وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

في تركيا، الضحايا والمنتصرون يستبدلون أماكنهم، مما يُثير المخاوف بشأن حالة حقوق الإنسان في البلاد

الشرطة في أنقرة تلقي القبض على قائد سلاح الجو التركي السابق، الجنرال اكين اوزتورك، في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشل، في أنقرة، تركيا، 17 يوليو 2016.

“حقوق الإنسان في تركيا في خطر،” هذا ما قاله جون دالهاوزن، مدير برنامج أوروبا وآسيا الوسطى في منظمة العفو الدولية، بعد أيامٍ فقط من محاولةٍ الإنقلاب الفاشلة التي شهدتها البلاد في 15 يوليو 2016. وأضاف “تُنذر الأعداد الكبيرة من الاعتقالات والإيقافات بالخطر. فقد أطلقت المحاولة الانقلابية العنان لعنفٍ مروّع، وينبغي تقديم أولئك المسؤولين عن عمليات القتل غير القانونية وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان إلى العدالة، إلا أن تضييق الخناق على المعارضة والتهديد بإعادة تفعيل عقوبة الإعدام، ليس من العدالة في شيء.”

وفي الأسابيع التالية، أثارت المنظمة الجدل بعد إعلانها جمع “أدلة ذات مصداقية بتعرض المعتقلين في تركيا للضرب والتعذيب، بما في ذلك الاغتصاب، في مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية في البلاد.”

وفي حال صحت هذه الإعتداءات، سيكون هذا مؤشراً على مدى انحراف البلاد التي كانت يوماً ما نموذجاً لـ”الديمقراطية الإسلامية،” عن مسارها. وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد نفى بشدة هذه المزاعم، حيث صرّح في خطابٍ مؤخراً أن “تركيا لا تتساهل قط تجاه ممارسة التعذيب،” مشيراً إلى أنّ بعض المعتقلين تعرضوا للضرب أثناء اشتباكهم مع المواطنين الموالين للحكومة الذين خرجوا إلى الشارع آنذاك. وهاجمه قائلاً “إذا كان لديك أي احترامٍ للذات، تعال إلى تركيا وقم بزيارة برلماننا، وتحدث إلى الجرحى.” وأضاف “وسترى بأم عينك من فعل ماذا بمن.”

ومع ذلك، تُصر منظمة العفو الدولية على إدعاءاتها. ووفقاً لتصريحات الأمين العام سليل شيتي “تستند هذه النتائج على مقابلاتٍ مفصلة مع محامين، وأطباء، وأفراد عائلات المحتجزين وشاهد عيان على التعذيب في أحد أماكن الاحتجاز،” مؤكداً على ضرورة السماح لمراقبين مستقلين بزيارة جميع المعتقلين في الأماكن التي يحتجزون فيها.

وبالفعل، في السابع من سبتمبر، زار وفدٌ من اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (CPT)  ثلاثة أماكن احتجازٍ في تركيا واجتمع مع ممثلين حكوميين رفيعي المستوى، ومسؤولي إنفاذ القانون ومنظماتٍ غير حكومية. وسيكون تقرير زيارة اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، الذي من المقرر أن يصدر في نوفمبر المقبل، خطوة غاية في الأهمية نحو تقييم مدى صحة هذه الإدعاءات.

إلا أن مخاوف أردوغان في الداخل تتجاوز التعذيب وسوء المعاملة. فبعد يومٍ واحدٍ من الانقلاب، وصفت الاستاذة عائشة كاديوغلو من جامعة سابانجي، وبشكلٍ إستفزازي، محاولة الإنقلاب بـ”بالحريق الذي شب في مجلس النواب الألماني (الرايخستاج).” وفي مقالٍ نُشر لها على المنصة الإعلامية المستقلة،
openDemocracy، كتبت كاديوغلو: “نحن نشهد توطيد شكلٍ جديد من أشكال النظام الاستبدادي بخطٍ شعبوي. أمرٌ واحدٌ مؤكد: لن يكون هناك مجالٌ بعد اليوم في تركيا للناس الذين ينصتون ويقرأون ويحللون ويفكرون بشكلٍ نقدي. فمحاولة الإنقلاب العسكري في الـ15 من يوليو 2016 كانت بمثابة المسمار الأخير في النعش.”

وكتب أندرو غاردنر، الخبير في منظمة العفو الدولية “تعود البلاد تدريجياً إلى طبيعتها- إلا أنّ الوضع الطبيعي الجديد يحدّ من الأكسجين للمجتمع المدني.” وأضاف “إذ بات مرئياً بالفعل عدم وضوح التمييز بين اللوم على الإنقلاب وكون المرء من المتعاطفين مع [الداعية الإسلامي فتح الله] غولن. إذ يمكن أن تتسع دائرة تعريف السلطات لـ”الخائن” أبعد من ذلك لتشمل منتقديها من العلمانيين، واليساريين والأكراد.” وللوهلة الأولى، نجد أنّ لهذه المخاوف ما يبررها. ففي غضون أيامٍ قليلة على الإنقلاب، أعلنت تركيا حالة الطوارىء، ومنحت الحكومة سُلطة الحكم بموجب المرسوم، والسماح لقوات الأمن الحكومية باحتجاز المعتقلين لمدة تصل إلى 30 يوماً دون توجيه اتهام.

