بدأت مئات الأسر السورية، منذ مايو 2018، تلقي إخطاراتٍ بموت أقاربهم الذين يقبعون في سجون النظام السوري. فقد اختفى عشرات الآلاف من المواطنين، من بينهم نشطاء السلام والمتمردين والصحفيين وعمال المنظمات وغيرهم من المواطنين، في السجون السورية، بينما تعاني أسرهم الأمرين دون حصولهم على أي معلومات.
بدأ الأمر برمته بتكتمٍ شديد، إلا أن مئات العائلات ممن لديهم أقارب بالسجون بدأوا باكتشاف وفاة أحبائهم أثناء الاحتجاز من خلال إغلاق ملفات السجل المدني الخاصة بهم وإعلان وفاتهم. يكتشفون ذلك من خلال الزيارات الروتينية إلى مكاتب السجل المدني المحلية، أو بعد مكالمات هاتفية غير متوقعة من لجان المصالحة المحلية. وسرعان ما بدأت الطوابير تعمّ مكاتب السجل المدني لمعرفة أي أخبار.
القضية حساسة للغاية، ذلك أن حوالي 82 ألف مواطن سوري اختفوا قسراً أو تم توقيفهم رسمياً منذ بداية الحرب الأهلية في البلاد في عام 2011، وفقاً لمنظمة العفو الدولية. ويفصل تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في 2015، والمعنون: “بين السجن والقبر: حالات الاختفاء القسري في سوريا،” كيف ألقت السلطات السورية القبض على أعداد كبيرة من معارضي الحكومة والأفراد الذين اعتبرتهم “غير موالين” واختفوا قسراً. كما وثَّق التقرير عمليات الاختطاف والتعذيب والإعدام التي ارتكبتها جماعات المعارضة المسلحة.
أحد السجناء الذين ظل مصيرهم طي الكتمان لفترةٍ طويلة هو شقيق عبد الرحمن الدباس، إسلام، الذي شوهد آخر مرة في سجن صيدنايا عام 2012، وهو سجنٌ سيء السمعة بالقرب من دمشق يشتهر بممارسته التعذيب. كان ذلك بعد بضعة أشهرٍ من اعتقال إسلام، الذي كان طالب هندسة آنذاك، على أيدي قوات الأمن بسبب مشاركته في مظاهراتٍ مناهضة للحكومة. وهذا العام، اكتشفت إبنة عم الدباس، بعد أن تقدمت بطلبٍ للإطلاع على السجل المدني الحكومي، وفاة إسلام المسجلة بتاريخ 15 يناير 2013. فقد بدأت الحكومة السورية بالاعتراف بوفاة السجناء لديها، إلاأنها لم تقدم مزيداً من التفاصيل للعائلات، حيث ذكرت غالبية الشهادات الصادرة أن سبب الوفاة يعود إلى التعرض لنوبةٍ قلبية أو سكتةٍ دماغية، لكن أقارب المعتقلين المتوفين يشتبهون في أنهم ربما تعرضوا للتعذيب حتى الموت أو شنقهم دون محاكمة. لم يتم إرجاع أي جثث للضحايا، أو حتى تم إخبارهم بأماكن الدفن.
وقالت ديانا سمعان، الباحثة المعنية بشؤون سوريا بمنظمة العفو الدولية، لنا في فَنَك: “منذ عدة سنوات، كانت منظمة العفو تدعو الجماعات المسلحة والحكومة على حد سواء إلى إطلاق سراح المخطوفين والسجناء أو إعلام عائلاتهم عن مصيرهم.” وأضافت “إلا أن الطريقة التي كشفت فيها الحكومة عن الأمر بعيدة كل البعد عن الأخلاقية. فهم يعرفون فقط إذ ما كان الشخص متوفى أو لا يزال على قيد الحياة، ولا يستلم جميع الأشخاص شهادة وفاة، وفي بعض الأحيان يكون الأمر عبر تحديث السجل المدني فحسب. لا يوجد أي تفسيرٍ لمكان وجود المتوفى، وسبب الوفاة، ومكان الدفن. تمكنت عائلات أخرى من الحصول على شهادة وفاة من الجيش، ولكنها عادة ما تشير إلى نوبة قلبية أو سكتة دماغية دون توضيحٍ للأسباب.”
لا يمكن جمع بيانات حقيقية حول أعداد السجناء الذين تم رسمياً إعلان وفاتهم: بعض المنظمات تقول أن الرقم يصل إلى حوالي 13 ألف حالة مؤكدة، بينما يذكرالبعض الآخر 312 حالة، وآخرون 836 حالة. وكما تقول سمعان “ما هو مؤكد أنه تم الكشف فقط عن عددٍ قليلٍ جداً من الحالات.” ومن بين حالات اختفاء السوريين الذين دعت منظمة العفو الدولية إلى إطلاق سراحهم، والذين أعلنت وفاتهم، ثلاثة نشطاء سلام بارزين هم: يحيى شوربجي، ومعن شربجي، وإسلام الدباس. فقد كان إسلام الدباس طالب هندسة، في حين لم يُشاهد الأخوان يحيى ومعن شربجي منذ أن تم احتجازهما في داريا، إحدى ضواحي دمشق في 6 سبتمبر 2011.
