المقدمة
أعطت الولايات المتحدة في سياستها “الاحتواء المزدوج” (التي تستهدف كل من العراق وإيران)، بعد انتصارها العسكري في الكويت، الأولوية لتفكيك مخزون ومرافق إنتاج أسلحة الدمار الشامل في العراق. تم إنشاء لجنة خاصة للأمم المتحدة (UNSCOM) لهذا الغرض، تألفت من هيئة دولية من خبراء أسلحة. ولإجبار العراق على التعاون، واصلت الأمم المتحدة فرض عقوباتها الشاملة. بدا وكأن UNSCOM أحرزت تقدماً جيداً في السنوات الأولى، على الرغم من رفض العراق التعاون منذ البداية.
إلا أن حدود عملها أصبحت واضحة، عندما فرّ حسين كامل المجيد، صهر صدام حسين ووزير الصناعات العسكرية، إلى الأردن في آب/أغسطس عام 1995 وكشف عن خطط العراق السرية للحرب البيولوجية إلى وكالة المخابرات المركزية. أدت إعلانات حسين كامل المجيد إلى تسميم الأجواء بين UNSCOM وبغداد، وبعد ذلك تلاحقت الحوادث والإنذارات النهائية. أدى هذا إلى انسحاب أعضاء لجنة UNSCOM في كانون الأول/ديسمبر عام 1998. ردت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بعملية ثعلب الصحراء (17-20 كانون الأول/ديسمبر) بقصف جوي للمنشآت العسكرية وغيرها. ولم تستأنف UNSCOM عملها في العراق بعد ذلك أبداً، وبعد أربعة سنوات تم استبدالها بلجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقيق والتفتيش (UNMOVIC).
خلال تسعينات القرن العشرين، وقعت سياسة الرئيس الجمهوري جورج بوش الأب وخليفته الرئيس الديمقراطي بل كلينتون، تحت ضغط. فقد ثبت بأن العقوبات كانت ذات تأثير ضار بشكل كبير على الشعب العراقي، بينما بالكاد كان لها تأثير على النظام. حيث انتقلت صور الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد إلى جميع أنحاء العالم، وأخذت وكالات الأمم المتحدة تشير إلى أرقام مخيفة. فعلى سبيل المثال، توفي نصف مليون طفل تحت سن الخامسة بسبب سوء التغذية والأمراض المرتبطة بها خلال السنوات الخمس الأولى من العقوبات. وهذا ما أثار شكوكاً خطيرة في الغرب والعالم العربي عما إذا كانت الغاية قد بررت الوسيلة. وأدت الانتقادات المتزايدة إلى اعتماد مجلس الأمن القرار رقم 986 في 14 نيسان/أبريل عام 1995، والذي وضع أساس برنامج النفط مقابل الغذاء، حيث تستطيع بغداد بموجبه استيراد المواد الغذائية والأدوية والمنتجات الأخرى، تحت إشراف صارم من الأمم المتحدة، يتم دفع ثمنها من عائدات النفط.
من خلال التأثير غير المقصود للبرنامج اكتسب نظام صدام حسين قوة شرائية جديدة، خصوصاً عندما سُمح للعراق بتصدير غير محدود للنفط. مكّن ذلك بغداد من اللعب على صراع المصالح ضمن التحالف المضاد للعراق بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة وشركاء العراق القديمين في التجارة روسيا وفرنسا من جهة أخرى، فضلاً عن الشركات الدولية.
عن طريق التهريب واسع النطاق للنفط والسجائر وغيرها من البضائع وعقد صفقات سرية مع شركات أجنبية كانت تنقل البضائع في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء، استطاع صدام حسين ومعاونوه المقربون من جمع مبالغ مالية كبيرة خلال سنوات الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة. وتم استخدامها لتمويل أنماط حياة فاخرة وحشد مصادر جديدة للدعم، تتضمن زعماء قبائل.
في غضون ذلك، فشلت المحاولات المبذولة بالتعاون مع المعارضة العراقية للتحريض على انقلاب من خلال عمليات سرية داخل هيكل السلطة العراقية. كما زاد اندلاع الانتفاضة الثانية في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل من الضغوط على سياسات الاحتواء في أيلول/سبتمبر 2000. فأدت المشاكل الكثيرة الحاصلة هناك إلى اعتبار الكثيرين في العالم العربي على أن صدام حسين يشكل مشكلة أقل إلحاحاً.
