وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التراث الثقافي العراقي: ضحية الحرب والتطرف

المقدمة

تدمير مسجد النوري 2017

منذ أن استولى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الموصل شمال العراق في يونيو 2014، استحوذ تدمير الكنائس والمواقع الإسلامية وغير الإسلامية الشامخة منذ قرون، ونهب المتاحف والمكتبات على أيدي مسلحي “داعش” على اهتمام العالم بأسره. ومع سيطرة “داعش” في الوقت الراهن على أجزاء واسعة من العراق، بات التراث الثقافي الفريد للبلاد أكثر عُرضة للخطر من أي وقتٍ مضى.

ووصفت اليونسكو، وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة والمسؤولة عن حماية وصيانة المواقع الأثرية، الهجمات على التراث الثقافي العراقي باعتباره شكلاً من أشكال “التطهير الثقافي.” واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 21 مايو 2015 لحماية التراث والتنوع الثقافي العراقي.
ومع ذلك، كان هذا التراث، الذي يضم آثاراً للحضارات البابلية والآشورية وغيرها، معرضاً للخطر بالفعل قبل توسع “داعش.”

نهب كنوز العراق

أدى عدم الاستقرار الذي سببه تمرد الشيعة والأكراد ضد نظام صدام حسين بعد حرب الخليج (1990-1991) إلى فتح الطريق أمام نهب 11 إلى 13 متحف وطني في العراق، وخصوصاً في الجنوب والشرق. فقد تمت سرقة آلاف القطع الأثرية ومئات المخطوطات، كما باتت عمليات الحفر غير المشروعة في العديد من مواقع التنقيب في البلاد أمراً شائعاً. وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية على العراق عام 2003، ازدادت عمليات النهب. وفي الأسابيع الثلاث الأولى التي عمت فيها الفوضى بعد سقوط صدام حسين، هاجم الناهبون واللصوص، الذين يعمل بعضهم وفقاً للتقارير لصالح عصابات فنية عالمية، المتحف الوطني في العاصمة بغداد، مما أثار غضب العديد من العراقيين والمجتمعات الدولية المعنية بحماية الآثار، إلا أنّ القوات الأمريكية لم تفعل شيئاً في هذا الصدد.

وقُدرت سرقة حوالي 15,000 قطعة، بينما تعرضت غالبية القطع التي لا يمكن حملها إلى أضرار لا يمكن اصلاحها. وبعد مناشدات من مختلف الجهات، بما في ذلك السلطات الدينية الإسلامية، تمت إعادة حوالي ثُلثي المفقودات أو على الأقل تحديد مواقعها. وهناك مخاوف من عدم القدرة على استرداد عدد من أهم القطع، على الرغم من الجهود المتأخرة من اليونسكو والانتربول ومكتب التحقيقات الفدرالي.

استغلت العصابات الإجرامية انعدام الأمن واستخدمت كل من شبكات التهريب القديمة، التي تم أنشاؤها في عهد صدام حسين لتجنب العقوبات، والشبكات التي أنشأت حديثاً.

المواقع الأثرية، مثل مدينة مشكان شابير، وهي مدينة بابلية قديمة يرجع تاريخها إلى عام 1750 قبل الميلاد وتل فارا، وهي مستعمرة متحضرة يعود تاريخها إلى بداية عصر الأسرات أي حوالي 2500 قبل الميلاد، تعرضتا لهجوم على نحوٍ متزايد وتم نهب المصنوعات اليدوية للإتجار غير المشروع. وأظهرت الصور الجوية التي نشرتها شبكة التراث العالمي في عام 2011 الحفر والثقوب في موقع أوما الأثري، وذلك دليل على أن عمليات نهب واسعة النطاق جرت هناك.

وتأتي التهديدات التي يتعرض لها التراث الثقافي العراقي من عناصر خارجية أيضاً. ففي أبريل 2003، أقامت القوات الأمريكية قاعدة عسكرية، بما في ذلك مهبط للطائرات العامودية تبلغ مساحته 150 هكتار، على آثار بابلية، حيث تسبب استخدام الجرافات بأضرار بالغة لأجزاء من الموقع، وفقاً للمتحف البريطاني. وفي السابق، كان الموقع قد تعرض لأضرار عندما تم نصب آثار جديدة غير ملائمة خلال مشاريع للترميم بتكليف من صدام حسين.

وعلاوة على ذلك، تعرضت المواقع الأثرية لضغوطات كبيرة بسبب التنمية الحضرية، مثل بناء مناطق سكنية على أنقاض مدينة نينوى الأثرية.

وفي عام 2006، فجر تنظيم القاعدة في العراق ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، واللذان يعدان من المزارات الشيعية الأكثر أهمية في العالم والتي بُنيت عام 944، وباتت قبته الذهبية الشهيرة ركاماً. وكان هذا الهجوم حافزاً لإندلاع الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك. كما تعرض المزار للهجوم مجدداً عام 2007.

محو بقايا "الآخرين"

بعد الاستيلاء على الموصل في شهر يونيو 2014، بدأ تنظيم “داعش” تدمير مساجد الشيعة والقبور والأضرحة الصوفية، أي تراث الطوائف الإسلامية التي لا تتوافق مع تفسير “داعش” الصارم للإسلام. وتم تزويد مسجد الشيخ جواد في تلعفر، وهي مدينة كبيرة ذات أغلبية شيعية تبعد حوالي 56 كيلومتراً عن مدينة الموصل، بالمتفجرات وتسويته بالأرض. ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش، دمرت سبعة أماكن عبادة للشيعية في تلعفر وغيرها من أماكن العبادة في القرى الشيعية على الحدود مع الموصل. كما هجرت عصابات “داعش” أيضاً سكان القرى الشيعة التركمان.

