وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

علينا أن نساعد جيل الألفية العربي

ليلي الزويني تكتب: الربيع العربي- تستطيع أوروبا مساعدة الشباب الشجاع في الشرق الأوسط فقط عبر دعم مطالب جيل الألفية العربي.

 جيل الألفية صورة لعراقيين وهم يجلسون بالقرب من لوحة غرافيتي
صورة لعراقيين وهم يجلسون بالقرب من لوحة غرافيتي جدارية تحاكي متظاهرين التحفوا العلم الوطني العراقي في الاعتصام المناهض للحكومة بساحة التحرير الموجودة في العاصمة بغداد يوم 24 ديسمبر 2019. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE / AFP.

بدأت خبيرة التغذية والمدربة الرياضية ريهام يعقوب مسيرات نسائية حاشدة بمدينة البصرة في العراق عام 2018، وهي المدينة التي حرم المسؤولون المحليون الفاسدون سكانها من حقهم في المياه النظيفة والكهرباء. ولم تقم ريهام بتزويد النساء بالقوة العضلية فحسب عبر ما تقدمه من تدريباتٍ جسدية في صالة الألعاب الرياضية، بل أنها زودتهن أيضاً بالقوة العقلية والثقة بالنفس. وقد ساهم هذا الأمر في تمكين النساء من المشاركة، كمواطنات متساويات في الحقوق والواجبات مع الرجال، في بناء عراق جديد، ومحاسبة الحكام المهملين.

دفعت ريهام ثمن طموحها وقوتها موتاً. فقد قُتِلت في وضح النهار على يد رجال مقنعين في 19 أغسطس 2020 كما لو أنها معارضة خطيرة تنتمي لتحالف قوي. وبالفعل، تبين أن الشباب اليافع العفوي المملوء بالأمل، مثل ريهام، يشكل معارضةَ منيعة للأنظمة القمعية والمهملة، بالإضافة إلى الميليشيات القاتلة، التي تجند الإسلاميين المتطرفين.

كيف حدث هذا؟ منذ انتفاضات الربيع العربي في عام 2011، وملايين الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد نهضوا ليخوضوا “حرب عصابات مدنية” ضد الاستبداد، والفساد، والطائفية، والتشدد، والعنف، والحصانة من العقاب، والفقر، واليأس، وضد محرماتهم أيضاً.

الشباب المتطرف

على النقيض من أقرانهم المتطرفين، يكافح هؤلاء الشباب الجسور من أجل شكلاً جديداً للديمقراطية؛ من أجل هويتهم المتفردة وتحققهم الذاتي؛ من أجل الحصول على حرية بسيطة كي يكونوا ما يريدون وبصحبة من يريدون.

هل سينجحون في الاقتراب من أحلامهم؟ هناك أمل. لكن هذا سيتحقق فقط إذا أعاد الغرب، وخاصةً أوروبا، التفكير في سياساتهم تجاه الشرق الأوسط، واعتبار هؤلاء الشباب حلفاء حقيقيون لهم، وطرح هذه المسألة على طاولة المفاوضات، ودعم مطالبهم.

نرى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كـ “حلقة عدم استقرار” تلتف حول أوروبا، وتركز سياساتنا تجاه المنطقة على الإرهابيين، واللاجئين، والإسلام، ونعتبر أن كل هذا “يهدد وجودنا، وهويتنا القومية”.

وعلى هذا الأساس، نعقد صفقات مع الحكام الديكتاتوريين، لا من أجل حل مشاكل اللاجئين، بل لإبعادهم عنا. نسنّ قوانين مناهضة للإرهاب، والتي يستخدمها الديكتاتوريون للقبض على هؤلاء الشباب الشجعان باعتبارهم “إرهابيين”، وتعذيبهم حتى الموت، وإجبارهم على الفرار من البلاد.

جيل الألفية ليس السبب في عدم الاستقرار

وللخروج من هذه الدائرة المغلقة السامة، علينا أن نربط سياستنا المسماة “الأمن أولاً” بسياسة “الناس أولاً”. لا ينبغي النظر إلى جيل الألفية العربي (60% من السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحت سن الـ 25) باعتباره سبباً في عدم الاستقرار، بل ينبغي النظر إليه باعتباره عامل محفز لخلق “دائرة أخلاقية” إيجابية، والتي يمكنها إبقاء هؤلاء الشباب بعيداً عن إغراءات الإرهابيين، وبعيداً عن شواطئنا.

على مدار سنوات من تظاهرات الشباب العلنية والسرية، أرى تحركاً بطيئاً لا لبس فيه تجاه تأسيس “دولة مدنية”، متجذرة في ثقافتهم المحلية، وأديانهم، وتاريخهم.

