خالد محمود
في بحيرة المياه الراكدة سياسيا، ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حجرا كبيرا ومفاجئا، بإطلاقه مبادرة رئاسية لحوار وطني هو الأول من نوعه منذ وصوله إلى سدة الحكم وتولي السلطة عقب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع محمد مرسى.
في حديثه في يوم إفطار الأسرة المصرية، وهو تقليد رمضاني، كرّسه السيسي منذ سنوات، خاطب محدثيه ليقول إنه قرر “تكليف إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة ورفع نتائج هذا الحوار إليّ شخصيًا مع وعد بقيامي بحضور هذه الحوارات في مراحلها النهائية”.
تكليف رئاسي
احتل هذا التكليف المرتبة الثامنة ضمن 13 بندا تحدث عنهم الرئيس في خطابه، الذي اعتبر فيه أن “مصر الجديدة هي دولة ديمقراطية مدنية حديثة تتسع لكل أبنائها وتسعى للسلام والبناء والتنمية”.
في خطابه الذي استعرض فيه نجاحاته في عبور الأزمات المتلاحقة، لم يفوّت الرئيس الفرصة لدعوة كافة الأجهزة المعنية ومؤسسات المجتمع المدني لإطلاق منصة حوار من خلال التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي ووزارة التضامن الاجتماعي والمجلس القومي لحقوق الإنسان لتقديم الدعم للعمل الأهلي والمجتمعي واقتراح التعديلات التشريعية اللازمة لتسهيل العمل المجتمعي بما يخدم أهداف الدولة في تحقيق التنمية المستدامة.
كما أعلن إعادة تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي التي تم تشكيلها كأحد مخرجات المؤتمر الوطني للشباب على أن توصل قاعدة عملها بالتعاون مع الأجهزة المختصة، معربا عن سعادته البالغة بخروج دفعات تم الإفراج عنهم مؤخرا.
فجأة، لم يعد صدر الرئيس يضيق بالانتقادات، ولم يعد يرى ما يخطه بنو وطنه على وسائل التواصل الاجتماعي، محض هراء.
لم يطلب الرئيس الذي سبق أن قدم نفسه ذات يوم على أنه يعرف كل المشكلات والحلول لمصر، هذه المرة من المصريين أن” اسمعوا كلامي أنا بس“، وأن “يبطلوا هري“، فقد تخلى عن سخريته اللاذعة، وحلّت مكانها لغة معتدلة، تخاطب الوطنية في نفوس الجمع.
توقف أيضا عن مصطلحاته المستفزة بعض الشيء، وتمتع بكياسة باردة لكي يدشن مبادرته لحوار يشمل الجميع، فيما عدا “هؤلاء المارقين الملوثة أيديهم بالدماء”.
وهكذا، على نحو مفاجئ، تم الإعلان عمّا يمكن اعتباره بمثابة فقدان “صواع الملك” في القاهرة، بشكل مباغت بدون مقدمات ولا سابق إنذار، بعدما أكد الرئيس أن” الوطن بات يتسع للجميع” وأن “الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”.
كلمات السيسي، مؤخرا، تلقفها المنجمون والمرجفون والوطنيون، لكن كل حسبما اتفق، أو رأى فيها ما يتفق معه أو مصالحه، أيهما أقرب.
ملف السجناء
الجمهورية الجديدة التي يسعى السيسي لتدشنيها، تتطلب مرحلة جديدة، ووجوها ليست مستهلكة، وبالتالي مصطلحات مختلفة، ربما براقة إعلاميا، تلقى صدى لدى الرأي العام المترنح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي طالت الجميع، لكنه وحده من يدفع الثمن.
ومع ذلك، فقد اعتبر محللون أن إطلاق السلطات المصرية سراح حوالي 40 سجينا محتجزا، في 24 أبريل 2022، هو دليلٌ على أن القصد بشكل أساسي هو تفادي الانتقادات المحلية والدولية. وبحسب هؤلاء المحللين، فإنه يتعين على شركاء مصر الدوليين الاعتراف علنا بأن الإفراجات المتجزأة ليست مؤشرا على انتهاء ما وصفوه بالقمع الواسع الذي تمارسه الحكومة الحالية.
