وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

معاناة ”عمالة الأطفال“ في المنطقة العربية

من شأن عمالة الأطفال أن تتحوّل بدورها إلى سبب من أسباب تفاقم ظواهر الفقر والحرمان في المجتمعات العربيّة، كما من شأنها أن تحول دون الوصول إلى أهداف التنمية التي تضعها الدول العربيّة في سياساتها الاقتصادية والمجتمعية.

عمالة الأطفال المنطقة العربية
طفل عراقي يعمل في مصنع الطوب التقليدي في النهروان ، أحد أكبر مصانع الطوب في العراق الواقع في الضواحي الشرقية للعاصمة بغداد. احمد الربيعي / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

رفعت الأمم المتحدة سنة 2022 شعار “الحماية الاجتماعيّة الشاملة لإنهاء عمالة الأطفال”، في محاولة لدفع حكومات العالم والمؤسسات الدوليّة باتجاه بذل المزيد من الجهد، لمكافحة انخراط الأطفال الباكر في سوق العمل.

فخلال الأعوام الماضيّة، أدّت تداعيات تفشّي وباء كورونا، وما تلاها من أزمات اقتصاديّة، إلى استنزاف أنظمة الحماية الاجتماعيّة في الدول الفقيرة والمتوسّطة الدخل، ما قلّص قدرة هذه الدول على تحييد الأطفال عن أسوأ أشكال العمالة. كما ساهم تفشّي النزاعات، وارتفاع معدّلات اللّجوء والنزوح، في الدفع بنفس الاتجاه.

تفشّي ظاهرة عمالة الأطفال عالميًّا

في النتيجة، تشير أرقام منظمة العمل الدوليّة واليونيسف إلى أنّ عدد الأطفال العاملين في جميع أنحاء العالم ارتفع إلى أكثر من 160 مليون طفل اليوم، بزيادة قدرها 8.4 مليون طفل مقارنة بالعام 2016.

أمّا عدد الأطفال الذين يمارسون مهنًا خطرة، أي أعمالًا يمكن أن تضر بسلامتهم الشّخصيّة، فارتفع ليلامس ال79 مليون طفل، أي بزيادة قدرها 6.5 مليون طفل مقارنة بالعام 2016.

مع الإشارة إلى أنّ الإحصاءات نفسها تشير إلى أنّ هناك تسعة ملايين طفل إضافي، من المهددين حاليًّا بالإنضمام إلى سوق العمل، بفعل الضغوط الأخيرة التي يتعرّض لها الاقتصاد العالمي.

من المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه الأرقام تعكس توقّف مسار انحسار ظاهرة عمالة الأطفال، لأوّل مرّة منذ نحو 20 سنة. فبين عامي 2000 و2016، تمكّن العالم من تقليص عدد الأطفال العاملين تدريجيًّا بمقدار 94 مليون طفل، نتيجة اتجاه معظم حكومات الدول النامية لوضع تنظيمات وشبكات حماية اجتماعيّة تحد من هذه الظاهرة.

أمّا اليوم، فتشير الإحصاءات الأخيرة إلى عودة ظاهرة عمالة الأطفال للتفشّي بشكل كبير، بعكس ذلك الاتجاه السابق، وهو ما يهدد بخسارة مكتسبات المرحلة السابقة. وهذا التطوّر الخطير هو ما يفسّر استنفار الأمم المتحدة مؤخّرًا، وتشديدها على العودة إلى الالتزام بأهداف مكافحة عمالة الأطفال من جديد.

ومن الواضح بحسب تقارير الأمم المتحدة أنّ درجة اتساع الظاهرة ارتفعت بشكل متناسب مع مستويات الفقر فيها. ففي البلدان الأقل نموًا، بات هناك طفل واحد في سوق العمل من أصل كلّ أربعة أطفال. كما بلغت نسبة الأطفال العاملين 9% من جميع الأطفال في الدول ذات الدخل المتوسّط المنخفض، ونحو 7% في البلدان ذات الدخل المتوسّط المرتفع.

فشل الدول العربيّة في تحقيق أهداف خططها

خلال السّنوات الماضية، عانت المنطقة العربيّة بالتحديد من تفشّي ظاهرة عمالة الأطفال على نحو سريع وخطير. فالغالبيّة الساحقة من الدول العربيّة كانت قد وقّعت الاتفاقيّات الدوليّة الهادفة إلى مكافحة عمالة الأطفال، ووضعت تشريعات وأنظمة محليّة تستهدف حماية الطفل. كما أقرّت خططًا لتقليص نطاق هذه الظاهرة وصولًا إلى التخلّص منها بالكامل بحلول العام 2025. مع الإشارة إلى أنّ المنظمات الدوليّة كانت قد استهدفت إنهاء هذه الظاهرة بشكل كامل بحلول العام 2025، وهو ما يفسّر وضع الخطط المحليّة في الدول العربيّة على هذا الأساس.