كانت كلمة “مدنية” صرخةً شعبية خلال ثورات الربيع العربي. في يوليو 2011، انضم المغني رامي عصام، والمعروف أيضاً باسم “صوت الثورة المصرية”، إلى حشد الشباب المصري المفعم بالأمل والمكون من الشيوعيين المنتمين إلى أقصى اليسار، والإخوان المسلمين أصحاب شعار “الإسلام أولاً”، وحتى السلفيين، للغناء سوياً في حرّ الصيف الخانق وسط ميدان التحرير بالقاهرة:

“كلنا واحد، وطلبنا حاجة واحدة: مدنية! مدنية! مدنية! مدنية!”.

تعرض رامي للتعذيب لاحقاً على يد أفراد الشرطة وهو يعيش حالياً منفياً في السويد. لقد كنت هناك في الميدان وشعرت بالقوة التي تتردد بها كلمة “مدنية!”.

جيل الألفية لمتظاهرين جزائريين وهم يصدحون بشعارات مناهضة للحكومة
صورة تم التقاطها يوم 31 ديسمبر 2019 لمتظاهرين جزائريين وهم يصدحون بشعارات مناهضة للحكومة حول الأعلام الوطنية الجزائرية، وذلك في إحدى المظاهرات التي جرى تنظيمها وسط العاصمة الجزائرية الجزائر. المصدر: RYAD KRAMDI / AFP.

مجتمع متعدد الأطياف

لماذا مدنية؟ تعني كلمة مدنية حرفياً في اللغة العربية “حضارة”، أو “حضري” (وتشمل مصطلحات كدولة مدنية، قانون مدنية، ومواطنة، وغيرها). وتحمل كلمة مدنية أيضاً إشارةً ضمنية إلى مدينة “المدنية” المقدسة التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي، حيث بدأ تأسيس أول أمة إسلامية كمجتمع متعدد الأطياف. كما تشير الكلمة إلى ميادين التحرير في القرن الواحد والعشرين، حيث أطلق الهدف المشترك للثورات طاقة وشعور بالمؤازرة غير مسبوق بين المتظاهرين.

برز شعار مدنية في كل مكان: في القاهرة، وتونس، وطرابلس، وصنعاء، ودمشق، ثم ظهر لاحقاً في موجة الاحتجاجات الثانية منذ 2018 في الخرطوم، وبغداد، والجزائر، وبيروت.

باتت الكلمة جليّةً في رسوم الغرافيتي على الجدران واللافتات (نحلم بدولة مدنية!)، وصارت الكلمة متداولة في النقاشات الدائرة داخل المقاهي العصرية: “هل تريد قهوتك سلفية (سادة) أم مدنية (لاتيه)؟ واستخدم الناس عبر المنطقة هذه الكلمة للتعبير عمّا لا يريدونه: دولةٌ غير عسكرية، وغير مستبدة، وغير فاسدة، وغير دينية، لكنها أيضاً دولة غير ملحدة، وغير قبلية، وغير طائفية، وأيضاً حكومة غير علمانية على الطريقة الغربية.

لكن هل هؤلاء المتظاهرون متحدون أيضاً حول ما يريدونه؟ هذا أمرٌ غير محسوم على الإطلاق. غير أنني لا زلت أحاجي بأن مصطلح مدنية التاريخي والحديث هو أداةٌ قوية لبناء عقلية داعمة لمفهوم الدولة المدنية الحديثة في المجتمعات التي يغلب عليها أصول إسلامية وعربية. تسبق هذه العقلية مرحلة تأسيس دولة مدنية. تمنح كلمة مدنية معنى محلياً وأساساً أخلاقياً لقيم ومفاهيم عالمية كحكم القانون، والمواطنة، وحقوق الإنسان. وتُظهِر أيضاً أن الدفاع عن هذه القيم ينبع من داخل المجتمعات المحلية بدلاً من تبني التقاليد الغربية لمفهوم المدنية.

شعر تقليدي

لننظر إلى السودان كمثال، حيث اندلعت موجة جديدة من التظاهرات بنهاية عام 2018. أطلق المتظاهرون، بشكل واضح، على ثورتهم اسم “الثورة المدنية”. واستخدموا الشعر التقليدي لصياغة أفكار جديدة والدعوة إلى الوحدة – رغم اختلافاتهم العرقية، والدينية والسياسية. كما أنهم رسموا جداريات ملونة لإثارة نقاش عام، بينما ارتدت النساء جلباباً أبيضاً وأقراطاً ذهبية، التي اشتهرت بها ملكات الكنداكة النوبيات، للتعبير عن دورهم البارز في الثورة.

