وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصّاغة اللّبنانيّون يحيون الإرث الفينيقيّ المفقود

الصّاغة اللّبنانيّون يوفرون رؤى ثاقبة حول الشخصيات التاريخية، والمجوهرات هي وسيلة لإعادة قصّ حكايات ضاعت عبر الزّمن.

الصّاغة اللّبنانيّون
تصاميم المجوهرات الفينيقية من صنع جيلبرت حكيم، صاحب الجواهر وصاحب مجموعة مجوهرات حكيم، من مجموعته لعام 2021. Credits: Gilbert Hakim

دانا حوراني

يستمتع باو هراوي البالغ من العمر 30 سنة، وهو فنّان علّم نفسه بنفسه، بالتّنزّه في جبيل، مدينة ساحليّة في شمال لبنان، متشبّعًا من الأعمال الفنّيّة المعروضة للبيع في الأسواق القديمة، وتحديدًا بالأغراض المستوحاة من الحضارة الفينيقيّة الّتي كان لها سحر خاصّ بالنّسبة إليه.

قال هراوي لفناك: “أشعر بالانتماء عندما أرى أعمالًا ذات تأثيرات فينيقيّة معروضة. فلبنان غنيّ بالأقاصيص المذهلة الّتي تعمل على تذكيرنا بضرورة الحفاظ على هذا الإرث.”

لقد اكتُشِفت أدلّة أثريّة متينة تربط الفينيقيّين (المُشار إليهم أيضًا بالكنعانيّين) بجبيل، وهي إحدى المدن الكبرى في لبنان. وتجدر الإشارة إلى الإسهام الكبير لهذه المدينة في تطوّر اللّغة الفينيقيّة، إذ اكتُشِفت أقدم النّقوش الفينيقيّة المعروفة حتّى الآن، على ناووس أحيرام، أحد ملوك جبيل الفينيقيّين (حوالى 1000 قبل الميلاد)، ويُعتقَد أنّها سلف الألفبائيّة الآن.

حاول الصّاغة اللّبنانيّون إعادة إحياء التّقليد التّاريخيّ المتروك منذ زمن بعيد. وازدياد الجهود للحفاظ على القطع الأثريّة والأكسسوارات الفينيقيّة عزّز بروزها لعامّة النّاس والأغراب وقدرة حصولهم عليها، بغضّ النّظر عن قلّة الطّلب عليها في الأسواق التّجاريّة المحلّيّة ومحدوديّة تقدير قيمتها محلّيًّا.

ويضيف هراوي: “أعيش بالقرب من جبيل الّتي لطالما كانت قلب الإرث الفينيقيّ… من الرّائع أن أشهد على استمراريّة هذا التّقليد داخل المدينة وخارجها على الرّغم من كلّ ما يقاسيه البلد.”

لبنان والإرث الفينيقيّ

امتدّت الحضارة الفينيقيّة، في ما مضى، على سواحل البحر المتوسّط التّابعة للبنان وسوريا وحتّى قرطاج. إنّ التّسمية اليونانيّة المحلّيّة للعمّال الفينيقيّين هي “الشّعب الأرجوانيّ” ومن ذلك نشأ لقب “الفينيقيّين”. كان الفينيقيّون أوّل من اعتمد التّجارة البحريّة في البحر الأبيض المتوسّط، واعتمد مجتمعهم على الاتّجار بالأصباغ، والأخشاب، والمعادن.

شكّلت مدن جبيل وبيروت وصور وطرابلس السّاحليّة مراكز مهمّة لتجارة الفينيقيّين البحريّة، ولهذا السّبب وُجدَت فيها آثار فينيقيّة.

وعلى الرّغم من تمتّع كلّ مدينة بحاكم مستقلّ ومجموعة آلهة خاصّة بها، تنوّعت أسماؤهم وأساطيرهم، إلّا أنّ وظائفهم كانت متشابهة. فمثلًا حكم جبيل ثلاثة ملوك: إيتو بعل، وأحيرام، وأبي بعل، ولقد أشارت مصادر توراتيّة إلى حيرام، ملك صور، الّذي ساعد في بناء معبد سليمان في أوراشليم.