وفي تقريرٍ صادر عن هيومان رايتس ووتش، فإن الإفراج عن العديد من السجناء والذي كان شرطا مسبقا لحضور معارضي الرئيس، جاء مشروطا بالتزام الناشطين الصمت وامتناعهم عن انتقاد السلطات ما يعني أنه من غير المرجح أن يؤدي الإفراج عنهم إلى زيادة في حرية التعبير في البلاد، بما في ذلك الحق في انتقاد سجل مصر السيئ في حقوق الإنسان، حيث لا يزال الآلاف قابعين في السجن بسبب نشاطهم السلمي وانتقاد حكومة السيسي.
سبق الإعلان عن هذه المبادرة، تمهيد الرئيس لها، حينما أعلن في لقاء مع صحفيين وإعلاميين، عقب جولة تفقدية لأحد المشروعات بالبلاد، اعتزامه إطلاق “حوار سياسي”، لافتا إلى “الحاجة إلى حوار سياسي؛ يتناسب مع فكرة بناء أو إطلاق الدولة الجديدة أو الجمهورية الجديدة”.
وكان السيسي قد اعتبر في ربيع العام الماضي، أن افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة، التي هي بمثابة مشروع ضخم شرق القاهرة، يمثل إعلانا عن ولادة ما وصفه بـ “جمهورية جديدة ودولة جديدة”.
آلية الحوار
مع بدء توزيع الدعوات الموجهة إلى الأحزاب السياسية الموجودة حاليا، تم تكليف المؤتمر الوطني للشباب بتنظيم الحوار المزمع تحت مظلة الأكاديمية الوطنية للتدريب. وتعهدت الأكاديمية بإدارة هذا الحوار الوطني بكل تجرد وحيادية تامة، وحصرت دورها في “التنسيق بين الفئات المختلفة المشاركة بالحوار دون التدخل في مضمون أو محتوى ما يتم مناقشته”.
كما تعهدت باعتماد مبدأ توسيع قاعدة المشاركة عبر دعوة جميع ممثلي المجتمع المصري بكافة فئاته ومؤسساته بأكبر عدد ممكن لضمان تمثيل جميع الفئات، مشيرة الى أنه سيتم مراعاة التنوع في أماكن عقد جلسات الحوار بحيث تشمل معظم مناطق الجمهورية.
وقالت إن لجنة مشتركة حيادية من مراكز الفكر والرأي سيعهد إليها تجميع مخرجات الحوار الوطني عبر جلساته المختلفة في وثيقة أولية موحدة متفق عليها من جميع القوى والفئات المشاركة يتم رفعها إلى الرئيس.
أكاديمية الحوار
عبر موقعها الإلكتروني الرسمي، تعرّف الأكاديمية عن نفسها بأنها “مؤسسة تجمع قادة المستقبل من مصر والمنطقة، لتعزيز وتطوير رأس المال البشري المؤهل المبدع والمبتكر لقيادة عملية التنمية في المجتمع، لتحقيق التأثير وخلق مستقبل أفضل، وتقول إنها ترعى المبادرات والحلول المستدامة وتسعى بقوة لتكون الحافز الرئيسي للتحول الشامل والابتكار لخلق قادة عالميين فعالين يؤثرون في مجتمعاتهم.
وتقرر إنشاء الأكاديمية في عام 2017 بقرار جمهوري يحمل رقم 434، كأحد توصيات المؤتمر الوطني الأول للشباب بمنتجع شرم الشيخ قبل نهاية عام 2016.
وتتبع الأكاديمية للرئيس بشكل مباشر ويقع مقرها بمدينة 6 أكتوبر، وتتكون من 6 مبانٍ على مساحة 10 آلاف متر مربع. وتم وضع نظامها التعليمي على غرار المدرسة الوطنية للإدارة الفرنسية وبالتعاون مع عدد من الهيئات والمعاهد والمؤسسات العلمية الدولية.
لاحقا تقرر تعيين رشا راغب مديرا للأكاديمية بقرار جمهوري برقم 247 لسنة 2018، نص على أن تُعامل المعاملة المالية لنائب الوزير.
لكن اللافت هنا أن رشا المولودة عام 1973 لا تمتلك خبرة سياسية كبيرة، لإدارة حوار سياسي معمق، حيث تخلو سيرتها الذاتية من أي إشارة الى أدوار مماثلة في السابق، كونها متخصصة في التسويق، وحاصلة على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة سياتل الأمريكية.