ورغم كل هذه الجهود والخطط والتشريعات، يبدو من الأكيد اليوم أن الدول العربيّة فشلت في تحقيق الأهداف التي رسمتها، لا بل تشير الأرقام إلى أن الوضع ازداد سوءًا خلال العقد الماضي.

إذ تقدّر أرقام منظمة العمل الدوليّة عدد الأطفال الموجودين حاليًّا في سوق العمل في الدول العربيّة بنحو 13.4 مليون طفل، ما يمثّل 15% من مجمل الأطفال في المنطقة العربيّة. وهذا الرقم الخطر، يتجاوز بأشواط معدلات عمالة الأطفال العالميّة في الدول ذات الدخل المتوسّط المنخفض وذات الدخل المتوسّط المرتفع، ما يشير إلى وجود عوامل استثنائيّة تدفع الأطفال بأعداد متزايدة إلى سوق العمل في المنطقة العربيّة.

فأكثر من نصف الدول العربيّة، باتت متأثّرة اليوم بالنزاعات المسلّحة داخل أراضيها بشكل مباشر، أو من خلال تدفّق النازحين والمهاجرين إليها. وتشمل هذه القائمة حاليًّا كل من فلسطين وتونس وسوريا والسودان والصومال وليبيا ولبنان والأردن والعراق واليمن.

وهذه التطوّرات، حرمت النازحين في تلك الدول من شبكات الأمن الاجتماعي، كما حرمت الأطفال اللاجئين في كثير من الأحيان من الولوج إلى التعليم المجّاني واللائق. وفي النتيجة، ساهم تفشّي الفقر والعوز في أوساط العائلات المهاجرة إلى دفع الأطفال للعمل في ظروف غير إنسانيّة.

يُضاف إلى كلّ هذه العوامل، آثار الأزمات الاقتصاديّة العالميّة على المجتمعات العربيّة. فارتفاع أسعار السلع الأساسيّة في الأسواق العالميّة خلال السنوات الثلاث الماضية، ساهم في رفع معدلات التضخّم في جميع الدول العربيّة، ما دفع بالمزيد من الأسر إلى ما دون خط الفقر المدقع، نتيجة تراجع القدرة الشّرائيّة لأجورها.

ولهذا السبب بالتحديد، توسّعت في المجتمعات الريفيّة في المنطقة العربيّة ظاهرة الاستعانة بالأطفال كقوّة عاملة رخيصة في النشاط الزراعي، بسبب حاجة الأسر في هذه المجتمعات لمداخيل إضافيّة. وفي الوقت الراهن، يضم القطاع الزراعي في المناطق الريفيّة المصريّة والسودانيّة واليمنيّة نحو نصف الأطفال العاملين في هذه الدول.

لكل هذه الأسباب، لن تتمكّن الدول العربيّة من التخلّص من عمالة الأطفال نهائيًّا بعد ثلاث سنوات، كما وعدت في خططها المحليّة، بل يبدو من الواضح أن هذه الظاهرة ستستمر بالاتساع حتّى ذلك الوقت. فالنجاح في مكافحة ظاهرة عمالة الأطفال غير ممكن إذا اقتصرت الجهود الرسميّة على التشريعات والإجراءات الّتي تحاول حظر هذه الظاهرة.

إذ يفترض أن تأتي هذه الجهود من ضمن خطط تنمويّة شاملة تتعامل مع أسباب هذه الظاهرة، وفي طليعتها تفشّي الفقر وفقدان شبكات الحماية الاجتماعيّة وتضخّم الأسعار. كما يفترض أن تأتي من ضمن حلول متكاملة تعالج الأزمات المترتبة على ظواهر التهجير واللّجوء والنزاعات العسكريّة.

أشكال ومخاطر عمالة الأطفال في الدول العربيّة

تتفاوت نسب وأشكال عمالة الأطفال بين الدول العربيّة، تبعًا لتنوّع أسباب هذه الظاهرة.

في حالة مصر مثلًا، ارتبطت هذه الظاهرة بتفشّي الفقر في الكثير من الأحياء الشّعبيّة في مدينة القاهرة، كما ارتبطت بالثقافة الشّعبيّة التي تتساهل مع هذه الظاهرة في بعض مناطق الريف المصري.

