاوي

قرابة سبعين عاماً بقي صوت المطرب الحلبي صباح فخري (١٩٣٣ _ ٢٠٢١) يصدح في العالم العربي، والعالم كلّه، بحوالي ثلاثمئة وستة وسبعين لحناً. توزّعت الألحان على أهم القوالب الغنائيّة التقليديّة التراثيّة والمتمثّلة في الموشّحات والقصائد والأغاني الشّعبيّة الفلكلوريّة والقدود الحلبيّة والمواويل والابتهالات الدينية والأدوار والأناشيد. تتوزع هذه الألحان على مجموع ثمانية عشر مقاماً موسيقياً شرقياً، ساهم صباح نفسه في تلحين جزء منها، هي ثمانية وستون لحناً.

أيضاً، تنوّع الشعراء الذين غنى لهم “صنّاجة الغناء العربي” كما يُلقَّب، حيث غنى لأربعٍ وعشرين شاعراً من الشعراء العرب القدامى، ولسبعٍ وأربعين شاعراً من الشعراء العرب المعاصرين، بألحان لملحنين سوريين ومصريين وعراقيين ولبنانيين وتونسيين وفلسطينيين وفارسيين.

ليس من الغريب، قياساً لنشوة سامعه، أن يعرف أنّ اكتشاف صوته العذب بدأ منذ كان رضيعاً، إذ يقول صباح فخري لمحاورته شذا نصار في الكتاب الوحيد عنه “صباح فخري: سيرة وتراث” أنه بعمر الشهر الواحد كان أحد أقربائه يتعمّد إيقاظه عبر قرصه لأنه يحب سماع صوته حتى وهو يبكي، إذ كانت لديه نغمة خاصة في البكاء.

الطفولة والاسم

صقل “صباح الدين أبو قوس”، وهو الاسم الأصلي له، موهبته وصوته في حارة الأعجام داخل قرية القصيلة في أحد أحياء حلب القديمة، حيث كان مُحاطاً بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية.

ومنذ سنوات صباه الأولى تفتّح سمعه للنّغمات الرّقيقة والمعاني العذبة في اللّغة العربيّة النّقيّة. وببلوغه سنّ الدّراسة التحق بالتّعليم بالمدرسة القرآنيّة بحلب حيث تعلّم مبادئ اللّغة العربيّة وعلوم البيان والتّجويد والدّين الإسلامي إلى سنة 1947.
ولخوانم ذلك الزمان، أو سيداته، دورٌ في صعود نجم الفتى صباح الدين، حيث كان لكل واحدة منهن موعد شهري تستقبل فيه معارفها فتُفتح دارها للغناء والعزف والرقص، فصارت النساء يطلبن من صباح الغناء في تجمعاتهن.

غنّى صباح الدين، ابن الاثني عشر عاماً، في حضرة رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام ١٩٤٦. بعدها بعام، التقى صباح في حلب بعازف الكمان الحلبي الشّهير سامي الشّوّا الذي أعجب بصوته وتبنّاه للعمل صحبته في عدّة جولات وعروض موسيقيّة غنائيّة، وكان قد اختار له إذّ ذاك اسم محمّد صباح، كما اقترح عليه الانتقال إلى مصر بالقاهرة حيث كانت الساحة الفنيّة الموسيقيّة متأجّجة بنزاعات التجديد الموسيقي مع الملحّنين محمّد القصبجي ومحمّد عبد الوهاب.

في الوقت نفسه، كان النائب فخري بيك البارودي قد أسس معهداً للموسيقى في دمشق، واقترح على صباح الدراسة فيه والانضمام إلى الإذاعة السورية.

أما عن اسمه الذي نعرفه فيه، “صباح فخري”، فتقول شذا نصار أنه “في إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه فقدم المذيع المطرب باسم صباح فخري”، فصار ذاك هو اسمه.

الحفاظ على التراث

https://www.youtube.com/watch?v=EEcDmDR4AnQ

لم يكتفِ صباح بتقديم الأغنيات فقط سواء في الإذاعة أو السينما، بل استطاع تسجيل شامل للتراث الغنائي والموسيقي على أشرطة فيديو. تضمنت التسجيلات – كما يقول في إحدى الحوارات معه – شروحاتٍ تتعلق بتاريخية كل من النغمات المحفوظة وتوضّح الأصل والمنشأ والهوية، وما غُنّي على هذه النغمة، ومَن لحّن ومَن كتب، وهي تجربة جديدة تشكّل نوعاً من الاختراق الجديد للتراث، يختلف عن عملية التقصي والجمع، كما يسميها صباح.

استطاع صباح من خلال مشاركته في مسلسل “نغم الأمس” أن يفرد لكلّ مقام موسيقي عدّة موشّحات وقصائد وأدوار وبعض القدود الحلبيّة والمواويل والأغاني الشعبيّة الفلكلوريّة والمدائح الدينيّة، وأن يسجل ما يقرب عن مائة وستّين مقطوعة من القوالب الغنائيّة العربيّة وبشرح مفصّل لكلّ تلك القوالب قصد تثبيتها وأرشفتها لتبقى راسخة في أذهان المستمعين.

