لطالما لعب القضاء دوراً غاية في الأهمية في مصر، إلا أنّ الأضواء سلطت عليه منذ ثورة يناير 2011. وبعد أحداث 3 يوليو 2013، والتي شهدت إطاحة الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي، إنضم السلك القضائي إلى ركب الحكومة الجديدة في حربها ضد جماعة الإخوان المسلمين، التي سعت بدورها إلى الحد من السلطة القضائية أثناء تبوئها زمام الحكم في مصر. وبذلك، أصبح القضاء في مصر مؤسسة أخرى من المؤسسات المتناقضة التي تكيل بمكالين في بلاد تعاني بالفعل من الانقسامات.
ومنذ ذلك الوقت، تسببت العديد من القرارات بموجات تسونامي ضربت المجتمع المصري، فعلى سبيل المثال، في 23 سبتمبر 2013، حظرت إحدى المحاكم جماعة الإخوان المسلمين، التي ينحدر منها مرسي، ونشاطاتها مما مهد الطريق أمام اعتبار الجماعة منظمة إرهابية وأفضت إلى شن حملة على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أسفرت عن اعتقال ومحاكمة الآلاف منهم.
اتبعت هذه المحاكمات نمطاً بات مألوفاً جداً، حيث تمت محاكمة مئات من المشتبه بهم بشكلٍ جماعي وتم الحكم على غالبيتهم غيابياً مما حذى بالعديد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين إما الإختباء أو الفرار من البلاد، بينما أصدر القاضي أحكاماً جماعية بالإعدام في جلسات أقل ما يمكن أي يقال عنها أنها مجرد محاكمات صورية. ففي مارس وأبريل من عام 2013 فقط، أصدر قاضٍ واحد في محافظة المنيا في صعيد مصر أحكاماً بالإعدام على 1212 شخص بعد جلستين فقط.
محمد المسيري، الباحث في الشؤون المصرية بمنظمة العفو الدولية والمتابع للمحاكمات يرى أنها ” تفتقر إلى الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة”. هذا واستمرت جلسات الاستماع بضع دقائق فقط قبل صدور الأحكام، في حين فُرض حظر على وسائل الإعلام وأقارب المتهمين ومنعوا من دخول قاعة المحكمة، بينما قاطع عدد من محامي الدفاع المحاكمة حيث أعربوا عن رفض القاضي الاستماع إلى دفاعهم. كما حُكم على المشتبه بهم الآخرون بالسجن مدى الحياة، إلا أنّ القاضي دعا النيابة العامة للطعن بالحكم وطلب الحكم عليهم بالإعدام مجدداً.
وأثارت الزيادة السريعة بأعداد أحكام الإعدام زوبعة انتقادات حادة من منظمات حقوق الإنسان وزعماء العالم من بينهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية غير الحكومية أن “أحكام الإعدام الجماعية السريعة هذه تُفقد القضاء المصري سمعته بالاستقلالية التي طالما تمتع بها”. وأضافت “بدلاً من محاكمة كل فردٍ على حدى، يقوم القضاة بإدانة المتهمين بشكلٍ جماعي دون أي اعتبارٍ لمعايير المحاكمات العادلة”.
حُكم على غالبية كبار رجال الإخوان المسلمين، بما في ذلك المرشد الأعلى محمد بديع، بالإعدام بعد عامين من عزل مرسي من سدة الحكم، وذلك في عدة قضايا رفعها مكتب المدعي العام معاً. وفي مايو 2015، خضع مرسي وأعضاء آخرون للمحاكمة بتهمة “الهروب من السجن” أثناء ثورة يناير 2011، وبتهمة “التخابر مع دولة أجنبية”- ألا وهي قطر. وحُكم على المتهمن مع مرسي بالإعدام لنقلهم معلومات إلى قطر خلال تولي جماعة الإخوان المسلمين السلطة في البلاد والتي استمرت على مدى عام واحد فقط. وفي حين تمت تبرئة مرسي من هذه التهمة، إلا أن أوراقه أحليت إلى فضلية المفتي العام بعد الحكم عليه بالإعدام لفراره المزعوم من السجن، مما أثار قلق العديد من الحكومات الغربية.
