يعد معبد أشمون في صيدا، لبنان، كنزًا فينيقيًا مهملاً، يعكس التحديات التي تواجهها العديد من المواقع التاريخية في لبنان.

دانا حوراني
في مدينة صيدا النّشطة، في جنوب لبنان، يكمن كنز تحجبه القلعة البحريّة الشّهيرة الّتي بناها الصّليبيّون.
يقع معبد أشمون على مقربة من وسط المدينة، الّتي تفوح منها رائحة أشجار الموز الممزوجة بأصوات الزّحمة والباعة المتجوّلين.
مدخل هذا المعبد محجوب عن الرّؤية بمنزل عاديّ يلعب دور الحارس، ولقد استردّت الطّبيعة صخوره القديمة، وغطّته بالأعشاب النّامية.
يعود المعبد المخصّص لأشمون، إله الشّفاء الفينيقيّ، إلى القرن السّابع قبل الميلاد. وعلى الرّغم من قدمه، ما زال الزّوّار يلمحون معالم أمجاده الماضية، من مثل الفسيفساءات الأرضيّة الموزّعة، وبقايا عرش عشتروت، ومعبد صغير حول بركة هادئة.
وفيما يبجّل السّكّان المحلّيّون وعشّاق علم الآثار هذا المعلم كأكثر المعالم أهمّيّة من العصر الفينيقيّ –عصر يغلبه الغموض وندرة السّجلّات التّاريخيّة– يبقى معبد أشمون مهملًا بشكل كبير من قبل السّلطات المحلّيّة.
غير أنّ مصيره شائع بين الكنوز الأثريّة في لبنان، المهملة بغالبيّتها، والمتآكلة مع الزّمن. إلّا أنّ ذلك يحرم البلد من المعارف القيّمة والنّظرة التّاريخيّة، وبالتّالي يشدّد الخبراء على ضرورة بذل الجهود حفاظًا على إرث لبنان الحضاريّ للأجيال القادمة، لكنّهم غير متفائلين في ضوء التّحدّيات الاقتصاديّة والسّياسيّة الّتي يواجهها لبنان اليوم.
كنز فينيقيّ
يمتدّ المخطّط الزّمنيّ لهذا المعبد الواقع قرب نهر الأوّليّ، من العصر السّابع قبل الميلاد إلى العصر الثّامن بعد الميلاد، دالًّا بذلك على ارتباطه المتجذّر بمدينة صيدا.
خاض هذا المعبد، الّذي أمر بتشييده في الأصل الملك إشمونزار الثّاني خلال عصر الإمبراطوريّة الأخمينيّة (حوالى 529-333 قبل الميلاد) تسجيلًا لنهضة صيدا من حيث الثّروة والمكانة، توسّعًا ملحوظًا في ظلّ الحكّام الّذين لحقوه، مثل بدعشترت، ويتن ملك، وغيرهما.
تطوّر هذا الحرم على امتداد عصور من فترات الاستقلال والاحتلال المتعاقبة، عارضًا مجموعة متنوّعة من الأساليب الهندسيّة والتّأثيرات الزّخرفيّة، مانحًا لمحة إلى المشهد الحضاريّ الحيويّ للمنطقة.
يحمل موقع المعبد أهمّيّة كبيرة، إذ اختير لقربه من مصدر مياه ضروريّ لإقامة المراسم الاحتفاليّة. إلّا أنّ هذا الموقع تعرّض لأضرار جسيمة عقب هزّة أرضيّة قويّة في العصر الرّابع قبل الميلاد. وعلى الرّغم من هذه النّكسة، استمرّت الحضارات اللّاحقة في البناء على هذه الأرض المقدّسة.
عقب دمار المعبد حافظ الموقع على مكانته القدسيّة، متحوّلًا إلى وجهة يقصدها الحجّاج المتفانون لعبادة أشمون. خلال عصر التّأثير الرّوماني، شهد المعلم تركيب عدّة فسيفساءات معقّدة زيّنت سُلّمه الرّئيسيّ.
وعقب العصر الرّوماني، شهد المعلم بناء كنيسة بيزنطيّة، مزخرفة بفسيفساءات معقّدة ومتطوّرة تبيّن تغيُّر الفصول.