إضافة إلى ذلك، استعمر الفينيقيّون أراضي خارج حدود لبنان الحديث، وتتضمّن يافا، وأوغاريت، والأناضول، وقرطاج، وكيتيوم.

تضمّنت أشهَر الموادّ المصدَّرة من هذه المدن الصّبغة الأرجوانيّة من مدينة صور، التّطريز، النّبيذ، المعادن، الزّجاج، الخزف المُزجَّج، الملح، والأسماك المجفَّفة.

لم يُنقَّب عن معظم الآثار الفينيقيّة، لكن عُثر على بعض المنحوتات، والألواح والأعمال الفنّيّة، وهي الآن محفوظة في المتاحف، مثل متحف بيروت الوطنيّ، والمتحف الفينيقيّ، وبالطّبع قلعة جبيل. وفي الواقع، اكتُشفت إحدى أقدم المنحوتات في جبيل على ناووس أحيرام المصنوع من الحجر الجيري.

وتمتّعت كلّ مدينة بآلهتها الخاصّة وممارساتها الدّينيّة المتوافقة مع العادات الفينيقيّة. ومن بين الشّخصيّات المبجَّلة نذكر: بعل وبعلات في جبيل، وملكارت في صور، وأشمون في صيدا.

أمّا من الآلهة الإناث الأكثر شهرة، فنذكر عشتروت وتانيت إلهتَي القمر، والخصوبة، والحرب، والحبّ.

المجوهرات الفينيقيّة

على الرّغم من قلّة الأدلّة، اكتُشف أنّ للمجوهرات أهمّيّة في الحضارة والتّجارة الفينيقيّة. ولقد صنع التّجّار في هذه الحقبة سبائك من معادن متنوّعة من ضمنها الذّهب، والنّحاس، والحديد، يتبادلونها مقابل أغراض مُستورَدة.

ومن بين المجوهرات الّتي عُثر عليها في المدن الفينيقيّة نذكر القلادات والميداليّات المستوحات من القولبة المصريّة، والّتي تعود إلى الألفيّة الثّانية والثّالثة. أشهر طريقتين لصنع قطع معقّدة هما: التّقبيب وهو طريقة من طرائق تزيين المعادن بإبراز أجزاء من تصميمها من خلف القطعة أو داخلها باستخدام المطارق والمخارز، والمينا وهي طريقة من طرائق تزيين المعادن بإنشاء تصميمات على حاويات معدنيّة باستخدام معجون الزّجاج الملوّن أو الحاويات المصنوعة من الأسلاك النّحاسيّة أو البرونزيّة.

اكتُشفت المجوهرات والأعمال الفنّيّة الّتي صنعها الفينيقيّون ككنوز أو هدايا في المدافن في مواقع متعدّدة على طول ساحل البحر المتوسّط ووصولًا إلى المحيط الأطلسيّ.

استخدم الملّاحون فطنتهم التّجاريّة الألمعيّة لإنتاج مجوهرات تجذب عملاءهم، مستوحاة من الأراضي الّتي اكتشفوها.

كانت طرائق صناعة المجوهرات القديمة معقّدة، وصعبة، وتستغرق الكثير من الوقت، وفعّالة في مجال التّجارة. واستُخدم الزّجاج مثلًا، كبديل سعره مقبول للأحجار الكريمة الباهظة الثّمن، في صناعة القلادات والتّعويذات.

ولقد شاع أيضًا في تلك الفترة، استخدام البرونز والعقيق.

وصُوِّرت موضوعات دينيّة وحيوانيّة، من ضمنها الخنافس وأبو الهول والعنقاء ورموز الآلهة وزهرة اللّوتس، بكثرة في التّصاميم.

النّسخة المُحدَّثة

تبنّت في يومنا هذا، حفنة من الفنّانين اللّبنانيّين مهمّة الحفاظ على هذه الآثار القيّمة.

