وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المونة: جوهرة المطبخ الشاميّ

المونة
قرويون لبنانيون يقطعون العنب في آلة قبل صنع دبس السكر في قرية برحليون شمال لبنان، 24 سبتمبر، 2020. جوزيف عيد / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

مان” في اللّغة العربية تعني “حَفِظَ”، ومنه اشتق لفظ “مُونة” الدال على تقليد حفظ الطّعام خلال موسم الشّتاء باستخدام الأعشاب، والخضر، والمنتجات الحيوانية والنباتية الموسميّة. وهو تقليد ما زال مستمرًا في المناطق الريفيّة من بلاد الشام.

وتحفظ المونة بتنوع طرقها مختلف أنواع الطّعام منها: منتجات الألبان، والمخللات، واللّحم المقدد، والمربى، والدبس، والجيلي، وشراب الفاكهة، والأعشاب المجففة.

ولم يكن تقليد حفظ الطعام حكرًا على منطقة الشرق الأوسط، فقد حافظت جميع حضارات العالم على تاريخها وثقافتها بنقل أسرار الطبخ من جيل إلى آخر. إلا أنه يشهد الآن ازدهارًا في لبنان، لا سيما بعد الأزمة الاقتصادية التي بدأت منذ عام 2019. إذ لاحظ خبراء الطبخ والتجار أن الأزمة منحت الفرصة لهذا التقليد ليخطف الأضواء بمزاياه الصّحية والمادية، وأن يعود بعد فترة طويلة من الغياب.

ورغم اشتراك الأردن، ولبنان، وسوريا، والعراق، وفلسطين في مكونات تحضير المونة، يحتفظ كل شعب بشخصيته في طريقة إعدادها وخلط المكونات واختراع وصفات تقليدية مميزة.

فعلى سبيل المثال، يعد “المكدوس” بطريقته البسيطة المكونة من الباذنجان الصّغير بداخله الجوز، والفلفل الحلو، والفلفل الحار، والثوم، من وصفات المونة الشّائعة في بلاد الشام. لكن زينة الزين، صاحبة متجر المونة اللّبناني، ترى أن بلدة بعلبك بالذات تشتهر بالمكدوس وتحضيره بطريقة تقليدية، كما تشتهر بتحضير الكِشك من الحليب المخمر المجفف.

إذ قالت الزين: ” تتيح درجات الحرارة المتغيرة وأحوال الطّقس المتابينة لأنواع مختلفة من المونة أن تزدهر وتختلف باختلاف المناطق اللّبنانية، ونحن نتعلم كيف نستفيد من مواردنا الطّبيعية”.

تاريخ المطبخ في الشرق الأوسط

يشيعُ اعتقاد بأن الحضارات القديمة في الشرق الأوسط هي أول من قام بالزراعة وتربية الحيوانات، وأنها من استخدمت التخمير لصناعة الخمور وحفظ الطعام لفترات طويلة.

ويعتمد هذا المطبخ بالأساس على زراعة القمح، والخضر، والتوابل، وتربية الغنم والدواجن. وقد شارك السومريون فيه مع الكنعانيين، والحيثيين، والبابليين، والأرمن، والآشوريين، والمصّريين القدماء، والأنباط، والعثمانيين.

ولذلك تُستعمل مكونات كالزيتون، والعسل، والسمسم، والحمص، والنعناع، والبقدونس في دول المنطقة كافة التي تتمتع بتقاليد متشابهة مع تنوع مطابخها.

وقد ذكر بروفيسور اللّغة العربية في جامعة أكسفورد سابقًا خِرت يان فان خِلدر في كتابه “Of Dishes and Discourse” الصادر عام 2000 أن الكرم وحسن الضّيافة من أهم مناقب القبائل البدوية، حتى إنهم في أشد حالاتهم فقرًا لا يترددون في إغداق ضيوفهم بما لديهم من طعامٍ.

وقال فان خِلدر: “يقوّي تقاسم الشيخ رزقه مع أفراد القبيلة أو العشيرة- لا سيما الفقراء منهم والمساكين- القبيلة كلّها على الصّعيدين المادي والمعنوي، لكن كرم الضّيافة يمتد إلى الغرباء وإن كانوا من خارج القبيلة، فهي طريقة من طرق إحراز المجد والشرف للشيخ وقبيلته وعشيرته”.

كما أشار فان خِلدر إلى ارتباط الطعام عند القبائل العريقة بتوطيد الأواصر، وبسط مجدها ونفوذها، حتى باتت السعة في الطبخ من القواعد التي تتناقلها الأجيال.

وتؤكد الزين أن هذه السعة حاضرة في عادات عمل المونة، إذ تُخزّن كميات كبيرة من الطّعام لأشهر الشّتاء القاسية.

وأوضحت: “نتيجة افتقادها للموارد، تعمل الأسر مونة الشتاء بما هو متاح لديها من تين، وتفاح، ولحم ضأن ودجاج، حتى تتناولها العائلة على الإفطار والغداء والعشاء”.

تقليد صامد

أدت زيادة معدلات التضّخم العالمية وأسعار الغاز جرّاء الحرب الروسية على أوكرانيا إلى زيادةٍ في أسعار مواد المونة، ما صعّب عملية شرائها. ومع ذلك ظلّ هذا التقليد صامدًا رغم ما تتعرض له بلاد الشام من ظروف صعبة.

فعلى سبيل المثال، بات عمل المونة صعبًا في سوريا لصعوبة الحصول على مكوناتها الأساسية، حتى بعد هدوء القتال. إذ اضطُر الكثير من السوريين إلى التخلي عن المونة أو تقليص كميتها، رغم الاعتماد عليها في كثيرٍ من المناطق المنكوبة، حيث تعيش 90% من الأسر السورية الآن تحت خط الفقر نتيجة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب.

