وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

فلسطين تدخل محكمة لاهاي من بابها العريض

Beit Lahiya - July 30, 2014 - a Palestinian boy cries while receiving treatment for injuries caused by an Israeli strike at a U.N. school in Jebaliya refugee camp, northern Gaza Strip. A fierce debate is raging within Israel's military over the extent to which soldiers should be held legally accountable for their actions during Gaza war(AP Photo/Khalil Hamra, File)
بيت لاهيا – صبي فلسطيني يبكي أثناء تلقي العلاج من اصابات ناجمة عن ضربة إسرائيلية في مدرسة تابعة للامم المتحدة في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة. نقاش حاد يدور داخل الجيش الاسرائيلي حول المساءلة القانونية عن أفعال جيش الاحتلال خلال حرب غزة.(AP Photo/Khalil Hamra, File)

بعد مخاضٍ فلسطيني بلغ من العمر ستة أعوام، تحولت فيه العدالة الجنائية الدولية إلى ورقة مقايضة سياسية ابتزازية، حسمت فلسطين أمرها وقلبت المعادلة المفروضة عليها بحكم الأمر الواقع، وكمّت أذنيها عن التسويف والوعيد الأميركي والإسرائيلي لتقرر في إجراء تاريخي طالَ انتظارُه رفع الحصانة عن أراضيها ومواطنيها لصالح اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، بهدف محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في إقليمها. واعتباراً من الأول من شهر نيسان/أبريل المقبل، يكون للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الاختصاص اللازم لفتح تحقيقات دولية في الجرائم المرتكبة في فلسطين منذ 13 حزيران/يونيو 2014. فما هي تداعيات انضمام فلسطين إلى محكمة لاهاي؟ ولماذا لزم الأمر ستة أعوام ليصير اختصاص هذه المحكمة على الجرائم المرتكبة في فلسطين ممكناً؟ ولماذا تمّ حصر المفعول الرجعي لهذا الاختصاص على الجرائم المرتكبة منذ 13 حزيران/يونيو 2014؟

في الثاني من كانون الثاني/يناير 2015، أودعت دولة فلسطين صكّ المصادقة على نظام روما الأساسي وفقاً للأصول لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لتصبح بذلك الدولة الـ123 التي تنضمّ إلى جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، والدولة العربية الخامسة التي ترفع الحصانة عن مواطنيها وأراضيها لاختصاص محكمة لاهاي بعد كل من الأردن (7/10/1998) وجيبوتي (7/10/1998) وجزر القمر (18/8/2006) وتونس (24/6/2013). وكان الرئيس الفلسطيني قد أودع قبل المصادقة بيوم واحد، في 1/1/2015، إعلاناً بقبول فلسطين باختصاص المحكمة الجنائية الدولية لدى سجلّ الأخيرة في لاهاي، محدّداً المفعول الرجعي للاختصاص بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2013، مما يمنح المحكمة الاختصاص لبدء تحقيقاتها في الجرائم الدولية التي ارتكبت في فلسطين منذ ذلك التاريخ.

ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى الضغوطات الأمريكية- الإسرائيلية التي مورست على السلطة الفلسطينية منذ إعلانها للمرة الأولى رغبتها المصادقة على النظام في 22 كانون الأول/ يونيو 2009 (أنظر التسلسل الزمني). كما واجهت السلطة الفلسطينية تهديدات أمريكية وأوروبية بفقدان المساعدات التي تتلقاها في حال اختيارها السعيّ للقبول باختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الجرائم المزعومة التي ارتكبتها اسرائيل ضد فلسطين شعباً وأرضاً. ودون أدنى شك، كانت تحركات السلطة الفلسطينية يشوبها الحذر فيما يتعلق بالمصادقة على نظام روما الأساسي بعد اعتماد القرار 19/67 في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، حيث تمت ترقية وضع فلسطين في الأمم المتحدة من “كيان مراقب” إلى “دولة مراقبة غير عضو” وباغلبية 138 دولة مقابل 9 ضد وامتناع 41 دولة عن التصويت وغياب خمس دول. وحسمت النتيجة السؤال المطروح فيما إذا كانت أو لم تكن فلسطين “دولة” بموجب القانون الدولي مما مكّن فلسطين الانضمام إلى مختلف المعاهدات الدولية، بما فيها نظام روما الأساسي. وكانت السلطة الفلسطينية قد تأخرت في التصديق على نظام روما الأساسي بسبب الضغوطات الدبلوماسية الغربية التي خلُصت باقتراح أوروبي في مجلس الأمن الدولي بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس بحلول عام 2017. ومع ذلك، أجهضّ فيتو أميركي مشروعَ القرار في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2014، إذ شّكل ذلك القشة التي قسمت ظهر البعير ودفع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ قرارٍ حاسم بالإنضمام إلى محكمة لاهاي.