صباح فخري سفيراً

تعدى صباح نطاق الحدود السورية، وغنّى في معظم البلدان العربيّة في لبنان والأردن والكويت وقطر ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة وسلطنة عمان والعراق والسّودان ومصر والمغرب وتونس والجزائر وليبيا. كما أنه لم يأل جهداً من أجل التعريف بالتراث الغنائي السوري، إذ سافر وغنى في معظم دول المهجر كفنزويلا والأرجنتين والشّيلي والبرازيل وكندا وأستراليا والولايات المتّحدة الأمريكيّة. من أبرز عروضه حفل أقامه “بقاعة نوبل للسّلام” في النرويج، وآخر بقاعة قصر المؤتمرات بباريس سنة 1978 وقاعة مسرح الأماندية “théâtre Les Amandiersبباريس أيضاً سنة 1985، وذلك في افتتاح مهرجان الموسيقى الشرقيّة بفرنسا، وفي قاعة “بيتهوفن” في مدينة بون بألمانيا، إلى جانب إقامته لعدّة حفلات بمسرح معهد العالم العربي بباريس.

في مدينة “كاراكاس” عاصمة فنزويلا غنى صباح عشر ساعات متواصلة والجمهور يتفاعل معه، فحقق بذلك أكبر رقم قياسي بالغناء المتواصل عام ١٩٦٨.

صاحب القدرات والمميزات

يتمكّن صباح فخري من روح وهيكل كل مقام موسيقي على حدة. كما يتميز بقدرة فائقة على التنقل اللحني المباشر بين المقامات الموسيقية العربية. ولإبراز براعته في الأداء، يوظف بشكل علمي بعض التقنيات الصوتية وبعض الزخارف والتلوينات. ومن هذه التقنيات الزحلقة Glissando، وهي تقنية أداء صوتي تمكّن من عبور مسافة صوتية مع اجتياز كل المسافات الصغرى المكوّنة لها. وهناك أيضاً تقنية “الزمرة” وتتمثل في أداء درجة موسيقية محفوفة بدرجات أخرى، (الدّرجة السّابقة والدّرجة الموالية لها. وتسمّى تلك المجموعة من الدّرجات بما في ذلك الدّرجة الحقيقية بالزّمرة). كما اتقن صباح فخري تقنية التّرعيدة أو الزّغردة وهي زخرفة فنيّة يشار إليها بهذا الرمز tr مكتوب فوق الدرجة الموسيقيّة وتعني أداء على نسق سريع لدرجة موسيقية طويلة المدّة نسبياً بالتناوب مع الدرجة المؤلّفة معها مسافة ثنائيّة صاعدة كبيرة كانت أم صغيرة. وأخيراً، اتقن صباح تقنية أداء خاص للسلّم اللوني الصاعد لمقام كبير أو صغير Gamme chromatique وهو سلّم جديد يتركّب من ثلاثة عشر درجة تحصر بينها اثني عشر نصف بعد، خمسة منها لونيّة والسبعة الباقية طبيعيّة.

هذه الطاقة الصوتية النادرة جعلت منه مطرباً استطاع أن يؤدّي كافّة القوالب الغنائيّة التراثية العربيّة من موشّحات وأدوار ومواويل وقصائد وأناشيد ومدائح دينيّة وأغاني الفلكلور الشعبي دون عناء، كما أنّ معرفته الجيّدة والكاملة في مجال الإيقاع تمكّنه من استخدام كلّ الإيقاعات الآليّة المصاحبة للّحن، البسيطة منها والمركّبة، حسب القوالب الغنائيّة العربيّة المختلفة، فنرى فنّه يتراوح بين القطع الدسمة التي تستوجب التركيز في الإنصات والقطع الخفيفة ذات الروح الراقصة الّتي تبعث على المرح.

تُعتبر تجربة صباح فخري تجربة رائدة، وبسبب عطاءاته الموسيقيّة المتميّزة التي وضعها في خدمة الحركة الموسيقيّة العربيّة، وإسهاماته الفنيّة خلال نصف قرن من الزمن وجهوده في المحافظة على التراث الغنائي العربي، فقد صار علماً من أعلام الموسيقى السوريّة وقطباً من أقطاب الموسيقى العربيّة الذين طبعوا بأعمالهم الحركة الفنيّة خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

لقد ساهم صباح فخري مساهمة فعليّة في مسيرة الحركة الفنيّة في الوطن العربي وفي إنماء ذوق فنّي رفيع المستوى لدى المستمع العربي من المحيط إلى الخليج من خلال ما قدّمه من قوالب غنائيّة تراثيّة حرص على حفظها وتوثيقها للأجيال القادمة لتبقى صورة لعصر ونموذجاَ يساعد الدارس لتقييم إنتاجات هذا الزمن.

 

المصادر:

١. نصار، شذا – صباح فخري سيرة وتراث – دار هاشيت أنطوان – لبنان – ٢٠١٩.
المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/44429718.

٢. بودن، إلياس – صباح فخري: لمحة عن حياته ومميّزاته الفنيّة – مجلة الموسيقى العربية – ٢٠١٣.
المصدر: https://www.arabmusicmagazine.com/item/517-2020-10-13-14-06-07.

٣. ألكسان، جان – صباح فخري وجان ألكسان – مجلة العربي – ١٩٩٤. المصدر: http://www.3rbi.info/Article.asp?ID=5030.

٤. صباح فخري… أيقونة حلب… رمز لسورية – الباحثون السوريون.
المصدر: https://www.syr-res.com/article/1924.html.