وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الهجوم الأمريكي على المحكمة الجنائية الدولية قد يتسبب بكارثةٍ للفلسطينيين

عند فتح تحقيقٍ وملاحقة كبار المسؤولين الإسرائيليين، ستقوم المحكمة الجنائية الدولية بإرسال رسالةٍ قوية مفادها أن الفلسطينيين، مثلهم مثل جميع الشعوب الأخرى، يستحقون العدالة، وأن الإنصاف ليس هبة بل حقٌ يجب الوفاء به دون قيدٍ أو شرط.

Specials- Gaza war 2014
فتية فلسطينيون من آل بكر، الذين نجوا من قصفٍ جوي إسرائيلي على شاطىء غزة مما أسفر عن مقتل أربعة من أقاربهم خلال العدوان الاسرائيلي على غزة في عام 2014 الذي استمر 50 يوماً، يزورون قبور أحبائهم بعد أن انضمت السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية بهدف محاولة محاكمة القادة الإسرائيليين لارتكابهم جرائم حرب في عام 2014. Photo AFP

شنت الولايات المتحدة الأمريكية هجوماً واسع النطاق على المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمةٌ دولية في لاهاي، هولندا. ففي العاشر من سبتمبر 2018، ألقى جون بولتون خطابه الرئيسي الأول منذ تعيينه مستشاراً للأمن القومي للولايات المتحدة قبل بضعة أشهر. وفي الخطاب، وصف بولتون المحكمة الجنائية الدولية بأنها “من أسوأ الكوابيس في هذا العالم: مبنىً بمكاتب أنيقة في بلدٍ بعيد” – أي هولندا – “تحدد ما إذا كان المواطنون الأمريكيون مذنبون أم أبرياء”.

وبشكلٍ متوقع، لم يخص هجوم بولتون العنيف الأمريكيين وحدهم. ففي حال مواصلة التحقيقات الجنائية الخاصة بإسرائيل، هدد بولتون بفرض عقوباتٍ ضد المحكمة الجنائية الدولية. ويعدّ هذا حدثاً كبيراً في تطور الصراع الاسرائيلي الفلسطيني. ولعقودٍ من الزمان، كان ينظر إلى الولايات المتحدة على نطاقٍ واسع، كوسيطٍ نزيه، سواء كانت قادرةً على الوفاء بذلك أم لا، بين الطرفين المتناحرين. ومع تحركاتها الأخيرة، مثل الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وإيقاف تمويل وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، تخلت إدارة ترمب عن أي إدعاءٍ يعزز هذه السمعة. بدلاً من ذلك، قدمت الولايات المتحدة نفسها، دون خجل، بأنها مؤيدة لإسرائيل.

من المحتمل أن يكون لهذا التطور عواقب وخيمة على الإستراتيجية طويلة الأمد للسلطة الوطنية الفلسطينية. فبعد انتفاضتين عنيفتين، قرر الفلسطينيون تجربة حظهم مع المؤسسات الدولية. فقد أصبحت فلسطين دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة – على عكس كلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل –وعضواً كامل العضوية في المحكمة الجنائية الدولية. آنذاك، تمثلت الاستراتيجية في إقناع المحكمة بأن إسرائيل مذنبة بارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومع التهديدات الأخيرة للولايات المتحدة، فإن هذا الأسلوب السلمي لإلتماس العدالة ستكون نتيجته، على الأرجح، غير مواتية للفلسطينيين، تماماً مثل رمي الحجارة والهجمات الانتحارية.

بالطبع، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تقرر، بمفردها، بأن المحكمة الجنائية الدولية ستفشل. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة قادرةٌ على عرقلة المحكمة إلى الحدّ الذي سيجعلها تواجه صعوباتٍ بأداء واجباتها. ففي نهاية المطاف، ما مدى مصداقية القاضي الذي يتم تشويه سمعته من قِبل من يُسمى بزعيم العالم الحر؟ فقد استخدمت الولايات المتحدة استراتيجيةً مماثلة في حالة الأونروا: فالوكالة، التي توفر الرعاية والتعليم لنحو 5 ملايين لاجىء فلسطيني، لم تفقد صلاحيتها بعد، ولكن من دون الدعم الأمريكي ستصارع من أجل البقاء.

ومنذ إنشائها في عام 2002، تعرضت المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات شديدة، وذلك بشكلٍ رئيسي بسبب قصور أدائها المزعوم. وحتى الآن، تمكنت المحكمة فقط من إدانة ثلاثة أفارقة- الأمر الذي أثار استياء العديد من الدول الأفريقية، التي تشعر أنها مستهدفة على نحوٍ غير عادل. وعلاوةً على ذلك، لم يبدو أن الإدانات النهائية تشمل أطراف الجرائم. وإلى جانب الملاحقة القضائية لجرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، فإن التحقيق في جرائم إسرائيلية محتملة من شأنه أن يوسع نطاق المحكمة المتعثرة.