وبهذه الطريقة، أصبح الفن والثقافة عاملين محفزين للثورة، فضلاً عن الدور الفاعل للمغتربين السودانيين في جذب الانتباه العالمي إلى التظاهرات، وهو ما عجّل بسقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير في أبريل 2019. وقادت الشعارات المنادية بالمدنية في السودان إلى مرحلة انتقالية يسودها حكمٌ مدني، حتى وإن كان نصف الحكومة من العسكريين، وبينهم مسؤولين مخضرمين تابعين للبشير.

وتُسمَع شعارات المدنية في كافة أرجاء المنطقة لأن معظم الناس يواجهون نفس المشكلات. أولى هذه المشكلات هي العلاقة المهترئة بين المواطنين وقادتهم. فهناك فسادٌ مستفحل ومحسوبية خاصةً في دول كلبنان والعراق. ويمكن تعقّب جذور المشكلة إلى تفسخ ما يعرف بالصفقة السلطوية، وهو اتفاق ضمني بين الدولة ومواطنيها، قايضت فيه الشعوب (مجبرةً) حقوقها السياسية والمدنية مقابل الحصول على حقوق اجتماعية واقتصادية مثل التعليم المجاني، ووظائف القطاع العام، والإسكان الشعبي، وإصلاح الأراضي، والتأمين الصحي المجاني، والمياه والطاقة الرخيصة.

على أرض الواقع، أصبحت هذه الصفقة – هذا “العقد الاجتماعي” – بمثابة أداة لدعم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والمحسوبية، والإثراء الذاتي (الذي دعمه التمويل الغربي)، ومحاكمة المعارضين، وحصانة الجناة. أدى هذا، في نهاية المطاف، إلى انتشار الفقر واليأس، خاصةً بين الجيل الجديد، لتنفجر هذه القنبلة الموقوتة في ديسمبر 2010.

 جيل الألفية لآلاء صالح
صورة تم التقاطها يوم 10 إبريل 2019 لآلاء صالح، وهي سودانية حازت على شهرة كبيرة على شبكة الإنترنت بعد انتشار مقاطع فيديو ظهرت فيها وهي تصدح بهتافاتٍ احتجاجية قوية ضد الرئيس السوداني عمر البشير. وفي الصورة تظهر آلاء وهي ترفع إشارة النصر وتهتف الشعارات أثناء مشاركتها في إحدى المظاهرات أمام أحد المقار العسكرية في الخرطوم. المصدر: AFP.

الإسلام والدولة

ثانياً، هناك علاقة خلافية شديدة الحساسية بين الإسلام والدولة. يحتلّ الإسلام مكانة مهمة للغاية في الحياة اليومية لغالبية الناس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كدينٍ وبوصلة أخلاقية. لكن هذا لا يعني أن جميع المسلمين، ناهيك عن الأقلية غير المسلمة، يقبلون بأن يكون الإسلام والشريعة جبريةٌ بموجب القانون وحكم الدولة. بالتأكيد، هم لا يقبلوا بالشكل الوحشي للإسلام، الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

سارعت الحكومة المدنية الجديدة في السودان بإلغاء العقوبة القاسية المطبقة بحكم الشريعة على المرتدين، والعقوبة المفروضة على شرب الكحوليات لغير المسلمين. لكن تغيير القانون لا يغيّر عقلية أمة بأكملها بين ليلة وضحاها. علاوةً على هذا، فإنّ إلغاء هذه العقوبات يوفر حججاً، يوظفها الإسلاميون والمتطرفون، الذين يستخدمون هذه القوانين المُطبِقة لأحكام الشريعة كأداة سياسية لاستعادة نفوذهم السياسي.

لهذا، يجب أن يتغلب المسلمون على مخاوفهم والممثلة في أن مناقشة الشريعة هو أمر محرم، أو يقتصر على العلماء والرجال. وبدورها، فإن أوروبا لن تصل إلى أي نتيجة بموقفها محدود الأفق من الشرعية والإسلام، وهو ما يمهد الطريق للمتعصبين الإسلاميين المتشددين، والمتطرفين المنتمين إلى تيار اليمين.