ومنهم كانت رازان عزّ الدّين، البالغة من العمر 28 سنة، الّتي لطالما كانت مهتمّة بالتّاريخ والحضارة. أطلقت رازان، الّتي زارت العديد من البلدان وكانت تفتنها التّحف الأثريّة، في أوائل 2022 متجر مجوهرات عبر الإنترنت في لبنان، عرضت فيه تصاميمها المستوحات من الفينيقيّين القدامى وحضارة بلاد ما بين النّهرين.

واعترفت عزّ الدّين لفناك بأنّ “الاهتمام بالإرث القديم غير شائع في البلد بقدر ما أرغب في ذلك. فللمجوهرات والأنماط المستوحاة من الحضارة المصريّة القديمة، والمايا، والإنكا مثلًا، وجود أكثر بكثير في التّصاميم العصريّة في المناطق ذات الصّلة. في حين أنّ في لبنان، الحضارات القديمة مُهمَلة ومنسيّة خارج نطاق السّياحة.”

لقد أنشأت عزّ الدّين مجموعة مجوهرات متأثّرة بالفينيقيّين والبابليّين القدامى، مستوحية ذلك من المصادر المتوفّرة لديها ومن ضمنها العديد من المتاحف اللّبنانيّة. تظهر في تصاميمها رموز فينيقيّة مثل الأشكال، والسّفن، وزهرة الحياة، والإلهتين عشتروت وتانيت، وأُسود بابل، والأبجديّة الآشوريّة.

كما أنّها اعتمدت التّصاميم المطليّة بالذّهب بدلًا من تلك المصنوعة من الذّهب الخالص لتخفّض كلفة الإنتاج والشّراء، نظرًا للتّحدّيات الاقتصاديّة الّتي يواجهها البلد.

تستذكر عزّ الدّين خيبة أملها من تفاعل الجمهور مع أعمالها، فبعد أشهر قليلة من افتتاحها المتجر أدركت أنّ معظم زبائنها من المهووسين بالتّاريخ فقط.

وأردفت بحسرة: “هذا النّوع من التّصاميم أقلّ شعبيّة من التّصاميم الحديثة الرّائجة، وهذا مؤسف لأنّه من الواضح أنّ النّاس لا يفهمون غنى وطنهم أو منطقتهم التّاريخيّ.”

الانحصار بجمهور متخصّص فقط

مثل عزّ الدّين، شهد مصمّم المجوهرات جيلبير حكيم، البالغ من العمر 44 سنة، حضور عدد ضئيل من المشاهدين في العرض الافتتاحيّ لمجموعته الفينيقيّة عام 2021.

واحتفالًا بحقوق المرأة، قرّر مصمّم المجوهرات، المولع بالإرث اللّبنانيّ، إدخال زخارف الإلهة في تصاميمه.

تمتّعت المرأة، برأي حكيم، باحترام وسلطة أكبر في ما مضى ممّا تتمتّع به الآن.

ويصرّح بمحاولته توفير جماليّة أصيلة لزبائنه بمحاكاة التّقنيّات والألوان والأشكال القديمة في تصاميمه. لكنّه سرعان ما أدرك مدى صعوبة إنتاج عدد كبير من القطع المتشابهة من حيث المظهر الفينيقيّ من دون استخدام التّقنيّات الحديثة.

يضيف حكيم: “يثير اهتمامي معرفة مدى تقدّمهم، فقد كانوا قادرين على صنع تصاميم معقّدة وصعبة باستخدام أدوات يدويّة من دون الاستعانة بالآلات المتطوّرة المتوفّرة اليوم.”

ولقد لاحظ بعد مشاركته في معرض في الإمارات العربيّة المتّحدة، أنّ الأجانب أكثر اهتمامًا بمجموعته.

وأشار: “إنّ قدرتهم الشّرائيّة أعلى، واهتمامهم بالتّصاميم القديمة أكبر.”

بالنّسبة لحكيم، يمكن للمجوهرات توفير معرفة حول الشّخصيّات التّاريخيّة، وهي وسيلة لإعادة قصّ حكايات ضاعت عبر الزّمن. وقال إنّه من الممكن معرفة مراحل التّطوّر واكتشافات الحضارات القديمة من خلال المجوهرات والقطع الأثريّة الّتي أنتجتها.

Advertisement
Fanack Water Palestine