لا مكان للإخوان
بينما تبدو الدعوة موجهة للجميع، تحاول جماعة “الإخوان المسلمين” إلى الإيحاء بإمكانية مشاركتها عبر ترحيبها بالحوار.
وعبّر عن ذلك يوسف ندا أحد أبرز قيادات الجماعة من منفاه في سويسرا، بطرحه للمرة الثانية إمكانية الحوار على اعتبار أن باب الإخوان مفتوح لطي صفحة الماضي، شريطة “رد المظالم ووقف العدوان، وإنهاء معاناة المسجونين مـن النساء والرجال، ومعاناة أسرهم”، لكن السلطات المصرية تجاهلت هذه المقترحات.
جماعة الإخوان تعتقد أن بإمكانها الاستفادة من التحسن البطيء والمطرد في العلاقات المصرية التركية، وبدء حالة من التفاهمات السرية بين أنقرة والقاهرة تسمح باستعادة العلاقات الباردة إلى منسوب أفضل سياسيا، إلى جانب الدفع بالعلاقات الاقتصادية وتطوير التعاون المشترك في ملفات إقليمية تتعارض فيها مصالح الطرفين مثل العراق وسوريا وليبيا.
وسبق لإبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد العام للإخوان المسلمين، الإعلان في مارس 2021، استعداد الجماعة قبول أي عرض يخدم مصلحة الشعب المصري، وهو ما يعتقده باحثون بمثابة استجداء للحوار من تنظيم متشظي لم يعد يمتلك من القدرة ما يمكنه من فرض نفسه على الساحة.
لكن في مبادرة السيسي، سيجد الجميع مكانا، ما عدا من اعتاد في السابق على وصفهم بـ “أهل الشر”، أو جماعة الإخوان المسلمين، ذلك أنه “بقوة الحقائق الماثلة، فإن الحوار غير ممكن والصفقات مستحيلة”.
ومن المدهش أن يجتذب الحوار متطرفين فرّوا إلى الخارج هربا من العدالة. واعتبرت الجماعة الإسلامية نفسها مشمولة بالدعوة، حتى أنها رحبت بالحوار وأعلنت “من واقع خبرتها في العمل الوطني، وما قدمته من مبادرات بدعم المخلصين من أبناء الوطن انتهت إلى الخروج من نفق شديد الظلمة، دعمها لكل حوار جاد”.
أولويات وآمال
في المقابل، تبدو فلول السياسيين المصريين متحمسة بشروط للحوار، وهو ما عبّر عنه حمدين صباحي الذي اختصه السيسي بذكر اسمه ومصافحته علانية، بعد طول تجاهل في حفل إفطار الأسرة المصرية قبل بضعة أسابيع.
من وجهة نظر الأخير، فان أحزاب الحركة المدنية تعارض من موقع الولاء للشعب والحرص على الدولة، والبحث عن الأفضل الذي يجعل الحياة أفضل للجميع. ولخص صباحي جدول أعمال الحوار المأمول بأن يتطرق إلى “قضايا الإصلاح السياسي ونزاهة الانتخابات وإطلاق حرية الرأي والتعبير، وأن تستعيد الصحافة المصرية ما وصفه بـ “دورها التاريخي”.
في المقابل، ومن موقعه كمسؤول عن مكتبة الإسكندرية، يعترف مصطفى الفقي بضعف الأحزاب السياسية، آملا في أن يمثل هذا الحوار حالة حراك سياسي تعمل على تقوية هذه الأحزاب التي تمثل “نقطة ضعف حاليًا”، على حد قوله. وبحسب الفقي، فإن الحوار يجب “أن يبدأ بأبعاد المشكلة السكانية”.
لم نعرف بعد عدد المقاعد، لكن قيل لنا ونحن نستعد للجدل، انتبهوا فقد فقد الملك الرئيس صواعه. في القصة القرآنية بدأ يوسف النبي بأوعية إخوته الذين ألقوه في غياهب الجب، قبل وعاء أخيه، وهو يعلم تماما أن الصواع لدى الأخير عن يقين. لكن في القصة المتداولة سياسيا حاليا، فليس للرئيس من شقيق يطلب عودته ولا إخوة كادوا له، كما أنه هناك لا ملك ولا يوسف النبي وإخوته.