وبحسب كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، جاء رد الفعل الفلسطيني نتيجةً للفيتو الأميركي الذي أجهض مشروعَ قرارٍ تم تداوله خلال جلسة لمجلس الأمن لإقامة دولة فلسطينية بحلول العام 2017 عاصمتها القدس. وقد تم رفض مشروع القرار المقترح خلال جلسة مجلس الأمن التي عُقدت في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2014. وفيما رحّبت لاهاي بانضمام فلسطين إلى ناديها، ردّت اسرائيل والبيت الأبيض فوراً بالتهديد والوعيد، حيث اعتبر الأخير، بلسان المتحدثة باسم الخارجية الأميركية جين بساكي في 7 كانون الثاني/ يناير 2015 أن “الولايات المتحدة لا تعتقد أن دولة فلسطين تعتبر دولة ذات سيادة، ولا تعترف بها بوصفها ذلك، ولا تعتقد أنها مؤهلة للانضمام إلى معاهدة روما، التي تأسست بموجبها المحكمة الجنائية الدولية”. ويا لغرابة الموقف الذي تبيح فيه دولة عظمى لنفسها التهديد بوقف مساعدات حيوية بقيمة 440 مليون دولار للشعب الفلسطيني، لمجرد أن هذا الشعب اختار وضع حد لجرائم الفظاعات الإسرائيلية الممنهجة ضده عبر سلوك طريق القضاء الدولي. والأغرب أن الولايات المتحدة، التي تمتنع منذ العام 1998 عن الانضمام إلى محكمة لاهاي، أسوةً بالصين وروسيا والهند من حَمَلة الفيتو، ذهبت إلى حدّ التشكيك في نوايا محكمة لاهاي إذا ما قبلت، وفق الأصول، بالمصادقة الفلسطينية على الاتفاقية المنشئة لها.

شروط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية

لغير الملمّين بنظام روما الأساسي، وهو الاتفاقية المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، نلفت بأن لاختصاص هذه المحكمة شروطاً مكانية وزمانية ونوعية محددة حصراً في نظامها الأساسي. والمحكمة الجنائية الدولية هي الوحيدة من نوعها في العالم، لجهة ديمومتها وعالميتها واستقلاليتها عن الأمم المتحدة، حيث أن جميع المحاكم الجنائية الدولية الأخرى هي مؤقتة ومختصة حصرياً بإقليم معيّن وخاضعة لإدارة ورقابة الأمم المتحدة التي أنشأتها.

وبموجب نظام روما الأساسي، لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها سوى على الجرائم التي تتوفّر فيها شروط الاختصاص الزماني والنوعي والمكاني/الشخصي. أما الاختصاص الزماني فيُقصد به أن تكون الجرائم مرتكبة بعد بدء نفاذ نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة أي بعد 1 تموز/يوليو 2002 (المادة 11). وأما الاختصاص النوعي فيُقصد به أن تكون الجرائم المطلوب التحقيق فيها هي من نوع الجرائم التي تدخل حصراً في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية (المادة 5)، وهي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم العدوان. وأما الاختصاص المكاني فيُقصد به أن تكون الأقاليم التي ارتكبت ضمنها الجرائم المدعى بها تابعة لدولة طرف صادقت على اتفاقية روما (المادة 12 – الفقرة 1)، أو لدولة أعلنت قبولها باختصاص المحكمة (المادة 12 – الفقرة 3)، أو أن تكون الجرائم قد أحيلت إلى المحكمة بقرار من مجلس الأمن (المادة 13 – ب). هذا ويمكن أن يتوفّر الاختصاص المكاني بصورة “شخصية” حين يكون أحد المشتبه في مسؤوليته عن الجرائم موضوع التحقيق يتبع لدولة يخضع إقليمها لاختصاص المحكمة (المادة 12 – الفقرة 2.ب).

لماذا 13 حزيران/يونيو 2014؟

Men evacuate a survivor of an Israeli airstrike that hit the Al Ghoul family building in Rafah, southern Gaza Strip, killing and wounding many members of the family. A fierce debate is raging within Israel's military over the extent to which soldiers should be held legally accountable for their actions during last year’s Gaza war. (AP Photo/Eyad Baba, File)
رجال يخلوا أحد الناجين من غارة جوية اسرائيلية ضربت مبنى سكني لآسرة الغول في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، مما أسفر عن مقتل وجرح العديد من أفراد الأسرة. نقاش حاد داخل الجيش الاسرائيلي حول المساءلة القانونية عن أفعال جيش الاحتلال خلال حرب غزة عام ٢٠١٤. (AP Photo/Eyad Baba, File)

وفقاً (للمادة 12 – الفقرة 3) من نظام روما الأساسي، من شأن أي دولة، سواء أكانت دولة طرف أو غير طرف في المحكمة الجنائية الدولية، أن تودع إعلاناً يحدّد الإطار الزمني لقبول اختصاص المحكمة على الجرائم المرتكبة ضمن أراضيها، على ألا يسبق ذلك تاريخ بدء نفاذ نظام روما الأساسي (1 تموز/يوليو 2002). أما إذا اختارت الدولة ألا تودع إعلاناً كهذا وأن تكتفي بالمصادقة على النظام الأساسي لروما، فإن اختصاص المحكمة يبدأ في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع صكّ المصادقة لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة (المادة 126).