وبدأت الشرطة حملة اعتقلات شملت أي فرد يعلن تأييده لجماعة الإخوان المسلمين، بما في ذلك اعتقال أي فرد يتجرأ على رفع شعار رابعة الأصفر والذي أصبح رمزاً للجماعة بعد الاعتصام الذي نظمه الإخوان المسلمون رفضاً لعزل مرسي. وصدرت أحكام سريعة بحق العديد من هؤلاء المعتقلين وصل بعضها إلى السجن لـ17 عاماً. وفي حين أن أعضاء الإخوان المسلمين عادةً ما يجدون أنفسهم في دائرة مغلقة فيما يتعلق بهذه الأحكام القاسية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة، فقد تم أيضاً اعتقال العديد من النشطاء الليبراليين الذين اكتسبوا شهرة بعد ثورة 2011 واتهموا بمجموعة من الجرائم.
علاء عبد الفتاح، وهو مدون بارز وناشط مؤيد للديمقراطية، حكم عليه بالسجن لخمس سنوات بتهمة انتهاك قانون مكافحة الاعتصامات الذي صدر بعد عزل مرسي من منصبه. كما اعتقلت شقيقة عبد الفتاح بنفس التهمة.من جهة أخرى، حكم على أحمد دومة، وهو من أشد منتقدي الإخوان المسلمين الذين شاركوا في احتجاجات 30 يونيو والتي أدت إلى فض الجماعة، بالسجن مدى الحياة إلى جانب 229 متهماً آخرين، كما تم تغريمه 2,2 مليون دولار لإضرامه النار في المعهد العلمي بالقرب من ميدان التحرير والذي يحتوي على مخطوطات نادرة.
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية أن رد فعل دومة بعد سماعه الحكم كان التصفيق بسخرية مما حذى بالقاضي إلى القول “نحن لسنا في ميدان التحرير؟ لا تتكلم كثيراً وإلا أضفت على الحكم ثلاث سنوات أخرى”. ويرى العديد من النشطاء أن الحكم مجرد محاولة خرقاء من قِبل النظام الجديد لردع قيام المزيد من المظاهرات وسحق المعارضة.
وهناك قاضٍ واحد على وجه التحديد كسب شهرة واسعة، فقد تولى المستشار محمد ناجي شحاتة رئاسة العديد من القضايا رفيعة المستوى، مما أكسبه سمعة مخيفة بسبب شدته وسرعة أحكامه، وهو حالة شاذة في بلاد يُعرف فيها أن القضايا المعروضة على المحاكم تستغرق في كثيرٍ من الأحيان أعواماً لحين البت فيها. وفي ديسمبر 2014، حكم المستشار محمد ناجي شحاتة على 188 من أنصار جماعة الإخوان المسلمين بالإعدام في قضية الهجوم على مركز أمن كرداسة في 14 أغسطس 2013 والذي أدى إلى مقتل عشرات ضباط الشرطة.
ومن بين متهمين آخرين حكم عليهم شحاتة كان ثلاثة صحفيين تابعين لقناة الجزيرة الانجليزية الذين اتهموا بمساعدة الإخوان المسلمين وتزوير الأخبار. وعلى الرغم من أنّ الأدلة التي قُدمت إلى المحكمة، بما في ذلك صور عائلية، وشريط فيديو لبعض الخيول، ووثائقي عن الصومال، وشريط فيديو لموسيقى البوب، كانت جميعها أدلة واهية وتم انتقادها بشدة، إلا أنه صدر الحكم بحق اثنين من الصحفيين بالسجن سبع سنوات في حين حُكم على الصحفي الثالث بعشر سنوات بسبب وجود غلاف إحدى الرصاصات في جيبه أثناء إلقاء القبض عليه حيث قال أنه وجدها على الأرض أثناء الاحتجاجات. وفي ذات المحاكمة، تم الحكم أيضاً على ثلاث صحفيين أجانب، اثنان من بريطانيا وصحفية هولندية بالسجن عشر سنوات غيابياً.