وبحسب الحكومة المصريّة، تُعد أعمال المناجم والمحاجر وصناعة الطوب وغيرها من أعمال البناء والزراعة أبرز القطاعات التي تتفشّى فيها عمالة الأطفال. وبحسب آخر مسح، يبلغ عدد الأطفال العاملين في هذه القطاعات ما يقارب ال1.6 مليون طفل مصري، أي ما يوازي 9.3% من إجمالي الأطفال المصريين. مع الإشارة إلى أنّ 82.2% من هؤلاء الأطفال يعملون في ظروف عمل سيئة وغير آمنة.

في حالة اليمن، ارتبطت هذه الظاهرة خلال العقد الماضي بظروف الحرب، وما نتج عنها من تهجير داخلي وضع الأسر اليمنيّة في ظروف هشّة وغير مستقرّة، ما دفعها إلى تشغيل أطفالها في الأنشطة الزراعيّة الريفيّة.

ونتيجة هذه الظاهرة، يعاني أكثر من 192 ألف طفل يمني اليوم من العمى والربو، نتيجة انخراطهم في أعمال خطرة في القطاع الزراعي، في ظل استخدام المبيدات والسّموم والأسمدة وسائر الكيماويّات بشكل عشوائي. كما أدّت هذه التطوّرات إلى تفشّي أمراض أخرى في صفوف الأطفال اليمنيين، كالالتهابات الجلديّة والأمراض المعويّة ونوبات الصرع والتهابات العيون وغيرها.

في العراق، تشير أرقام اليونيسيف إلى أنّ ثلث أطفال العراق يمرّون بظروف اقتصاديّة صعبة، تدفعهم إلى العمل لمساندة أسرهم ماليًّا. وبالإضافة إلى عوامل الفقر والعوز، ساهم في انتشار هذه الظاهرة توسّع نطاق العمالة غير المنظمة، التي تتم خارج سيطرة أو رقابة الحكومة أو النقابات المحليّة.

وهذا الواقع، جاء نتيجة تراجع حضور الدولة وغياب تطبيق القوانين والتنظيمات، بفعل الأحداث الأمنيّة التي مرّت بها البلاد طوال السّنوات الماضية. وفي الوقت الراهن تتفشّى ظاهرة عمالة الأطفال في العراق في الأحياء الصّناعيّة وأنشطة جمع الخردوات من مكبات النفايات، ما يزيد من المخاطر الصحيّة المرتبطة بهذه العمالة.

في لبنان، ساهمت حالات اللّجوء والتهجير المرتبطة بالحرب السوريّة في اتساع ظاهرة عمالة الأطفال، إذ تشير الإحصاءات اليوم إلى أنّ غالبيّة أطفال اللاجئين السوريين يعملون في قطاعات اقتصاديّة لبنانيّة مختلفة.

فيما ساهمت ظروف الحرب في ليبيا وسوريا خلال العقد الماضي بتغييب دور الدولة الرقابي في سوق العمل، وزيادة أعداد الأسر المضطرّة لتشغيل أطفالها لتأمين الاحتياجات الأساسيّة.

وفي حالات السودان وسوريا واليمن بالتحديد، تنتشر ظاهرة أكثر خطورة، تتمثّل في استخدام الأطفال في النزاعات العسكريّة نفسها، عبر تجنيدهم في إطار الميليشيات المحليّة، وتشغيلهم كمقاتلين أو دروع بشريّة أو جواسيس في ساحات القتال.

جيل ضائع

أخطر ما في هذه الظاهرة، هو أنّها تؤسس لجيل عربي ضائع، يتوزّع على امتداد أكثر من 10 دول عربيّة. فمخاطر تفشّي عمالة الأطفال، تبدأ بالمخاطر الصحيّة والإنسانيّة التي تحيط بظروف عملهم، إلا أنها تحمل في طياتها أيضًا مخاطر اقتصاديّة واجتماعيّة ضخمة، نتيجة عدم حصول هذه الفئة على حقّها في التعليم اللائق.

وعلى مدى العقود المقبلة، ستعاني الدول العربيّة من وجود جيل لم تسمح له الظروف بالحصول على المؤهّلات العلميّة، التي تسمح له بالإنتاج والحصول على فرص العمل اللائقة ذات الدخل المرتفع.

ولذلك، من شأن عمالة الأطفال أن تتحوّل بدورها إلى سبب من أسباب تفاقم ظواهر الفقر والحرمان في المجتمعات العربيّة، كما من شأنها أن تحول دون الوصول إلى أهداف التنمية التي تضعها الدول العربيّة في سياساتها الاقتصادية والمجتمعية.