كما أطلقت الحكومة أيضاً أكبر تطهير سياسي في تاريخ تركيا الحديث، حيث اعتقل ما لا يقل عن 35 ألف شخص وتسريح 75 ألف من الموظفين الحكوميين، بما في ذلك ما يقرب من 3000 من القضاة والمدعين العامين الذين يُشتبه بدعمهم لغولن. فرجل الدين المقيم في بنسلفانيا، فتح الله غولن، هو زعيم حركة الخدمة، والتي يُعتقد أن لها ملايين الأتباع في جميع أنحاء العالم ومليارات الدولارات من الأصول، والذي كان يوماً ما أحد أقوى حلفاء الرئيس أردوغان، بينما يُتهم اليوم بتدبيرمحاولة الإطاحة به.

ومع استمرار الاعتقالات والإقالات، هناك مخاوف متزايدة في أنّ نطاق عملية التطهير التالية للانقلاب ستتسع لما هو أبعد من المشتبه بدعمهم لغولن، ولتشمل جميع الخصوم السياسيين.
فعلى سبيل المثال، تمت إقالة 44 موقعاً على التماس “أكاديميون من أجل السلام،” وهي عريضة مثيرة للجدل، وقّع عليها أكثر من 2,200 أكاديمي ينتقدون فيها الهجوم العسكري الجاري في جنوب شرق تركيا ضد حزب العمال الكردستاني الإرهابي (بي كا كا)، داعين إلى وقف الأعمال العدائية. وكان الرئيس أردوغان قد انتقد العريضة بشدة، واصفاً إياها “بالمنحازة” و”المغرضة” و”الدعاية الإرهابية،” وحث القضاء على اتخاذ إجراءاتٍ ضد مثل هذه “الخيانة.” وفي الأسابيع التالية، حوكم العديد من الموقعين على العريضة أو أقيلوا من وظائفهم.

وبالمثل، بقرارٍ صدر في أوائل سبتمبر2016 ، تمت إقالة أكثر من 12 ألف مدرس، جميعهم من أعضاء نقابة المعلمين اليسارية (Egitim-Sen)، للاشتباه بارتباطهم بعلاقاتٍ مع حزب العمال الكردستاني. وبعد أربعة أيامٍ من ذلك، صدر مرسومٌ آخر تم بموجبه طرد 28 من رؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطياً، معظمهم من حزب الشعب الديمقراطي المؤيد للاكراد، وحل محلهم أمناء عينتهم الحكومة.

وبما أن الحكومة تقوم بتوسيع شبكتها أكثر من أي وقتٍ مضى، تزداد أحزاب المعارضة صخباً بانتقاداتها. ففي بيانٍ شديد اللهجة، انتقد حزب الشعب الديمقراطي الحكومة لاتخاذها إجراءاتٍ من شأنها أن “تجعل من القضية الكردية غير قابلة للحل.”

كما انتقد زعيم المعارضة الرئيسي، كمال قليجدار أوغلو، الذي برز بوصفه حليفاً غير متوقع للرئيس أردوغان في أعقاب محاولة الانقلاب والذي شارك في المسيرة المؤيدة للديمقراطية التي حضرها 3 ملايين شخص في السابع من أغسطس 2016، الحكومة على “تماديها” في سياسة إصدار المراسيم، معلناً عزمهم التوجه إلى المحاكم لإبطال المراسيم التي يعتبرونها غير دستورية.

وقالت إيما سنكلير ويب، مدير هيومن رايتس ووتش في تركيا لمجلة ذا أتلانتيك “إن لم يتم الأخذ بالأدلة، وإن لم يكن هناك أي معايير، وإذا ما وضع الناس قوائم بمن يظنونهم مذنبين، لمَ تجرى المحاكمات؟” وأضافت “تصبح هذه صورة زائفة عن العدالة، تصبح عملية فارغة.”

ومن المثير للاهتمام أن حتى الرئيس أردوغان يشكو من خروج عمليات التطهير عن نطاق السيطرة. وقد ذكر أردوغان في آخر مقابلةٍ أجريت معه قائلاً “يختلط الصالح بالطالح.” كما كرر أردوغان ذات الأمر على مسمعٍ من المحافظين: “لا أريدكم التنافس فيما بينكم على من يُقيل عدداً أكبر من الموظفين العامين،” وشدد “أريدكم أن تكونوا عادلين.”

“الرسول يضر بالرسالة،” كما يقول الخبير في السياسة التركية، سليم سازاك، من Century Foundation، وهي مؤسسة فكرية مقرها نيويورك في مقابلةٍ له مع Fanack. ويُضيف “تعاني مؤسسات حقوق الإنسان، وبخاصة تلك رفيعة المستوى مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس وواتش، من أزمة مصداقية.”

