وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حين يحرّك المال السياسة: نماذج من القطاع المصرفي

حين يحرّك المال السياسة
تُظهر هذه الصورة التي التقطت في 20 أيار 2020 منظرًا لمدخل محصن لمصرف لبنان. باتريك باز / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

المقدمة

في العادة، يُشار إلى دور السياسيين والمسؤولين الموجودين في مراكز القرار، عند الحديث عن السياسات العامّة التي تؤثّر في حياة السكّان اليوميّة، وتوزّع الدخل والثروة في المجتمع. وعلى هذا الأساس، غالبًا ما تنشأ تيّارات سياسيّة تتنافس للوصول إلى مراكز القرار، لتقود دفّة الحكم بهذا الاتجاه أو ذاك، وفقًا للأولويّات والحساسيّات التي تعبّر عنها التنظيمات السياسيّة في خطابها المعلن. لكن في مقابل، غالبًا ما تؤثّر في السياسات العامّة مراكز نفوذ وقرار غير منتخبة، بما يمثّل مصالح ماليّة راسخة داخل النظام الاقتصاديّة، وهو ما يُعرف بمجموعات الضغط التي تعبّر عن أولويّات شرائح اجتماعيّة معيّنة.

المصارف والسياسة

وفي تاريخ المشرق العربي تحديدًا، يمكن التطرّق إلى نموذج المصارف التجاريّة، التي لعبت منذ أيام الدولة العثمانيّة، ثم الانتداب الفرنسي، دورًا مركزيًّا في التأثير على شكل الأنظمة المصرفيّة والماليّة المعتمدة، وخصوصًا في سوريا ولبنان. بل يمكن القول أنّ هذه المصارف لعبت دورًا في تحديد شكل أنظمة القطع وهيكليّة ودور المصارف المركزيّة، وصولًا إلى التأثير في نوعيّة السياسات الاقتصاديّة المعتمدة على مستوى دول الشرق الأوسط بعد الاستقلال. وفي حالة لبنان بالتحديد، تعاظم دور جمعيّة مصارف لبنان بالذات، التي تحوّلت مع الوقت لتصبح مجموعة الضغط الأكثر تأثيرًا في سياسات الدولة اللبنانيّة الماليّة، سواء قبل بدء الحرب الأهليّة عام 1975، أو بعد انتهائها عام 1990. وبسبب تنامي حجم القطاع المصرفي في لبنان، ومع نمو كتلة المصالح التي ترتبط بهذا القطاع، امتلكت جمعيّة المصارف بعد حصول الانهيار المالي سنة 2019 القدرة على الإطاحة بخطط ماليّة ضخمة، وبتفاهمات لبنان مع صندوق النقد الدولي في مرحلة من المراحل.

على أنّ تضخّم دور مجموعات الضغط الفاعلة، والتي تمثّل هذا القطاع، ومنها جمعيّة مصارف لبنان بالتحديد، لم يأتي من فراغ، بل كان نتاج مسار طويل بدأ قبل نيل لبنان وسائر بلدان المنطقة الاستقلال عن سلطات الانتداب، بل ومنذ ما قبل مرحلة الانتداب. ومنذ ذلك الوقت، كانت تتبلور وتتراكم أشكال تقاطعات المصالح بين الأنظمة السياسيّة والقطاع المالي، ما مهّد للتأثير المتبادل ما بين أولويّات وتوجّهات مجموعات الضغط الماليّة والمصرفيّة، واتجاهات السياسات النقديّة والماليّة والاقتصاديّة. ولعلّ الملفت للنظر، أن هذه التراكمت بدأت تحديدًا منذ دخول المصارف على أسواق منطقة المشرق العربي برساميل أجنبيّة عام 1856، في ظل حالة العجز التي كانت تعاني منها الدولة العثمانيّة، ما مهّد لإعطاء هذا القطاع دورًا كبيرًا في تشكيل قطاعات المنطقة الاقتصاديّة.

الدولة العثمانيّة: الرجل المريض والمصالح الأجنبيّة

بخلاف ما يعتقد كثيرون، دخلت الرساميل والمصالح المصرفيّة على خط تحريك السياسات العامّة قبل عقود من نيل دول المنطقة استقلالها، كما تقاطعت منذ ذلك الوقت مصالح المصرفيين ونفوذ الدول الكبرى المؤثّرة في منطقة المشرق العربي. فعام 1863، كانت الدولة العثمانيّة تعاني من أزمة ماليّة خانقة، نتيجة تفاقم مستويات ديونها التي تراكمت خلال الحرب العثمانيّة الروسيّة المعروفة. ولهذا السبب، اضطرّت الدولة العثمانيّة في تلك السنة على عقد اتفاقيّة مع الإنكليز والفرنسيين، أسّست لما عُرف بالبنك الإمبراطوري العثماني، برساميل وملكيّة إنكليزيّة وفرنسيّة. في تم افتتاح أولى فروع هذا المصرف في المشرق العربي في منطقة عين المريسة في بيروت.