من جهتها، تشاطر العديد من المنظمات غير الحكومية التي تحظى بالاحترام، مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش والمنظمة السويدية دياكونيا، وجهة النظر الفلسطينية القائلة بأن إسرائيل ارتكبت وما زالت ترتكب جرائم حرب أو حتى جرائم ضد الإنسانية، سواء كان ذلك بالقتل العشوائي إبان حرب غزة في عام 2014، أو المستوطنات غير الشرعية على الأراضي الفلسطينية، أو تدمير قرى بأكملها.

فقد وصف الممثل الدائم لدولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، في بيانٍ، التهديدات الأمريكية ضد المحكمة الجنائية الدولية بأنها “انقلابٌ ضد النظام الدولي.” وأضاف البيان، “تريد إدارة ترمب تفكيك النظام العالمي لضمان بقائها، هي وحليفتها إسرائيل، فوق القانون والتملص من المسالة. أولئك فحسب من يخرقون القانون يخشون تطبيقه.”

أحد الأمثلة المحددة لجرائم الحرب الإسرائيلية، بعيونٍ فلسطينية، هو قرار هدم قرية الخان الأحمر. تقع هذه القرية البدوية الفلسطينية في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، شرقي القدس، حيث تريد إسرائيل هدم القرية لتوسيع مستوطنة غير قانونية كبيرة. وتشمل الجرائم المذكورة في هذه الحالة المحددة التهجير القسري والتطهير العرقي وتدمير الممتلكات المدنية. فقد تناولت الإحالة الرسمية للسلطة الوطنية الفلسطينية، التي قدمت في مايو 2018، عدداً لا يحصى من القضايا. ووفقاً لوزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، فإن هذه تشمل “التوسع الاستيطاني والاستيلاء على الأراضي والاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية، فضلاً عن الاستهداف الوحشي والمتعمد للمتظاهرين العزل، لا سيما في قطاع غزة.”

وفي المقابل، تنكر إسرائيل بشدة ارتكاب أي جريمة حرب، وتنفي اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وفي حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، قال مسؤولٌ إسرائيلي إن مناشدة الفلسطينيين للمحكمة الجنائية الدولية ورفض التفاوض مع إسرائيل والولايات المتحدة لم يكن السبيل لتعزيز السلام، إذ قال “من الجيد أن الولايات المتحدة تتخذ موقفاً صريحاً بشأن هذه المسألة.”

إذاً، ما الذي ينتظر الفلسطينيين؟ على الرغم من أن بعض المعلقين يخشون من تحول الصراع ضد الاحتلال إلى العنف مرةً أخرى، إلا أن وجهة النظر الرسمية هي التمسك بالدبلوماسية. فقد ذكرت المحكمة الجنائية الدولية أن تهديدات الولايات المتحدة لن تردعها. ومع ذلك، فإن الأوضاع على أرض الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة تتدهور، إذ لا تزال المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية آخذةٌ في التوسع، كما تشعر حكومة إسرائيل اليمينية بتشجيعٍ من ترمب، ويبدو أن الدول العربية المجاورة لها مصالح أخرى في الوقت الراهن.

وبحسب ندى كيسوانسون، وهي محامية متخصصة في القانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الإنسان وتعمل مع مؤسسة الحق الفلسطينية لحقوق الإنسان، فإن المحكمة الجنائية الدولية تظل أفضل طريقة أمام الشعب الفلسطيني. وفي مقال للرأي لقناة الجزيرة، قالت كيسوانسون إن المحكمة الجنائية الدولية لن تكون قادرةً على ضمان العدالة لجميع الضحايا الفلسطينيين، “إلا أنه يمكنها التأكد أن إسرائيل لم تعد تقتل الفلسطينيين أو تعذبهم أو تهجرهم بغير حق أثناء سرقة أراضيهم لبناء مستوطناتٍ غير قانونية، دون أدنى خوفٍ من أي عواقب.”

وتعتقد كيسوانسون أن المدعية في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودة، قد تكون قادرةً على التأثير إيجاباً على المستقبل: “عند فتح تحقيقٍ وملاحقة كبار المسؤولين الإسرائيليين، ستقوم المحكمة الجنائية الدولية بإرسال رسالةٍ قوية مفادها أن الفلسطينيين، مثلهم مثل جميع الشعوب الأخرى، يستحقون العدالة، وأن الإنصاف ليس هبة بل حقٌ يجب الوفاء به دون قيدٍ أو شرط.”