مات ناشد
في 22 من يناير الجاري، اُعتقلت الصحفية البارزة سيداف كاباس البالغة من العمر 53 عامًا، ووُجهت لها تهمة إهانة الرئيس رجب طيب أردوغان. وكانت كاباس قد استشهدت على شاشة التلفاز بقول مأثور هو أنه “عندما يصل الثور إلى القصر فلن يُصبح ملكًا، بل يتحول القصر إلى حظيرة” في إشارة إلى أردوغان، ثم أعادت نشر ما قالته في تغريدة على تويتر، وهو ما أغضب الرئيس وحزبه الحاكم.
وقد يُحكم على كاباس بالسجن لمدة تتراوح ما بين عام إلى أربعة أعوام، وذلك رغم احتجاجات المنظمات الحقوقية في تركيا والخارج. وترى تلك المنظمات أن الحكومة التركية تستخدم المادة 299 لتقييد حرية التعبير، وهي المادة التي أُقرّت عام 1926 لتجريم إهانة الرئيس.
تولى أردوغان الرئاسة للمرة الأولى في عام 2014 وهو منصب رمزي في ظل النظام البرلماني التركي. ولكن بعد أربع سنوات، فاز أردوغان وحزبه باستفتاء يقضي بتغيير نظام البلاد إلى النظام الرئاسي، وهو ما منحه فعليًا سلطات تكاد تكون مطلقة. ومنذ توليه الرئاسة للمرة الأولى قبل 8 سنوات، أُجري معه مجموعة 160,169 تحقيقًا بتهمة إهانة أردوغان. وقد وُجهت التهم إلى نحو 35,507 شخصًا في هذه التحقيقات وأُدين من بينهم 12,881 شخصًا.
واستمرت هذه الممارسات رغم دعوة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ديسمبر 2016 إلى تعديل المادة 299 أو إلغائها. ولمثل هذه الدعوة شأن مهم نظرًا لكون تركيا من الدول الموقعة على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهو ما يعني أن حكومة أردوغان ملزمة باحترام حرية التعبير. كما حثت الأمم المتحدة تركيا على إلغاء أي قوانين تشكّل حماية خاصة للشخصيات السياسية بما في ذلك الرئيس.
لكن بدلًا من امتثال تركيا للالتزامات الدولية، سعى أردوغان إلى فرض المزيد من الرقابة على الصحفيين وحرية التعبير. ويبدو أن هدف أردوغان الرئيس هو شبكات التواصل الاجتماعي، التي يتهمها بتضليل الرأي العام وتقويض الديمقراطية. ورغم أن ذلك قد يكون صحيحًا إلى حدّ ما، يُخشى أن يستعمل أردوغان هذه الحجة ذريعة لقمع أي شخص ينتقده عبر الإنترنت.
وقد كان ذلك بالفعل هو الدافع وراء تشريع قانون وسائل التواصل الاجتماعي الجديد في تركيا، والذي دخل حيز التنفيذ في أكتوبر 2020. ويجرّم القانون ما تعتبره الدولة “نشر معلومات مضللة” و”أخبارًا كاذبة”، ويُحاكم المدانون بهذا القانون بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات. كما يجب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تضم أكثر من مليون مستخدم، تعيين ممثلين قانونيين وتخزين بيانات المستخدمين داخل تركيا. وقد أجبر القانون الجديد منصات فيسبوك وتويتر ويوتيوب على فتح مكاتب في تركيا من أجل استمرار عملها في البلاد، وقد تتعرض أي شركة تخالف هذا القانون إلى غرامات بملايين الدولارات وتقليص عرض نطاقها الترددي.