في الشكل، كان من المفترض أن يكون هذا المصرف بنك خاص، تعود أرباحه إلى مستثمرين أجانب. لكن من الناحية العمليّة، أعطت المعاهدة بين العثمانيين من جهة والإنكليز والفرنسيين من جهة أخرى المصرف امتيازات كبيرة، شملت لعب دور “مصرف الدولة”، وإقراضها وإدارة ديونها، بالإضافة إلى إصدار النقد بالنيابة عنها. كما شملت الامتيازات التي نالها هذا المصرف الحصول على وكالات وموظفي البنك العثماني، الذي تم تأسيسها قبل المعاهدة بعدّة سنوات للعب هذه الأدوار بالتحديد. باختصار، كانت الدولة العثمانيّة قد سلّمت سياستها النقديّة وإدارة ماليّتها للمصالح الأجنبيّة، في ظل حاجتها الماسّة للتمويل خلال حقبة حروبها مع روسيا، وحاجتها للدعم الأوروبي في هذه الحرب.

إلا أنّ علاقة هذه المصرف بالسياسة لم تقتصر على حجم الامتيازات التي حصل عليها، بالنظر إلى نشوئه برساميل أوروبيّة، بل شملت الأدوار التي لعبها لاحقًا في النشاط الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط. فالبنك الإمبراطوري العثماني سرعان ما تحوّل –بحسب الوثائق المتوفّرة– إلى مصدر تمويل مشاريع اقتصاديّة ضخمة، من قبيل تشييد سكك الحديد والمعامل والمرافئ، كما تحوّل إلى المصدر الأساسي لإقراض الدولة العثمانيّة نفسها. ولهذا السبب بالتحديد، توسّع تأثير المصرف في السياسات الاقتصاديّة والماليّة، ولم يقتصر نفوذه محليًّا على إدارة السياسة النقديّة من خلال إصدار العملة. ثم نمت فروع المصرف، وكبر تأثيره ليشمل جميع ولايات الدولة العثمانيّة دون  استثناء.

سيطرة الرساميل الغربيّة على مصارف المشرق

بعد البنك الامبراطوري العثماني، الذي مثّل عمليًّا مصالح استثماريّة غربيّة، توسّعت فروع المصارف الغربيّة الأخرى في أنحاء منطقة المشرق. وهكذا، افتتح بنك كريدي ليونيه الفرنسي سنة 1875 أولى فروعه في بيروت، قبل أن يتبعه البنك الألماني الفلسطيني سنة 1889، فيما افتتحت مجموعة روتشيلد الشركة الإنكليزيّة الفلسطينيّة عام 1902، وباشر بنك ألمانيا – الشرق فروعه بفتح فروعه في مختلف أنحاء المشرق عام 1906. وفي هذا التوسّع، كانت المصارف الأجنبيّة تستغل نقص السيولة في منطقة المشرق، نتيجة ارتفاع عجز المنطقة التجاري خلال تلك المرحلة واعتمادها على الاستيراد، وحاجتها للرساميل الأجنبيّة للتوسّع في النشاط الاستثماري. إلا أن توسّع المصارف الأجنبيّة في القطاع المصرفي المحلّي لم يكن بلا ثمن، بل سرعان ما تبيّن أن سطوة هذه المصارف على اقتصادات المنطقة المحليّة تنامت وتزايدت، وهو ما سيظهر أثره لاحقًا.

فمع دخول لبنان وسوريا مرحلة الانتداب الفرنسي عام 1919، سرعان بادر الفرنسيون إلى وضع يدهم على أصول البنك الإمبراطوري العثماني في المنطقة، وقاموا بتحويل امتياز خلق النقد إلى مصرف خاص أيضًا، تحت إسم بنك سوريا ولبنان. ثم فرض الفرنسيون ربط العملة الجديدة –الليرة الصادرة عن بنك سوريا ولبنان- بالفرنك الفرنسي، كما فرضوا تداول هذه العملة الجديدة في كامل أرجاء البلدين.

هنا تجدر الإشارة إلى أنّ السوريون حاولوا خلال تلك الحقبة قبل معركة ميسلون استحداث عملة جديدة لهم، بمعزل عن سلطات الانتداب، إلا أن سيطرة الرساميل الأجنبيّة على القطاع المصرفي بأسره حالت دون تحقيق استقلال نقدي للسوريين. وهنا بالتحديد، ظهر أثر المصارف الخاصّة على السياسات النقديّة المتبعة، وعلى هامش المناورة الذي تملكه السلطة في هذه المسألة. فمن الناحية العمليّة، لا يمكن لأي سلطة –في ذلك الوقت- فرض التداول بعملة ما في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها، ما لم تملك تأييد القطاع المالي الممسك بزمام الأمور على الأرض. ولهذا السبب بالتحديد، باءت تلك المحاولة السوريّة بالفشل، وعاد مصرف سوريا ولبنان –الذي يمسك بقراره الفرنسيون- للسيطرة على سياسات المنطقة النقديّة وخلق النقد فيها.