يوجد في الأساطير اليونانيّة آلهة تعادل أشمون مثل أسكليبيوس إله الفنون الطّبّيّة. يُعتقد أنّ تضافر أشمون-أسكليبيوس مع رمزيّة الثّعبان أسهم في ظهور الرّمز المعتمد عالميًّا للمجال الطّبّيّ، وهو العصا المجدولة بثعبانين. ولقد وُجدت في بيروت ومعبد أشمون عملات معدنيّة يبرز عليها نقشًا للإله أشمون يحمل العصا المجدولة بثعبانين.
بحسب الأسطورة، تبدأ قصّة أشمون في مدينة بيروت القديمة، حيث كان صيّادًا يتجوّل في الغابات، فاجتذب عشتروت إلهة الحرب والشّغف، الّتي لاحقته بحبّها من دون كلل. لكنّ إصرارها أرهق أشمون وأربكه، فقرّر أن يقتل نفسه بفأسه. غير أنّ عشتروت لعظمة حزنها، أعادته إلى الحياة ومنحته الحياة الأبديّة جاعلة منه حبيبًا ورفيقًا إلى الأبد.
منسيّ على الرّغم من قدسيّته
بقي معبد أشمون مخفيًّا حتّى عام 1900 عندما تعثّر به لصوص الكنوز. ونتيجة لذلك، بدأت التّنقيبات رسميًّا للحفاظ على هذا الكنز الأثريّ الجديد، ولقد أجرى عالم الآثار الفرنسيّ، موريس دوناند، المشهور بعمله على معلم جبيل الأثريّ، تنقيبات مكثّفة في موقع المعبد امتدّت من 1963 إلى اندلاع الحرب اللّبنانيّة عام 1975.
على الرّغم من الجهود لحماية التّحف الأثريّة، تعرّض المعبد للسّرقات. وفي محاولة للحفاظ على جزء من التّحف، نقل موريس شهاب، المدير الأوّل للمديريّة العامّة للآثار، بعضها إلى الموقع الأثريّ في جبيل. إلّا أنّه بسبب الاضطرابات السّياسيّة والتّهديدات الملحّة بالسّرقة، سُرقت 600 قطعة أثريّة مخزّنة هناك عام 1981 وبالتّالي بيعَت في السّوق السّوداء.
عبر السّنين لم يُسترجَع إلّا القليل من هذه التّحف المسروقة، ففي عام 2009 رُصدت تسع قطع أثريّة وأُعيدت إلى لبنان، فيما أُعيدت أربع منها إلى الوطن من الولايات المتّحدة عام 2018 وهي الآن معروضة في متحف بيروت الوطنيّ.
بحسب هيلين صادر، أستاذة في علم الآثار في الجامعة الأميركيّة في بيروت، يعود المعبد إلى الحقبة الأخيرة من العصر الفينيقيّ، وذلك حمّله خليطًا من التّأثيرات الّتي تقدّم رؤية قيّمة إلى تاريخ لبنان.
قالت صادر لفنك: “لو نستطيع الغوص أعمق في هذا الموقع قد نكشف جوانب مهمّة من تاريخه. إلّا أنّ التّنقيبات تتطلّب توظيف أخصّائيّين محترفين وتمويلًا ضخمًا.”
تواجه الحكومة اللّبنانيّة عقبات متعدّدة في هذا الصّدد. فالأزمة الاقتصاديّة المستمرّة منذ 2019 أدّت إلى انهيار العملة المحلّيّة، جاعلة من الصّعب على الدّولة تخصيص الأموال. وتضيف صادر أنّ الحصول على إذن بالتّنقيب عمليّة طويلة، غالبًا ما تتطلّب التّأجيلات بسبب الوضع الاقتصاديّ الرّاهن والمعوّقات البيروقراطيّة.
تشدّد صادر على أنّ “هناك حاجة إلى حملات التّوعية وانخراط المجتمعات المحلّيّة في الحفاظ على هذه الكنوز. لا يكفي أن نسلّط الضّوء على أهمّيّة المعلم الأثريّ فقط، علينا تثقيف النّاس حول رمزيّته وتشجيعهم على الانخراط في حمايته.”
وتلفت النّظر أيضًا، إلى ندرة المعلومات الّتي يسهل الوصول إليها حول هذا المعبد وغيره من المعالم القديمة في لبنان، ما يمنع السّيّاح من تقدير طابع هذه المنشأة، ووظيفتها، ومعناها.