ويعزي سازاك هذه الأزمة إلى الموقف المتناقض الذي اتخذته مثل هذه المنظمات أثناء محاكمات مؤامرة الانقلاب المثيرة للجدل والتي عرفت بمحاكمات أرغينيكون والمطرقة، حيث تمت محاكمة تحالف من كبار ضباط الجيش وسماسرة السلطة العلمانية بتهمة التآمر للإطاحة بالحكومة المنتخبة في البلاد، فضلاً عن تطهير الآلاف من الضباط والجنرالات العلمانيين من الجيش.

ومنذ البداية، انتقدت هذه القضايا على نطاقٍ واسع من قبل الخبراء القانونيين والشرعيين لتلوثها بالأدلة المزيفة، والشهادات الكاذبة والأحكام المزورة. بالنسبة للعلمانيين في تركيا، تمثل مخطط الإسلاميين الكبير بالسيطرة على آخر حصون النظام العلماني: الجيش.

وباستثناء عدد قليل من الأصوات المنفردة، مثل المحلل المخضرم جاريث جنكينز، والأستاذ في جامعة برنستون داني رودريك، الذي كان والد زوجته جنرالاً سابقاً في الجيش وأحد المتهمين الرئيسيين في قضية أرغينيكون، أيّد معظم المراقبين الأجانب، دون نقدٍ، التحقيقات باعتبارها خطوةً ضرورية لكسر قبضة الجيش على السياسة المدنية.

وفي افتتاحية لصحيفة نيويورك تايمز عام 2011، انتقدت إيما سنكلير ويب ، المحاكمات ليس لتماديها، بل لعدم مضيها قُدماً بما فيه الكفاية لـ”التحقيق في أدلة تورط بعض المتهمين الرئيسيين، بشكلٍ أكبر، بتاريخٍ طويل من النشاط غير القانوني والإجرامي.” وكانت سنكلير ويب قد أشادت بالقضية باعتبارها “علامة فارقة في السيطرة المدنية على الجيش،” وذكرت بشكلٍ عرضيّ فحسب أن “المخاوف بشأن عدالة المحاكمات،” تتراوح ما بين “الأدلة الواهية،” و”ملاحقة الصحفيين باعتبارهم مدبرين للانقلاب،” وصولاً إلى “امتهان حماية الشهود،” و”الاحتجاز السابق للمحاكمات لفترات طويلة.”

في المقابل، كتب جاريث جنكينز في وقتٍ مبكرٍ من عام 2011 أن المحاكمات كانت “مليئة بالسخافات والتناقضات،” وخلص إلى أنّ الأدلة “لم تكن معيبة إلى حدٍ كبيرٍ فحسب، بل على الأرجح أنها ملفقة.” وكتب جنكينز، بإدراكٍ مُسبقٍ مدهشٍ منه، أن “السمة الوحيدة التي يبدو أن جميع المتهمين يتشاركونها هي معارضتهم لـ[حزب العدالة والتنمية]؛والداعية الاسلامي فتح الله غولن، الحليف السياسي الأكثر أهمية ]لـحزب العدالة والتنمية].” إلا أن داني رودريك كان أقل حرصاً بانتقاده، واصفاً المحاكمات بـ”الكذب الواضح،” و”إجهاض العدالة.”

ويقول سازاك “إن حقيقة كون غولن يعيش في الولايات المتحدة- وأن واشنطن غير متحمسة لإعادته- مشكلة بالفعل.” ويُضيف “وكأن ذلك لم يكن سيئاً بما فيه الكفاية، بل أن هناك أيضاً سلسلة من الأخطاء العفوية لمراوغات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بتصريحات مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل، لنائب رئيس المخابرات المركزية الأمريكية السابق غراهام فولر، دفاعاً عن غولن.”

ويواصل سازاك: “معظم أنصار أردوغان لم يكن لديهم مشكلة كبيرة بما يحصل في الوقت الراهن أو يهتمون كثيراً بما يعتقده الغرب. بل العلمانيون والمثقفون وسكان المناطق الحضرية من يهتمون بذلك. يتذكرون بمرارة كيف اعتاد الغرب إغداق الثناء على كلٍ من أردوغان وغولن، بينما كانوا يحذرون من كليهما. واليوم، يرون في منظمة العفو الدولية أو نيويورك تايمز، التي نشرت للتو افتتاحية محررة صحيفة الزمان، دون أن تذكر ولو لمرةٍ واحدة حقيقة أنّ صحيفتها مملوكة بشكلٍ مباشر من قِبل حركة غولن، مهاجمةً بشكلٍ غير مفاجىء كيفية تعامل أردوغان مع أنصار حركة غولن.”

ووفقاً لسازاك، لن يجد الغرب دعماً يُذكر لقضيته في تركيا دون اعتبارٍ صادق لتاريخه المشحون مع أردوغان وغولن. “هناك العديد من الأشخاص الذين لا يوافقون على بعض الأمور التي تحدث، أياً كانت حجتهم أو غرضهم،” كما يقول. “وفي الوقت نفسه، ينظرون إلى هذا الحديث باعتباره شكلاً من أشكال لفت الانتباه السياسي، خاصة أنهم لا يستطيعون التصالح مع شفقة الغرب الانتقائية.”

user placeholder
written by
Ahmad Kamal
المزيد Ahmad Kamal articles