أثارت هذه القضية ضجة عالمية وتعالت الأصوات لإطلاق سراح الصحفيين. وأدت الضغوطات الدولية إلى إطلاق سراح وترحيل بيتر غرسته في الأول من فبراير 2015. في حين تم الإفراج عن الرجلين الآخرين، المصري الكندي محمد فهمي والمصري باهر محمد بكفالة في انتظار المحاكمة الجديدة بعد أسبوعين، بعد أن قضايا أكثر من 400 يوم في السجن.
وفي نفس الوقت الذي شهد تكديس القضاء المصري للسجون المصرية بالمعارضين السياسيين والنشطاء، تم الإفراج عن معظم الشخصيات البارزة من نظام حسني مبارك والذين سجنوا بعد ثورة 2011. وفي نوفمبر 2014، تمت تبرئة مبارك نفسه من التهم الموجهة إليه بالتآمر لقتل مئات المتظاهرين في الاحتجاجات التي عمت البلاد وشهدت إنهاء حكمه أنذاك. وفي القضية نفسها، برأت المحكمة نجلي مبارك ووزير داخليته وبعض المرؤوسين، وتم إطلاق سراحهم على الفور. وفي يناير 2015، أسقطت المحكمة تهم اختلاس الأموال العامة ضد مبارك ونجليه، إذ كانت تلك آخر القضايا التي أبقت الرئيس السابق وراء القضبان.
تسبب هذا الحكم بخروج مجموعة صغيرة من الشباب الغاضبين إلى الشوراع بسبب تبرئة مبارك، وبخاصة أن العديد من أصدقائهم لا يزالوا يقبعون خلف القضبان. تم السماح للمحتجين بالتجمهر لفترة قصيرة قبل أن تفرقهم الشرطة بالقوة. هذا وتمت إعادة محاكمة مبارك ونجليه في مايو 2015 حيث حكم عليهم بالسجن ثلاثة سنوات وغرامة قدرها 14 مليون دولار. ومع ذلك، تم حساب الوقت الذي قضاه الرجال الثلاث خلف القضبان في الحبس الاحتياطي ليتم في نهاية المطاف إطلاق سراحهم.
وبعد استقالة وزير العدل الذي عينه السيسي، محفوظ صابر، عقب تصريحاته الطبقية والعنصرية ضد الفقراء في مصر والتي أثارت موجة عارمة من الغضب في أوساط الشارع المصري، تم تعيين القاضي أحمد الزند خلفاً له، وهو معارض شرس لثورة عام 2011. وأعرب رئيس نادي القضاة، وهي مؤسسة قوية تقوم بدور نقابة غير رسمية من القضاة، عن تأييده العلني لمبارك ورفض أي إصلاحات في السلطة القضائية. وأشعل تعيينه في 20 مايو 2015 غضب النشطاء الذين يروا أن تعيينه يدق مسماراً آخر في نعش ثورتهم.
وتعالت المزيد من أصوات المحللين ضد السلطة القضائية متوقعين إنزال عقوبات أشد قسوة في ظل الزند، إذ أصبح النظام القضائي المصري وسلية أخرى ضمن ترسانة النظام التي يستخدمها ضد الإخوان المسلمين وأصوات المعارضة، سواء كانت إسلامية أو ليبرالية. ومع ذلك، بات انتقاد السلطة القضائية والأحكام التي تصدرها أمر غير قانوني في مصر. فقد تم إقرار القانون لضمان استقلال النظام القضائي، ولكن قد يتم استخدامه الآن لمعاقبة أولئك الذين يعدّون “أعداءً للنظام وللدولة”.