ثالثاً، تعالج المدنية الأنماط المتجذرة داخل هذه المجتمعات مثل القرابة، والقبلية، والطبقية، والعرقية، والدينية، والانتماءات الإقليمية. هل يمكن تعزيز الإرادة الذاتية للفرد بين هذه الأنماط الراسخة (أو معارضتها) دون إثارة ردود أفعال كالقتل دفاعاً عن الشرف، أو الزواج القسري، أو الطلاق، أو غيرها من المآسي؟ يوجد بالفعل مجتمع مدني عربي، لكنه لم يحل محل هذه الانتماءات التقليدية العتيدة. ونتيجة لهذا، يعيش العالمان على مقربة من بعضهما البعض، وهو ما يسبب خلافات خطيرة بين التقاليد والتغيير. هنا أيضاً، يمكن أن يكتسب مفهوم ديناميكي مثل المواطنة معنى حقيقياً فقط إذا فُهم في إطار القيم والأنماط المحلية، وارتبط بها.

منصات الإنترنت

أُحرز تقدم في هذه المسألة الأخيرة. خلال المظاهرات، التقى الشباب، الذي يعيش عادة في عوالم منفصلة، وتحدثوا بجدية للمرة الأولى.

عبر المنصات الموجودة على شبكة الإنترنت، شارك شباب جيل الألفية الفضوليون قصصهم، واكتشافاتهم، وهو ما عزّز أصواتهم الفردية وتواصلهم ببعضهم البعض. ومع تنامي حسهم الجريء، قاوم هؤلاء الشباب أيضاً المحرمات المستمرة في مجتمعاتهم مثل أدوار الجنسين، ومعايير ارتداء الملابس، وحرية التعبير، ومفهوم “المسلم الملتزم”.

في أغنيته “هنا البصرة” في عام 2018، تحدى مغني الراب العراقي مستر كوتي أكبر القيادات الدينية الشيعية:

“الآن، عندما أصبحنا نحن الشباب بحاجة إلى مساعدتكم، تنسون ولائنا في الجهاد ضد داعش، الذين جعلونا يتامى. أين فتواكم الآن؟ أين إيمانكم؟ إن شعبنا يشعر بالعطش!”

إن المتربّحين من هذه الصفقة السلطوية لا يزالوا يقاومون بشدة. لكن هؤلاء الشباب لا يستسلموا أيضاً. في العراق على سبيل المثال، يشكل هؤلاء الشباب أحزاباً سياسية لخوض الانتخابات في 2021. لكنهم ليس لديهم خبرة، وهم، في الواقع العملي، أقل إجماعاً على مثلهم العليا مقارنةً بما بدوا عليه أثناء تظاهراتهم في الشارع، وهم معرضون لخطر الالتهام بواسطة الأحزاب الطائفية الراسخة. لذا، هم يحتاجون إلى مساعدة في صياغة رؤية موحدة، واستراتيجيات (ثقافية) لكسب تأييد واسع لمطالبهم.

بيد أن هولندا لا تستطيع تقديم هذه المساعدة بشكلٍ مباشر، إذ أن هذا قد يقوض مصداقيتهم في المجتمع المحلي ويعرضهم حتى للخطر لأنه قد يُنظر إليهم باعتبارهم “عملاء للغرب”. هنا، أرى دوراً حيوي للمعنى الثاني، الذي تمثله كلمة “نحن”: وهو يشير إلى العراقيين الشباب المهتمين بالشأن المحلي في بلادهم، وغيرهم من العرب المغتربين في هولندا وأوروبا. نحن، المفكرون، والطلاب، والمبدعون العرب – الأوروبيون، نمثل حلقة وصل مهمة. نحن على دراية بالعقلية المحلية، والأنماط الاجتماعية، والسياق السياسي من داخل المجتمعات نفسها، ويمكننا ترجمة الاحتياجات المحلية لتتواءم مع المصالح الأوروبية والهولندية.

لهذا، أدعو إلى تأسيس سفارة مدنية، تشكلها القوى الفكرية للعرب المغتربين، وتكون بمثابة مزيج بين مركز أبحاث وقوة تنفيذية، لإكمال المشهد الحالي الذي تشكله مراكز الأبحاث وسفراء الدول. وموقع هذه السفارة هو: لاهاي، مدينة السلام والعدالة الدولية.

غير أن هذه الفرصة لن تكون متاحةً لوقتٍ طويل سواء للشباب العربي أو لنا في أوروبا. إذا استمرينا في سياسة “الأمن أولاً”، سيموت عددٌ لا يحصى من الشباب مثل ريهام، وسيستمر هذا السيناريو المشؤوم إلى الأبد.

الكاتبة

ليلى الزويني – خبيرة في الشوؤن العربية والقانون من أصول عراقية – هولندية

ملاحظة

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.

ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع NRC في 18 سبتمبر 202.