وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حقوق الإنسان في تركيا: قضية مفقودة؟

Turkey-human rights-turkish protestors
شرطة مكافحة الشغب تعتقل متظاهرين خلال احتجاج على اعتقال المعلم المضرب عن الطعام سميح أوزاكا، أنقرة، تركيا، 24 أغسطس 2017. photo ADEM ALTAN / AFP

منذ محاولة الإنقلاب في تركيا في يوليو 2016، سجلت حالة حقوق الإنسان مستوياتٍ متدنية جديدة. فبينما يقبع عشرات الآلاف خلف القضبان، حولت الحكومة أنظارها نحو أهداف بمستوياتٍ أعلى، مما أسفر عن استئصال أصوات انتقادية وقادة من المعارضة فيما يبدو وكأنه جهود موحدة لترويع النشاط المعارض في البلاد.

وبعد رفع الحصانة البرلمانية، في خطوةٍ يشتبه الكثيرون أنها تهدف إلى الإطاحة بحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد من البرلمان، تم إيداع العديد من أعضاء البرلمان في السجون. بيد أن أول من صدر بحقه حكما كان برلمانياً من حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهورى. ففي يونيو 2017، حُكم على إينيس بيربيروغلو بالسجن لمدة 25 عاماً لتسريبه أدلةً إلى الصحفيين عن تواطؤ الحكومة مع الإسلاميين المتطرفين في سوريا. أثار هذا الغضب في صفوف حزب الشعب الجمهوري، حيث أمر زعيم الحزب كمال كيليتشدار أوغلو، بالخروج بـ”مسيرة العدالة” قاطعين مسافة 450 كيلومتر، من العاصمة أنقرة إلى اسطنبول، حيث سجن بيربيروغلو. فقد تحدى كيليتشدار أوغلو، برفقة الآلاف من رفقائه في المسيرة على طول الطريق، شمس الصيف الحارقة بدعوةٍ غير سياسية ظاهرياً من أجل العدالة، والتي جذبت اهتماماً أكبر بكثير من الاحتجاجات السابقة ضد الحكومة.

انضم حزب الشعوب الديمقراطي إلى التجمع النهائي لمسيرة العدالة تحت شعار “العدالة للجميع،” إلا أنهم أيضاً عانوا من حملة فرض النظام. فقد حكم على أحد أعضاء البرلمان من حزب الشعوب الديمقراطي، الكردي بالدرجة الأولى، بالسجن لـ90 شهراً بتهمة “انتمائه إلى منظمة إرهابية مسلحة” في يوليو 2017، في أحدث هجومٍ يتعرض له رابع أكبر حزب سياسي في تركيا. ولا يزال زعيم حزب الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين دميرطاش، يقبع في السجن إلى جانب عشرة من السياسيين الآخرين في حزب الشعوب الديمقراطي باتهامات مماثلة. وتحاجج الدولة التركية بانتماء كبار الشخصيات داخل حزب الشعوب الديمقراطي إلى حزب العمال الكردستاني، وهو جماعة كردية مسلحة محظورة تخوض حرباً مع أنقرة منذ أكثر من 40 عاماً. وفي مقابلة نادرة من السجن، قال دميرطاش، وهو محامٍ سابق في مجال حقوق الإنسان، أنه في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، من المستحيل إجراء محاكمة عادلة في تركيا.

وخلال العام الذي تلى محاولة الانقلاب، تم اعتقال أكثر من 47 ألف شخص، معظمهم في الأسابيع التي تلت الانقلاب الفاشل. وفي أبريل 2017، فصل نحو 9 آلاف من أفراد الشرطة، وألقي القبض على ألف آخرين، حيث تواصلت حملة القمع التي تشنها الدولة ضد المشتبه في ارتباطهم بتنظيم رجل الدين فتح الله غولن. وبالإضافة إلى ذلك، ألقي القبض على أكثر من ألف من الإسلاميين المزعومين في الشهر نفسه بتهمة التسلل إلى قوة الشرطة. ولا تزال جماعات حقوق الإنسان تحتج على هذه الاعتقالات الجماعية.

ومع ذلك، لم تقتصر حملة أردوغان على الأتراك في تركيا. فقد استخدمت الحكومة التركية الاعتقالات والسجن لاستهداف الأجانب، حيث اعتقلت المراسل التركي الألماني دنيز يوسيل بتهمة الارهاب في فبراير 2017، مما أثار احتجاجاتٍ من قبل الحكومة الألمانية واتهاماتٍ بقمع وسائل الاعلام. وفي الأول من سبتمبر2017، يكون يوسيل قد قضى 200 يوماً خلف القضبان. وفي أغسطس 2017، نشرت الحكومة أوامر باعتقال 35 صحفياً آخرين، مؤكدةً المخاوف من أن الضغط الدولي على تركيا لم يسفر عنه نتائج تُذكر للحد من الهجمات على حرية الصحافة.