ولا تقتصر حملة “داعش” في التدمير على المواقع الشيعية. ففي يوليو 2014، تم تفجير مقام النبي يونس في الموصل، وهو موضع تبجيل من قِبل المسلمين السُنة، وهو ما أكدته كل من المصادر المحلية وشرائط الفيديو التي عرضتها “داعش.” كما هدمت “داعش” قبر النبي جرجس، وهو نبي أسطوري من القرن الأول، والمسجد التابع له؛ كما تم أيضاً هدم القبور والأضرحة الأخرى بنفس الطريقة. ومع نهاية شهر فبراير 2015، عمد “داعش” إلى تدمير مسجد الخضر الذي بُني عام 1133 والذي سمي تيمناً بشخصية إسلامية صوفية محبوبة. ويعدّ هذا جزءاً من الحملة التي تستهدف تخليص المنطقة من جميع المزارات الصوفية.

كما وردت تقاير بأن “داعش” دمرت عدداً من المواقع المسيحية، بما في ذلك كنيسة العذراء مريم شمال الموصل والكنيسة الخضراء التي يعود إنشاؤها إلى القرن السابع في تكريت، وأحد أقدم الكنائس في الشرق الأوسط.

وبالإضافة إلى الاستيلاء على الأراضي في العراق وسوريا، تسعى “داعش” إلى محو بقايا المجتمعات والأديان والحضارات السابقة الأخرى، وبالتالي تهيئة الظروف للخلافة المعلن عنها. ويتضمن هذا المباني، إلا أنه يشتمل أيضاً على غيرها من التحف الثقافية الأخرى مثل الكتب والآثار القديمة. كما حرق مسلحو “داعش” مكتبة جامعة الموصل في ديسمبر 2014، وتم تدمير المكتبة العامة المركزية في المدينة، ويُقال أنهم لم يتركوا سوى الكتب الإسلامية.

وإلى جانب “التطهير الثقافي” تحاول “داعش” إجراء تغييرات ديموغرافية دائمة في شمال غرب العراق وذلك وفقاً لكبير باحثي مركز البيان للدراسات والتخطيط في بغداد, سجاد جياد. فقد نزح مئات الآلاف من الناس من الأقليات في المنطقة (المسيحيين واليزيديين والتركمان الشيعة). وكما يقول جياد، يعوّل مسلحو “داعش” على جيران القرى والمدن التي يهاجمونها لتنفيذ التطهير العرقي، وبالتالي تفتيت المجتمعات التي غالباً ما كانت تعيش بسلام مع بعضها البعض.

ويبرر “داعش” تدمير التماثيل والقطع الأثرية الأخرى باعتبارها وثنية، وبالتالي فهي حرام. إن أيديولوجية “داعش،” المرتبطة بالمذهب الوهابي في الإسلام، ترفض أي شكلٍ من أشكال الشرك بالله وعبادة الأصنام.

من جهةٍ أخرى، تصدّر التدمير المزعوم أو هدم المواقع غير الإسلامية القديمة في شمال العراق العناوين الرئيسية في النصف الأول من عام 2015. وحتى شهر فبراير، لم يتم استهداف سوى عدد قليل جداً من المواقع الأثرية، وفقاً لكريستوفر جونز، وهو طالب دكتوراة يتخصص في تاريخ الشرق الأدنى القديم وصاحب مدونة Gates of Nineveh. ولكن تغيرت هذه الصورة بعد صدور شريط فيديو في 26 فبراير 2015، يُظهر عناصر من “داعش” يقتحمون متحف الموصل ويقومون بتحطيم التماثيل بالمطارق الثقيلة. وبعد هذا الفيديو، أفاد مسؤولون من وزارة السياحة العراقية تجريف “داعش” لآثار المدينة الآشورية نمرود، وذكر مسؤول كردي أن “داعش” هاجمت مدينة خورسباد الأثرية والتي يعود تاريخها إلى 700 قبل الميلاد. ومع ذلك، لم تُعرض أي أشرطة فيديو تُظهر تدمير المواقع، حيث جاءت جميع هذه الإدعاءات فقط من مصادر حكومية.

وفي أبريل، أظهر فيديو آخر تدمير المسلحين تمثايل قديمة تمثل رؤوساً على جدران المعبد الكبير في الحضر. وفي حين ادعى مسؤولون عراقيون أنّ “داعش” عمدت إلى تدمير وجرف الموقع، إلا أنه لم يكن هناك أي دليل يدعم هذه المزاعم. كما أظهر فيديو آخر لـ”داعش” عناصره المتشددين وهم يجرفون تماثيل مدينة نمرود ويفجرون القصر الشمالي الغربي في المدينة القديمة.

ومن الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ تقارير الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية العراقية لا يمكن دوماً التحقق منها بشكل مستقل، كما أنّ العديد من الأطراف التي تورد مثل هذه التقارير لها أجندتها الخاصة. ومع ذلك، فإن من مصلحة الحكومة العراقية الإبلاغ عن الأضرار بدقة في حال كانت تعوّل على كسب التأييد الدولي.

وزعم مسؤول في الدولة العراقية أنّ “داعش” تستخدم تدمير المواقع كغطاء لنهب القطع الأثرية، حيث يتم تدمير القطع كبيرة الحجم تمهيداً لنقلها في حين تتم إزالة تلك القطع التي يمكن بيعها. فضلاً عن ذلك، فإن سجل نهب “داعش” في سوريا يؤكد هذه المزاعم. ووفقاً لبعض متابعي هذه القضية، فإن اهتمام “داعش” تدمير هذه المواقع الأثرية لا علاقة له بالعقيدة بل هو مالي بحت، مُشيرين، كما يُقال، إلى تورط علماء أثار ومقاولين من ذوي الخبرة.

Advertisement
Fanack Water Palestine