يخشى أردوغان على الديمقراطية من خطر نشر المعلومات المضللة حسبما يزعم، لكن المراقبين المؤيدين للديمقراطية في جميع أنحاء العالم يرون أن رقابة الدولة أكبر تهديد للديمقراطية في تركيا. وقد صنفت منظمة فريدوم هاوس الأمريكية غير الهادفة للربح بأن تركيا دولة “مقيدة للحرية”، واستشهدت بقوانين وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة باعتبارها جزءًا من مناخ عام يهدف إلى ترهيب المعارضين السياسيين. وأدان تقرير المنظمة لعام 2021 على وجه التحديد القوانين التركية التي تعاقب أي شخص يسرّب أو يكشف عن الأرقام الفعلية لإصابات ووفيات كوفيد-19. واستهدف القانون العاملين بالقطاع الطبي لنشرهم معلومات بِشأن الوباء بشكل مستقل، أو انتقاد تعامل الحكومة مع الجائحة.
لكن الصحفيين والإعلاميين هم أكثر المتضررين من القانون. فوفقًا للجنة حماية الصّحفيين، احتلت تركيا المرتبة السادسة في قائمة أكثر الدول سجنًا للصحفيين في عام 2021. والناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي ليسوا بمأمن عن هذا القانون. ففي ديسمبر الماضي، اعتقلت السلطات أربعة من مستخدمي اليوتيوب الأتراك في مدينة أنطاليا الجنوبية. وجاءت هذه الحملة بعد أيام قليلة من اليوم العالمي لحقوق الإنسان وبعد يوم واحد من تأكيد أردوغان على ضرورة حماية الأتراك من نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة.
ويستخدم أردوغان المادة 299 لاستهداف المعارضين في الخارج أيضًا. فقد رفع دعاوى قضائية في المحاكم التركية ضد صحفيين يعملون في صحيفة ديموكراتيا اليونانية من بينهم رئيس التحرير. وتأتي هذه الدعاوى ردًا على نشر الصحيفة مقال افتتاحي في 18 سبتمبر الماضي ضمن تغطيتها لتوتر العلاقات بين أنقرة وأثينا، وترى تركيا أن المقال تضمن إهانة للرئيس. كما رفع أردوغان دعوى قضائية ضد ثلاثة كتّاب ساخرين من مجلة شارلي إبدو الفرنسية المثيرة للجدل “لإهانة” أردوغان، وذلك بعدما نشرت شارلي إبدو رسمًا كاريكاتوريًّا في صدر صفحتها الأولى في أكتوبر 2020.
وبطبيعة الحال، لم يحضر أي من المتهمين جلسات المحاكمة، لكن معارضي أردوغان الذين يعيشون في دول أقل ديمقراطية يواجهون خطرًا حقيقيًا. وحسبك قضية نيشان ديرهاروتيونيان، وهو مقدم برامج لبناني من أصل أرمني يقيم في لبنان حيث يواجه تهمة “إهانة تركيا”. وكان نيشان قد وصف أردوغان بالخبيث على الهواء، وبرر موقفه مستشهدًا برفض أردوغان الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن في تركيا العثمانية عام 1915، وهي الإبادة التي يجمع عليها كل من هم خارج تركيا.
وشنّ نشطاء لبنانيون مؤيدون لتركيا حملات عبر الإنترنت ضد نيشان، ثم قدمت السفارة التركية شكوى رسمية إلى وزارة الخارجية اللبنانية. وورد في شكوى السفارة أن مقدم البرنامج التلفزيوني قد انتهك حدود حرية التعبير بعد إهانته لأردوغان. وأعقب ذلك قيام محام لبناني برفع دعوى قضائية رسمية نيابة عن تركيا وقبلتها النيابة اللبنانية.
ويتضح من حالة نيشان سعى تركيا الحثيث إلى فرض رقابة قانونية على المعارضين حتى خارج حدودها. لكن فرصة الإعلامي اللبناني الأرمني في النجاة من العقوبة أفضل من المواطنين الأتراك الذين انقلبت حياتهم رأسًا على عقب بسبب المادة 299، وهم أكبر من أن نحصيهم. فهذه “كاباس” مثلًا وقد صارت رهن الاعتقال في انتظار المحاكمة وفق إجراءات غير دستورية، ولا عجب. فبعد تعيين المؤيدين من الشباب في الجهاز القضائي التركي على مدار سنوات، ضمن أردوغان استخدام القانون لإسكات المعارضين.