وبالنسبة للعائلات الأخرى التي لا تزال تنتظر اكتشاف ما إذا كان أقاربها على قيد الحياة، فإن الأمل ضعيف للغاية. ففي عام 2017، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً يحقق في عمليات الإعدام الجماعية والإبادة في سجن صيدنايا في سوريا، وذكر التقرير “قُتل آخرون كثر من المحتجزين في سجن صيدنايا جراء تكرار تعرضهم للتعذيب والحرمان الممنهج من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية. وُيدفن قتلى صيدنايا في مقابر جماعية. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن مثل هذه الممارسات المنهجية والواسعة النطاق تُرتكب بدون تفويض من الحكومة السورية على أعلى مستوياتها.” كما قدّر تقرير منظمة العفو الدولية إعدام 13 ألف سجين.
وقد وثقت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية الظروف اللاإنسانية في مراكز الاحتجاز السورية، كما أن شهادات السجناء الذين أفرج عنهم ركزت على التعذيب الذي تعرضوا له في الداخل. فالسجون مكتظة وتفتقر للشروط الصحية، وبالكاد يُمنح السجناء طعاماً يسد رمقهم وفي بعض الأحيان يتضورون جوعاً، ويعانون من الإهمال الطبي. كما يُمارس التعذيب على نطاقٍ واسع، فقد تعرض رجالٌ ونساءٌ على حد سواء للاغتصاب والاعتداء الجنسي. وعلاوة على ذلك، تضمن تقرير قيصر، وهو بعثة تحقيقٍ تابعة للأمم المتحدة بشأن السجون ومراكز الاحتجاز السورية، والذي صدر في عام 2014، على نحو 55 ألف صورة توضح التعذيب والإساءة التي تعرض لها حوالي 11000 شخص ذكر التقرير إنهم لقوا حتفهم في السجون السورية خلال أول عامين من النزاع. ويستند التقرير أيضاً إلى 621 مقابلة، بما في ذلك مقابلاتٍ أجريت مع أكثر من 200 معتقل سابق شهدوا حالة وفاة أو أكثر أثناء الاحتجاز.
وقالت لنا ديانا سمعان إنه “من الصعب معرفة ذلك، إلا أن الحكومة لربما تواصل إصدار شهادات الوفاة،” على الرغم من أنها أكدت على حقيقة أن عدم استعادة الرفات أو عدم معرفة ما حدث لأحد الأقارب هو معاناة أخرى بحد ذاته تفاقم حزن العائلات. إذ أضافت “نعلم أنهم عانوا بالفعل من دوامة ألمٍ لعدم معرفتهم مصير أقاربهم.” وتابعت القول “ولكن [بمجرد معرفتهم أن أحبائهم لقوا حتفهم] يدخلون في دوامةٍ جديدة من العذاب لأن لديهم العديد من الأسئلة التي يبحثون عن إجاباتٍ عليها. من المهم بالنسبة لهم معرفة المزيد للتصالح مع حقيقة أن أحبائهم قد توفوا ويدخلون دورة الحزن.”
مع استمرار حكومة بشار الأسد التزام الصمت الكامل تجاه الأمر، فمن الصعب معرفة الأسباب التي دفعت السلطات إلى الكشف عن وفاة بعض السجناء. فقد قال حسن حسن، الزميل المقيم في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، لصحيفة سيدني مورنينغ هيرالد: “هذا منطقي في هذه الأيام بعد أن أمّن النظام معظم الجنوب. كان النظام يستعد لفترة ما بعد الحرب من خلال شرعيةٍ جديدة وقد يكون هذا جزءاً منها.” ويتفق خبراء حقوق الإنسان والمراقبون الآخرون على أن إفصاحات الحكومة السورية تعكس الثقة المتزايدة للرئيس بشار الاسد بينما تجتاح قواته آخر الجيوب التي يسيطر عليها المتمردون. ولربما يكون الأمر ناتجٌ عن الضغط الذي مارسه المجتمع الدولي على حكومته، بمن فيهم حلفاء سوريا.
بغض النظر عن أسباب الكشف عن الأسماء، تطلب عائلات المفقودين اليوم تفاصيل أوفى عن مصير وأماكن رفات أحبائهم، على أمل أن يكون قادرين، يوماً ما، على المضي قدماً في ظل استمرارهم بالعيش تحت سلطة من قتلوهم.