وقالت لفنك بإحباط: “يزور النّاس معالم مثيرة للاهتمام لا توفّر معلومات تشرح لهم ما ينظرون إليه.”
إضافة إلى ذلك، تشير إلى انتشار ظاهرة استخدام السّكّان المحلّيّين صخور المعالم الأثريّة في البناء عبر السّنين، وهذا ليس محصورًا بالمعبد إنّما منتشر في لبنان قارضًا ببطء كلّ ما تبقّى من معالمه الأثريّة التّاريخيّة غير المحروسة وغير المُكتشَفة.
الملّاحون الغامضون
نتيجة العوائق الاقتصاديّة المهمّة المتعلّقة بالحفاظ على المواقع الأثريّة في لبنان وحمايتها، أصبح التّمويل الأجنبيّ مفيدًا بحسب صادر.
لفتت كنوز بعلبك الأثريّة الأنظار منذ أواخر القرن التّاسع عشر، عندما بدأ الإمبراطور الألماني التّنقيبات في وادي البقاع الخصب. ولأكثر من 20 سنة بذل المعهد الألماني للآثار الجهود للكشف عن عجائب مدينة الشّمس.
وشدّدت الأستاذة: “نحتاج إلى الخبرة الصّحيحة لهذا العمل، فهو شبيه بالحفاظ على منزلنا الخاصّ والاهتمام به، حارصين على بقاء كلّ شيء عمليًّا ومحفوظًا بشكل جيّد.
فيما جمعت بعلبك اهتمامًا عالميًّا وازدهرت لتصبح معلمًا سياحيًّا رئيسيًّا، لا ينطبق ذلك على معبد أشمون. ففي الأصل تجاهل مكتشفه دوناند رمزيّته ولم يكتب عنه.
سلّط علي نجم، طالب ماجستير في علم الآثار، الضّوء على الحاجة الملحّة إلى جهود للحفاظ على الآثار، بخاصّة الفسيفساءات، والتّصويرات الجصّيّة، والزّخارف المحفورة الّتي قد تتلف مع الوقت.
وشرح نجم: “قد يكشف التّعمّق في التّنقيبات والدّراسات الموادّ المُستخدَمة آنذاك، والمراحل الهندسيّة، والتّأثيرات، الّتي تتطلّب أبحاثًا معمّقة. وذلك ضروريّ بشكل خاصّ لفهم العصر الفينيقيّ، إذ لم تُوثَّق ممارساتهم توثيقًا موسَّعًا.”
يشدّد نجم على أنّ الحصول على المعلومات من معالم كأشمون قد يغني التّاريخ اللّبنانيّ كثيرًا وفهمنا للبشريّة. ويشير إلى بناء غالبيّة المعابد الفينيقيّة قرب مصادر المياه مضيئًا على المراسم الدّينيّة المُقامة، الّتي إذا اكتُشفت، قد تمنحنا فهمًا جديدًا لمعتقدات الفينيقيّين ودياناتهم.
هذه الاكتشافات قد تزيل الغموض أيضًا عن دور صيدا في العصور القديمة، تاريخ كثيرًا ما يتجاهله المحلّيّون.
في كتاب العهد القديم عُرفت صيدا كالمولود الأوّل لكنعان، متتبّعًا نسبه إلى سكّان قطعة الأرض الأصليّين.
ظهرت صيدا حوالى 1200 قبل الميلاد، وأصبحت مدينة فينيقيّة مهمّة جدًّا، معروفة بنفخ الزّجاج وإنتاج الصّباغ الأرجوانيّ. ولقد صمدت في ظلّ العديد من الحكّام منهم الفرس، واليونانيّين، والرّومانيّين، والبيزنطيّين، والعرب، والصّليبيّين، والمماليك، والعثمانيّين، وفخر الدّين المعني الثّاني.
مخاطر الحرب
يسلّط نجم الضّوء على ندرة المعالم الفينيقيّة المكتملة البنية في الشّرق الأوسط، مؤكّدًا على أهمّيّة حماية معبد أشمون. لكنّه يشير إلى أنّه غالبًا ما يُهمَل الغنى الأثريّ في منطقة جنوب لبنان.
