وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تراجع الصحافة في مصر والعالم العربي

الصحافة في مصر
صورة تم التقاطها يوم ٣٠ نوفمبر ٢٠١١ لمصريين وهم يتسامرون حول الجريدة في إحدى المقاهي الموجودة بمنطقة زيتون في القاهرة. المصدر: ODD ANDERSEN / AFP.

حكيم مرزوقي

في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، نشرت الصحافة المصرية ملفّات الفساد وهاجمت الملك فاروق في شخصه. بل إنّ بعض الأقلام قد ذهبت أبعد من ذلك فتسلّلت إلى غرف نومه، وفتحت أدراج خزائنه الخاصة.

حدث كلّ هذا أمام أعين الملك الذي ألقى بـ«الجورنال» جانباً، وسأل رئيس حكومته النحّاس باشا آنذاك عمّا يمكن فعله إزاء هذا التطاول. فأجابه هذا بكلّ وضوح وبرودة وثقة: تشتكيهم إلى القضاء يا جلالة الملك.. ليس أمامك إلاّ القضاء.

نعم، حدث هذا في بلاد عربيّة (لا السويد ولا الدانمارك ولا هولندا) وفي أربعينيات القرن الماضي، حين كانت مجتمعاتنا تتلمّس طريق الدولة الحديثة من بين أوحال الأميّة والفقر. لم نسمع -على حدّ علمي- بتكرار مثل هذه الحادثة في عصرنا الراهن. وإن حدثت فمن يخبّر عنها، ومن له المصلحة في ذلك؟

قرأت هذا الخبر على مسمع صديقي من صحيفة قديمة، مهترئة، صفراء اللّون، متواضعة الطباعة، لكنها تنضح طزاجة ونصاعة وحرفيّة وحياديّة، فقال معلّقاً: «يلزمنا اليوم أكثر من ستّة عقود من المشي إلى الخلف كي نصل إلى هذا السلوك، فأجبته.. عفواً لم أجبه.

ولكيلا نظلم حكومات الاستقلال ونضعها جميعها في سلّة واحدة، فإنّ بعضها اجتهد كثيراً ولم يصب إلاّ قليلاً بسبب معوّقات الداخل الذي يشدّ إلى الخلف والخارج الذي احتكر القماش والمقصّ وآلة الخياطة وفرض المقاس الذي يريده على مزاجه. لكنّ المغفّل في عصرنا هو من يعتقد أنّ الحكومات العربية تجهل أبسط مبادئ الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائيّة) إضافة إلى استقلالية السلطة الرابعة وهي الصحافة والإعلام. إنهم يدركون خطورة هذا المفهوم الذي يهدّد امتيازاتهم، لذلك يحاولون الجمع بين السلطات كخصم وحكم في آن واحد.. ويضيفون إليها الصحافة التي يسعون لشراء الكثير من أقلامها وشاشاتها، ثمّ يغلقون المربّع، ما عدا ما يحوم حوله من هوامش تنفيسيّة وديكورات تجميليّة، على مبدأ “أن تفجع الذئب أفضل من أن تقتله” أو “لا يجوع الراعي ولا يفنى الغنم”، في أحسن الحالات.

أمّا إذا انتصرت العصا على الجزرة، فإنّك سترى الأفواه مكمّمة والسجون مكتظّة والجرائد والشاشات والإذاعات نسخة واحدة فكأنّما الأقلام عندئذ أقلام أحمر الشفاه.

قال ألبير كامو: «الصحفيّ مؤرّخ اللحظة.. والتاريخ تصنعه اللحظات».

العلاقة بين الصحافة، التي سمّيت مجازاً بالسلطة الرابعة، وبين بقية السلطات هي البوصلة، مصارحة تبلغ الوقاحة أحياناً، وتعنّت يبلغ المكابرة وحالة الدفاع عن الخطأ أحيانا أخرى.

قل لي هل تقرأ؟ ماذا تقرأ؟ كيف تقرأ ومن يكتب لك؛ أقل لك من أنت.

الإعلام المستقلّ يجعلك غير مغفّل، بل مشاركاً في صنع القرار، لأنّ “الخبر مقدّس والرأي حرّ” كما يقول جهابذة الصحافة المتطوّرة و«باروناتها» الأشاوس من الذين رفعوا حكومات وأسقطوا حكومات بأقلامهم الصريحة في البلدان المتطوّرة.

الصحافة همزة وصل بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات المتحضّرة. وهي همزة قطع لدى شعوبنا التي اعتادت من أدمن الكذب عليها فصار حالها مثل حال الراعي الكذّاب في القصّة المعروفة، وباتت لا تثق حتى بالنشرة الجويّة. رحمك الله أيها الوزير الذي نصح مليكه بتقديم دعوى قضائية ضد صحافة نزيهة في مجتمع كان يثق بالقضاء.

كلّما سافرت إلى بلد ديمقراطي، بادرت فور وصولي باقتناء جريدة.. وكلّما حللت بلداً من العالم الثالث، هرولت لسماع الإشاعة، أو ما يعرف بالصحافة البديلة. لكنّ من البلدان من تموّل الصحافة ولا تقرؤها ولا حتى تنتظر منها مدحاً على مبدأ “أعطيك مالاً لا لتمدحني بل كيلا تشتمني”.

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.