كما تم اعتقال لوب بيرو، وهو شاب فرنسي يذكر حسابه على تويتر أنه طالب صحافة، أثناء محاولته الدخول إلى تركيا من العراق. فقد عثر أثناء البحث على جهازه الحاسوب على صورٍ له مع مسلحين أكراد، فضلاً عن وثائق متعلقة بحزب العمال الكردستاني. ووصف المراقبون الدوليون هذه بالمحاولة الأخيرة لأنقرة لسحق حرية الصحافة فى البلاد، وللمرة الثانية خلال عام تحاول الحكومة الفرنسية ضمان الافراج عن مواطنٍ فرنسي من سجن تركي. كما اعتقل سائح بريطاني هذا الصيف في جنوب تركيا لقتاله مع الميليشيات الكردية في سوريا. وبينما كان يقضي عطلته على ما يبدو مع شريكه ووالدة زوجته، تم اعتقاله، مما يُشير إلى مراقبة السلطات لأسماء الغربيين الذين يدعمون الجماعات الكردية عبر الحدود. وعلى الرغم من علاقة تركيا مع مؤسسي الاتحاد الأوروبي، استفادت أنقرة من أوامر الاعتقال التي تشمل أوروبا لملاحقة منتقدي الحكومة منذ فترةٍ طويلة.

وتماماً كما هو حال الهجمات على الصحفيين، وجد نشطاء حقوق الإنسان أنفسهم في مرمى نيران الحكومة. ففي أوائل يوليو2017، احتجز ستة من نشطاء منظمة العفو الدولية في اسطنبول أثناء ورشة عمل روتينية حول الأمن الرقمي، إذ كان من بينهم المدير المحلي للمنظمة وكذلك مواطن ألماني وسويدي. ونظراً للأعمال المتراكمة في النظام القضائي، الناجمة جزئياً عن عمليات التطهير داخل السلطة القضائية منذ محاولة الانقلاب التي وقعت في 2016، يمكن أن تواجه الجماعة السجن لما يصل إلى عامين في انتظار رفع قضيتهم للمحاكمة. وكحال غيرهم من المعارضين للتوجه الحالي للحكومة، وجه المدعي العام للدولة اتهامات إلى ناشطي حقوق الإنسان “بالانتماء إلى منظمة إرهابية.”

واليوم فحسب بات جلياً مدى قرب السلك القضائي ومكاتب الإدعاء العام من القصر الرئاسي. فقد ادعى حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، بأن قرارات المحاكم الصادرة ضد السياسيين هي ببساطة محاولة لتخويف أصوات المعارضة وإجبارها على الخضوع. وبعد إقالة حوالي نصف القضاة والمدعين العامين الأتراك في أعقاب محاولة الإنقلاب، ومقاضاة ما يقارب الألف منهم، أرسلت الحكومة رسالة قوية إلى ما تبقى من محامي الدولة مفادها: امتثل أو، في أفضل الأحوال، ستفقد وظيفتك. وفي الوقت نفسه، يُبطن الرئيس جميع هجماته ضد أعدائه بكونها رهن سيادة القانون. ومع ذلك، اتهم النقاد في الداخل والخارج، بمن فيهم وزير الخارجية الألماني وأحد أبرز المرشحين لمنصب المستشار، أردوغان بتعرية سيادة القانون.

بل إن تجاوزات المدعين العامين الحكوميين امتدت إلى انتهاك القانون الدولي. ففي يونيو2017، حكمت محكمة تركية على القاضي أيدين سيفا أكاي بالسجن سبع سنوات. وبصفته قاضياً في آلية المحاكم الجنائية الدولية في لاهاي، يُمنح أكاي حصانة دبلوماسية بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، يواجه أكاي الذي شملته عملية تطهير المشتبه بانتمائهم إلى منظمة فتح الله غولن في سبتمبر 2016، اليوم، عقوبةً بالسجن لفتراتٍ طويلة في حين تم تعطيل عمله بشأن الإبادة الجماعية الرواندية.

كما انتقد تقريرٌ للاتحاد الأوروبي، على نحوٍ صريح، حالة الطوارىء التي طال أمدها في تركيا، بما في ذلك الاستخدام واسع النطاق للأوامر التنفيذية الصادرة عن الرئاسة فيما وصفه بـ”تجريم وملاحقة المدافعين عن حقوق الإنسان.” ومع ذلك، فإنّ تأثير اعتقال الآلاف من الأتراك ألقى بظلاله أيضاً على المحيطين بالسجناء. فبموجب القانون التركي، تجمد مذكرات الاعتقال أيضاً أصول المشتبه به، مما يترك أسر المحتجزين غير قادرين على إعالة أنفسهم.

فيما كانت الآثار الأخرى أكثر سخافة، إن لم تكن أقل خطورة. ففي أواخر أبريل 2017، حجبت الحكومة التركية الوصول إلى موقع موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت، بعد أن رفض الموقع إزالة المراجع الخطيرة بعلاقات الحكومة بالمسلحين السوريين والإرهابيين الذين ترعاهم الدولة. ويعتبر موقع ويكيبيديا واحداً من الـ127 ألف موقع إلكتروني محظور في تركيا اليوم. وفي حين أن الرقابة الحكومية نمت باطراد منذ عام 2015، وكما هو حال جميع مجالات حقوق الإنسان في تركيا، تدهور الوضع بشكلٍ ملحوظ منذ محاولة الإنقلاب في 2016.

ومع تصدع محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وكون منظمات حقوق الإنسان متأكدة من الأمر تقريباً، وبينما تطل مناقشات عودة عقوبة الإعدام برأسها، تأخذ حالة حقوق الإنسان في تركيا منعطفاً فاقداً للأمل. وفي حين لا تبارح قوانين الطوارىء مكانها، فضلاً عن سعي أردوغان تولي فرض سلطة مركزية جديدة في عام 2019، فمن الصعب رؤية أي تغييرٍ يلوح في الأفق.