أما الفلسطينيون الواقعون تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، فيعتبرون المونة وسيلة للتعبير عن الارتباط بالأرض والانتماء إليها، ووسيلة للحفاظ على تراثهم كذلك.

وقال يوسف أحمد الميعاري، من قرية عكبرة الفلسطينية، الذي يعمل في تحضير المونة لموقع العربي الجديد: “بعد أن احتلّ الصّهاينة فلسطين، وسرقوا تراثنا وحاولوا طمس هويتنا، قررت أن أعيد إحياء جزء من التراث والموروث الذي ورثناه عن الآباء والأجداد من خلال إنتاج المونة البيتية والمقطّرات التي كان يستخدمها أهلنا في فلسطين قبل نكبة 1948 ونقلوها معهم إلى مخيمات الشتات”.

أما في لبنان الذي تعصف به أزمة اقتصادية حادة مع فقدان عملته 90% من قيمتها، فالطلب على المونة أصبح كبيرًا.

فقد قالت الزين: “افتتحت متجري قبيل أزمة عام 2019، وأدركت سريعًا أن ثمة طلبات كثيرة من الداخل والخارج على حد سواء. فما زال الطلب على المنتجات البيتية الصّحية في ازديادٍ رغم ارتفاع التكاليف”.

المونة: حكاية القديم والجديد

قالت الزين إن كل منطقة في لبنان من شمالها إلى جنوبها تتميز بإنتاجها المميز من المونة، نتيجة اختلاف جودة التضاريس، والتربة، والمناخ التي تتيح ازدهار أنواع معينة من النباتات والأعشاب.

وأضافت: “فعلى سبيل المثال، يحتاج الكِشك إلى مناخ حار وجاف. لذلك تُعدّ بعلبك في فصل الصّيف المكان الأمثل لإعداده. المناطق الأخرى تنتجه كذلك، لكننا الأشهر بأفضل أنواعه”.

كما يتوفر في جنوب لبنان المناخ والتربة المثاليين لزراعة وإنتاج الزعتر والبرغل والفريكة.

وتتخصص بلدتا حاصبيا وراشيا في جنوب شرق لبنان في إنتاج منتجات الفاكهة كالمربى، والفواكه المجففة، ودبس العنب المشهور فيهما.

أما في الشمال، فيقول جاد إبراهيم الذي يعمل في تحضير المونة في بلدة البترون إن منطقته معروفة بإنتاج كبير من الزعتر المحوج الذي يتكون من خليط الزعتر والسماق، ويباع عادة مع المنتجات المصنوعة بزيت الزيتون.

وفي قرية الرملية في جبل لبنان، تزعم غادة شعبان صاحبة متجر “مواسم الرملية”، أن اشتهار حلقوم السفرجل والجيلي كان في البداية في منطقتها نتيجة وفرة الثمار في المزارع.

وقالت غادة لفنك: “لقد أطلقنا هذه المبادرة لمنح النسّاء في الريف فرصة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وإعالة أُسرِهنّ خلال الأزمة”.

وأضافت: “تجذب الناس فكرة تناول الطّعام الصّحي، ونحن لا نضيف مواد حافظة على منتجاتنا، كما يتمحور عملنا حول المواسم، فنحن نصنّع ونسوّق بحسب ما هو متاح في كلّ موسم”.

وكذلك يجمع إبراهيم والزين على انجذاب اللّبنانيين إلى الطّعام الصّحي والعضوي، وهو ما ساعد على انتشار مبيعات المونة في كافة أرجاء البلاد.

وقال إبراهيم: “اللبنانيون والأجانب مفتونون بفكرة المنتجات المحلية. فالمعرفة متاحة للناس اليوم، وباتوا أحرص على نوعية طعامهم”.

نجاح مستمر

أشار إبراهيم إلى نجاح مشروعه في البترون دون حاجة إلى التوسع. فالمدينة الساحلية تستضيف المهرجانات والمعارض وغيرها من الأحداث الثقافية والترفيهية، وأصبحت وجهة سياحية في الصّيف.

وأوضح إبراهيم: “إنه عمل مربح ومحرِّر. إذ يقلّ شعورك بالقلق عندما يكون عملك ممتعًا. والأهم أن العملية مربحة، والزبائن ينجذبون إلى منتجاتك”.

ويؤكد إبراهيم على تفضيل زبائنه أن تظل المنتجات تقليدية، لكن الزين ترى أنه يجب إضافة بعض السلع الجديدة بحسب احتياجات السوق.

وأوضحت: “أضفت مؤخرًا الطماطم الإيطالية المجففة في الشّمس إلى قائمة المونة، هذا ما يريده الزبائن، وأعملُ على تجديد منتجاتي دائمًا لتلبية طلباتهم”.

ولهذا السبب تقول غادة إنهم يطمحون إلى دمج أطعمة الفاكهة المختلفة في مرباتهم ليقدموا منتجات جديدة إلى عملائهم. أما الزين فقد اخترعت حساء خضار مصنوع من الخضار المجففة بالإضافة إلى الزعتر والمكسرات.

كما أصبح للإنترنت دورًا حيويًّا عند الجيل الجديد من صانعي المونة، فقد أتاح لهم وصفات مثالية نتج عنها منتجات لا تشوبها شائبة.

واختتم إبراهيم بقوله: “لقد قضينا معظم عمرنا نعتمد على الواردات رغم ثراء بلادنا بالجمال الطّبيعي والثروات. ولا يمكن لهذا أن يستمر. علينا أن نكون منتجين، وأن ندرك أنه بتسخير موارد لبنان سنحل مشكلاتنا الاقتصادية دون حاجة إلى مساعدات خارجية”.

Advertisement
Fanack Water Palestine