تغيير السياسة
قوّضت كل هذه التطورات دعم التحالف المضاد للعراق. وبتسارع متزايد، تم انتهاك محظورات عديدة، مثل مناطق الحظر الجوي، بشكل علني؛ وبالتالي بدا وكأن صدام حسين – الذي أصبح بطل الشارع العربي لتحديه الولايات المتحدة – على وشك العودة إلى السياسة الإقليمية. هذا ما اضطر واشنطن إلى مراجعة سياساتها بشأن العراق.
تم اتخاذ أولى خطوات جعل السياسة أكثر وضوحاً عندما كان الرئيس كلينتون لا يزال في منصبه. وتحت ضغط قوي من المحافظين الجدد الذين كانوا في تزايد مستمر في الحزب الجمهوري، صوّت الكونغرس على قانون تحرير العراق في خريف عام 1998. وسّع هذا القانون من نطاق أنشطة زعزعة الاستقرار. وأجريت اتصالات، وتم تكثيف الاتصالات القائمة، مع مختلف جماعات المعارضة العراقية، والتي كانت تعمل من خارج العراق في معظم الحالات.
لسنوات كان العراقيون ينظمون أنفسهم لمعارضة القوة الصاعدة للحكومة المركزية، والتي أصبحت في ظل النظام البعثي وحكم صدام حسين دولة استبدادية بوليسية وحشية إلى حد ما. تقريباً جميع الأحزاب والمنظمات التي انضمت كانت ذات طبيعة إيديولوجية وعرقية.
فعلى سبيل المثال، كان هناك الحزبان الكرديان القوميان – الديمقراطي الكردستاني (KDP) والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) – وحركة كردستان العراق الإسلامية الصغيرة (IMIK)، بالإضافة إلى الحركة الديمقراطية الآشورية والرابطة الوطنية للتركمان والجبهة التركمانية. وكان من بين الأحزاب ذات الاتجاه الإيديولوجي: حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (SCIRI)، إضافة إلى الحزب الشيوعي العراقي، وكان لجميعها جذور في المجتمع العراقي. كما تشمل المجموعات السياسية التي تشكلت في المنفى: المؤتمر الوطني العراقي (INC) وحركة الوفاق الوطني العراقي (INA) والذي يسمى الآن بـ “ائتلاف العراقية”.
بسبب تعارض برامجها السياسية، بدا من المستحيل على أحزاب المعارضة المختلفة تشكيل جبهة دائمة في ظل نظام صدام حسين. كما كان هناك الكثير من سفك الدماء بين العرب والأكراد وبين العرب الشيعة والسنّة خلال العقود الماضية. فحتى أثناء الأزمات، مثل الحرب مع إيران والهزيمة المذلة للجيش في الكويت، لم تنجح المعارضة المنظمة في تشكيل جبهة متماسكة لتقديم نفسها كبديل عملي للنظام العراقي. وكان هذا هو السبب الذي دفع أطراف المعارضة المختلفة إلى الالتئام أخيراً، علناً أو ضمناً، وراء سياسة واشنطن بشأن العراق.
بعد تولي الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن منصبه في كانون الثاني/يناير عام 2001، تسارعت الأمور. كان للمحافظين الجدد تمثيل قوي في حكومته وبين مستشاريه. تم تحديد وتسريع الاتجاه الإمبريالي الجديد والأحادي الجانب لسياسة الولايات المتحدة الخارجية التي دافعوا عنها بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 على برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون. وبعد أربعة أشهر، أعلن الرئيس بوش في خطاب “حالة الاتحاد” بأن العراق وجمهورية إيران الإسلامية وكوريا الشمالية الشيوعية يشكلون “محور الشر”.
عند هذه النقطة، بدأت الولايات المتحدة مع بريطانيا بوضع خطط لإسقاط نظام صدام حسين بوسائل عسكرية. وتماماً كما حصل في عام 1990، سعوا إلى الحصول على تفويض من مجلس الأمن في الأمم المتحدة، مدعين بأن العراق لا يزال يمتلك أسلحة الدمار الشامل ورفض التعاون مع فريق التفتيش عن الأسلحة الذي أعادت الأمم المتحدة تأسيسه. وفي وقت لاحق، وجهت الولايات المتحدة وبريطانيا تهمة غير مقنعة إلى نظام العراق بأنه على علاقة وثيقة بشبكة القاعدة التي يتزعمها أسامة بن لادن. (بعد الغزو، استنتجت لجان التحقيق الأمريكية والبريطانية بأن النظام العراقي لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل وليس له ارتباطات بتنظيم القاعدة).