اختلفت مكاييل الرئيس ومعايير وزنه للأشياء، والمكيال أو الصواع، الذي يستخدمه، بات بحاجة إلى تحديث في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، ستطل موجتها الثانية قريبا، على الرغم من التطمينات الرسمية والحكومية بقدرة الدولة على عبورها.
ومع ترقب تعويم جديد ومنتظر للجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي، وما يعنيه ذلك من آثار سلبية وسيناريوهات صعبة، تكتسب الدعوة للحوار أهمية مضاعفة خاصة مع عودة الإرهاب ليطل بوجهه القبيح مجددا على الأراضي المصرية وتحديدا في سيناء التي كانت عرضة لهجومين منفصلين ومتباعدين مؤخرا، بعد فترة طويلة من الاستقرار الأمني.
عودة الإرهاب
تشن قوات الجيش المصري عملية عسكرية جديدة لتطهير منطقة شبه جزيرة سيناء، بعدما أسفر هجوم إرهابي عن استشهاد 5 من قوات الأمن المصرية.
وهذا هو الهجوم الثاني من نوعه على التوالي، بعد مرور نحو أسبوع فقط على هجوم دموي، يعتبر أحد أكثر الهجمات دموية في السنوات القليلة الماضية في شمال شبه جزيرة سيناء. وأدى هذا الهجوم إلى مقتل ضابط وعشرة جنود مصريين، إثر استهداف نقطة تفتيش عند إحدى محطات رفع المياه على الطريق المؤدي شرقا من قناة السويس إلى الحسنة بوسط محافظة شمال سيناء، وتبناه تنظيم “داعش”.
لكن قوات الجيش تعهدت في المقابل، باستمرار جهودها في محاربة الإرهاب واقتلاع جذوره. واعتبرت أن “مثل تلك المحاولات البائسة من قوى الشر ومن يعاونهم لن تزيدها إلا إصراراً على تحقيق الأمن والأمان”.
طبقة سياسية
بمعزل عن ذلك، فإن السؤال الأهم من هم هؤلاء الذين سيشاركون في الحوار، في ظل حياة حزبية غير موجودة عمليا، بل إن محللين يعتقدون أنها “ظاهرة كاريكاتورية عبثية، تعكس بحق الحالة التي وصلت إليها الممارسة السياسية من الترهل، والانتهازية، وانعدام الفاعلية، والضعف الشديد”؛ حتى” صارت الغاية القصوى للعمل السياسي هي تحقيق المصالح الشخصية للناشطين سياسيا والحزبيين، لأن كل شيء قد صار “سبوبة” للعيش، ولا مكان للقيم أو المثل السياسية”.
وبينما يرى البعض أن الأحزاب السياسية المصرية لم تتمكن حتى الآن من إقناع الأغلبية بأهمية دورها في النظام السياسي، ثمة من يرى أن “هناك حالة موت بطيء للأحزاب ارتسمت مؤخرا”، مقابل من يعتقد أيضا أن هذه الأحزاب “أسيرة كراسيها المتحركة وليست قاطرة للمجتمع”. ويصف آخرون المسيرة الحزبية بانها مسيرة للانحطاط على الأقل في الفترة التي تلت ثورة 25 يناير عام 2011.
لقد نجح صانع القرار (حتى وإن لم يدرك ذلك) في تكوين طبقة سياسية مهترئة تعيش في مناخ تغيب فيه الكفاءات والأصوات الوطنية الحقيقية، لصالح جيش هائل من المتنطعين السياسيين الذين يقتاتون على فتات السلطة ويحتلون مع ذلك صدارة المشهد الإعلامي والسياسي والحزبي.
الخلاصة هنا أنه رغم كل الشكوك في توقيت الحوار ومغزاه، والمرونة المفاجئة التي يبديها صاحب القرار، فإنه يمكن لدعوة الرئيس لحوار جديد، أن تمثل فرصة سانحة، للتفكير جديا في كيفية تحقيق المطالبة بـ “إقامة حياة ديمقراطية سليمة”، باعتبارها من الأهداف الستة التي لطالما تغنت بها ثورة يوليو 1952، فتلك حتمية التاريخ، وما يفرضه واقع مصر المتغير – الثابت، جغرافيا واستراتيجيا”..