أما لماذا اختارت السلطة الفلسطينية حصر المفعول الرجعي لاختصاص المحكمة بتاريخ تاريخ 13 حزيران/يونيو 2014، وذلك بموجب الإعلان الذي أودعته لدى سجلّ المحكمة في 1/1/2015، فعلم ذلك يعود إلى السلطة الفلسطينية، مع التذكير بأن الإعلان السابق بموجب (المادة 12- الفقرة 3) بتاريخ 22/1/2009 السابق كان قد وسّع المفعول الرجعي لاختصاص المحكمة ليبدأ منذ 1/7/2002، أي منذ تاريخ بدء نفاذ نظام روما الأساسي.

ماذا بعد المصادقة؟

بمصادقتها على نظام روما الأساسي، تكون فلسطين قد فازت بالعضوية في “جمعية الدول الأطراف” في نظام روما الأساسي. وصار لها بموجبه ممثل دائم في الجمعية يملك حق التصويت في الاجتماعات السنوية للجمعية العامة، والتي تراقب عمل المحكمة وتنظر وتبتّ في كل ما يتعلق بميزانيتها وإدارتها واقتراحات تعديل نظامها. كما صار لدولة فلسطين الحقّ في توجيه إحالات مباشرة إلى مكتب المدعي العام بخصوص جرائم تخضع لاختصاص المحكمة (المادة 13 – أ)، سواء أكانت مرتكبة ضمن أو خارج أراضيها. إلى ذلك، صار لدولة فلسطين الحق في ترشيح مواطنيها لشغل مناصب حيوية في المحكمة، بما فيها مناصب القضاة ورؤساء أجهزة مكتب الادعاء والدوائر القضائية وسجل المحكمة، وصار لمواطنيها امتياز التمثيل المتوازن لمواطني الدول الأطراف بين موظفي المحكمة.

وبانضمامها إلى نادي الدول الأطراف في محكمة لاهاي، تكون فلسطين قد حسمت جدلاً طويلاً استنفد صبر الفلسطينيين والمهتمين بالقضية الفلسطينية، حول ما إذا كان للمحكمة الجنائية الدولية أم لا اختصاص حيال الجرائم المرتكبة في فلسطين. وتعني المصادقة وإعلان الاختصاص أن مكتب الادعاء التابع للمحكمة الجنائية الدولية صار ملزماً بفتح تحقيقات في الجرائم المرتكبة في إقليم فلسطين منذ 13 حزيران/يونيو 2014 وفي أي جريمة مستقبلية ترتكب ضمنه وتخضع للاختصاص النوعي للمحكمة. ومن الجرائم التي تخضع لاختصاص المحكمة وتتوفر عناصرها في الانتهاكات اللاحقة بالفلسطينيين متى تمّ ارتكابها على نطاق واسع أو منهجي: جرائم القتل العمد، والتعذيب، وتدمير الممتلكات، والإبعاد أو النقل غير المشروعين، والحبس غير المشروع، واستهداف المدنيين والمواقع المدنية، واستهداف موظفي ومنشآت مهام حفظ السلام، وتهديد الجماعة بالقتل، والنهب، واستخدام الأسلحة الكيماوية وغيرها من الأسلحة الممنوعة دولياً، والاعتداء على الكرامة والمعاملة المهينة، وتجويع المدنيين، والإبادة، والتعذيب الجنسي، والاغتصاب، والاختفاء القسري، والفصل العنصري، وغير ذلك من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية.

وسيتبع فتحَ تحقيقٍ رسمي في جرائم فلسطين صدورُ مذكرات حضور أو مذكرات توقيف (متى تعذر الحضور الطوعي) بحق المسؤولين الأهم عن الجرائم المرتكبة في أراضي فلسطين، أياً كانت مناصبهم وجنسياتهم ودرجة حصانتهم. إذ لا يعترف نظام روما الأساسي بالحصانات السياسية والدبلوماسية أياً بلغت مكانتها، وسبق لمكتب الادعاء أن أصدر أوامر قبض (مذكرات توقيف) بحق رؤساء ووزراء سابقين وحاليين، جميعها في دول تشهد نزاعات مسلحة مزمنة في القارة الأفريقية. وستكون فلسطين، إذا ما تمّ فتح تحقيق رسمي في الجرائم المرتكبة ضمن إقليمها، الدولة الأولى غير الأفريقية التي تخضع لتحقيقات مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية.

ختاماً، لا شك أن الخطوة الفلسطينية هذه ستنقل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من الميدان إلى منابر المحاكم. ويبقى أن فلسطين دخلت المحكمة اليوم من بابها العريض فصارت قادرة على متابعة عمل أجهزتها من داخل أروقتها، وعبر ممثلها الرسمي في جمعية الدول الأطراف في نظامها الأساسي، وليس في إطار زيارات موسمية مأذون بها. واستناداً إلى رأي مصدر في مكتب الادعاء التابع للمحكمة الجنائية الدولية، فإن المرجح فتح تحقيق رسمي خلال العام 2015 نظراً إلى الفترة المديدة التي اقتضتها التحليلات الأو