فإلى جانب صيدا، تشكّل صور مدينة فينيقيّة شديدة الأهمّيّة في الجنوب، متباهية بالكثير من المنشآت القديمة المحفوظة. إضافة إلى ذلك، يمكن إيجاد معالم فينيقيّة أقلّ شهرة من صيدا وصور لكن تعادلهما في الأهمّيّة، في صرفند وعدلون.
مشروع الخرايب الأثريّ، مبادرة مشتركة بين المجلس الوطنيّ الإيطاليّ للبحوث والجامعة اللّبنانيّة، تهدف إلى معاينة العلاقة بين المشهد الحضريّ لصور والمناطق الرّيفيّة المحيطة به إلى الشّمال.
معلم ملحوظ آخر في الجنوب هو قلعة الشّقيف الواقعة على تلّة في منطقة أرنون. ولقد جعلها موقعها الاستراتيجيّ حصنًا مرغوبًا عبر التّاريخ. ففي عام 1139 استولى فولك ملك بيت المقدس على الموقع ومنحه لسيادة صيدا، الّذين بدأوا ببنائه.
لكن، تشير صادر إلى أنّ الاضطرابات السّياسيّة والتّهديد المستمرّ بالفتن في جنوب لبنان تشكّل عقبات كبيرة أمام الباحثين والمنقّبين. إضافة إلى ذلك، تعقّد الرّقابة السّياسيّة المشدّدة الّتي تمارسها الأحزاب المؤثّرة في المنطقة عمل علماء الآثار.
في الوقت الرّاهن الاشتباكات مندلعة بين إسرائيل وحزب اللّه في جنوب لبنان. وبحسب البيانات الصّادرة عن مشروع بيانات موقع وحدث النّزاع المسلّح (ACLED)، تبادلت إسرائيل وحزب اللّه وجماعات مسلّحة أخرى في لبنان ما يقارب 4733 اعتداءً حدوديًّا منذ 7 تشرين الأوّل 2023 إلى 15 آذار 2024. ولقد بادرت إسرائيل بـ 83 في المئة من هذه الاعتداءات.
على الرّغم من حصول معالم مثل معبد أشمون ومجمّع معابد بعلبك على وسم “الدّرع الأزرق” المعنيّ بحماية الإرث الثّقافيّ من التّهديدات، مثل الاشتباكات المسلّحة والكوارث الطّبيعيّة، يشكّ نجم وصادر بفعّاليّته في ردع الهجمات.
تصرّ صادر: “على الحرب بكلّ بساطة أن تنتهي. لا يمكننا توقّع ما سيستهدفونه في المستقبل، والحماية الرّمزيّة غير كافية لضمان سلامة المعالم الثّقافيّة والموروثات.”
يردّد نجم هذا الكلام ويوافق عليه مشدّدًا على أنّ خسارة هذه المنشآت المعلميّة ستكون خسارة للبشريّة بأكملها وليس فقط للبنان.
كذلك، يسلّط نجم الضّوء على تهديد آخر للحفاظ على منشآت لبنان الحضاريّة والتّاريخيّة: هجرة خرّيجي علم الآثار والأخصائيّين بسبب محدوديّة فرص العمل في البلد.
ويشرح: “يهاجر الكثيرون إلى الإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السّعوديّة، حيث يتزايد الاهتمام بعلم الآثار والحفاظ على المعالم الأثريّة.” فمثلًا، في تشرين الثّاني 2022، اكتشفت السّلطات ديرًا مسيحيًّا قديمًا على جزيرة قبالة شاطئ الإمارات العربيّة المتّحدة، يُقال أنّه وُجد عصورًا قبل انتشار الإسلام في المنطقة.
فيما يتصدّى لبنان للصّراعات الاقتصاديّة والاضطرابات السّياسيّة في وسط الصّراع الأوسع، يتفهّم نجم وصادر انطفاء الاهتمام بالآثار في البلد. وتلاحظ صادر نقصًا في حماس الأجيال الصّاعدة، تعيده إلى فشل الأجيال السّابقة في غرس تقدير للآثار اللّبنانيّة في نفوسهم. غير أنّها تعترف بأنّه من الصّعب على النّاس الاهتمام بأمور تتخطّى البقاء على قيد الحياة عندما يعانون لتأمين حاجاتهم الأساسيّة.