عرقلة تأسيس المصرف المركزي في لبنان

مع نيل لبنان استقلاله عام 1943، كان من المفترض أن تسعى البلاد إلى تأسيسها مصرفها المركزي الخاص، ليضع المصرف السياسة النقديّة الملائمة للبلاد، بمعزل عن المصالح التي كان يرعاها بنك سوريا ولبنان بوصفه مصرف خاص. إلا أنّ النخبة المصرفيّة التي كانت تهيمن على اقتصاد البلاد في ذلك الوقت، والتي كانت تتصل في أغلب الأحيان بالرساميل الأجنبيّة، بدأت منذ الاستقلال تقاوم فكرة تأسيس مصرف مركزي. بالنسبة إلى المصارف الخاصّة، كان تأسيس مصرف مركزي يعني تنظيم المهنة المصرفيّة، ووضع قيود تنظيميّة ترعى عمل المصارف المحليّة، بالإضافة إلى تأطير السياسات النقديّة وفق أولويّات واضحة يضعها المصرف. ولهذا السبب بالتحديد، وبالرغم من نيل البلاد استقلالها عام 1943، ووضع قانون للسريّة المصارف عام 1956، لم يتم وضع قانون للنقد والتسليف وتأسيس المصرف المركزي إلا عام 1963. أمّا المصرف المركزي نفسه، فلم يتم تأسيسه إلا عام 1964، وهو ما أسس منذ ذلك الوقت لسياسة نقديّة مستقلّة للبلاد.

في كل الحالات، نجحت المصارف اللبنانيّة في ذلك الوقت في تأجيل تأسيس المصرف المركزي إلى العام 1963، فيما كانت خلال هذه السنوات تخوض معركة قاسية لفرض أولويّاتها ضمن قانون النقد والتسليف الذي أسس المصرف. أهم ما في المسائل التي فاوضت لأجلها المصارف، كانت الحفاظ على مبادئ سريّة المصارف، ومنع فتح الحسابات المصرفيّة أمام السلطات الرقابيّة والسلطات الضريبيّة. كما فاوضت المصارف للإبقاء على هامش استقلاليّتها، والحد من درجة تدخّل مصرف لبنان في معدلات الملاءة والسيولة والاحتياطات. وبشكل من الأشكال، كان من الواضح أن المصارف تمكنت من فرض جميع أولوياتها في هذا القانون، بعد أن تمكنت من تأخيره قدر المستطاع.

جمعية مصارف لبنان: اللوبي القوي

تأسست جمعيّة مصارف لبنان عام 1959، حيث تتركّز الأهداف المعلنة من تأسيس الجمعيّة على التعاون بين المصارف المحليّة لوضع تصوّر مشترك لمصلحة القطاع العليا. كما تنص هذه الأهداف المعلنة على سعي الجمعيّة لتنظيم القطاع وتمثيل المهنة والدفاع عنها، وإبراز صورة القطاع الإيجابيّة أمام الرأي العام المحلّي والمجتمع الدولي. لكن وبمعزل عن جميع الأهداف المعلنة، كان من الواضح أن الهدف المعلن من تأسيس الجمعيّة لم يكن سوى تأسيس مجموعة ضغط قويّة، كفيلة بحماية مصالح القطاع، في مسار وضع السياسات العامّة.

وبالفعل، وتنيجة تضخّم القطاع المصرفي، وتوسّع المصالح التي يستوعبها، تمكنت الجمعيّة من أداء دور استثنائي على هذا الصعيد. فعلى سبيل المثال، بعد حصول الانهيار المالي، عندما أقرّت حكومة دياب خطتها الماليّة، والتي نتجت عن مفاوضاتها مع صندوق النقد، تمكنت الجمعيّة من إسقاط هذه الخطّة لاحقًا، من خلال تجييش اللوبي الذي يعمل لمصلحتها داخل المجلس النيابي. أمّا السبب الأساسي لإسقاط هذه الخطّة، فهو رفض الجمعيّة مندرجات الخطّة التي نصّت على شطب الرساميل المصرفيّة، للتعامل مع جزء من الخسائر المتراكمة في القطاع. ومنذ ذلك الوقت، ظلّت المصارف تعيد الاعتراض على جميع المعالجات الماليّة التي تنطوي على مندرجات من هذا النوع، وهو ما عرقل حتّى اللحظة جميع الحلول المطروحة.

في كل الحالات، وعلى مدى أكثر من قرن ونصف، مثّل القطاع المصرفي في منطقة المشرق العربي نموذجًا لتقاطعات النقد والسياسة والثروة. هو القطاع الذي نتج عن دخول الدول الغربية على خط استغلال أزمة الدولة العثمانيّة، ليحصل على امتياز خلق نقد المنطقة. وهو القطاع الذي استفاد من نهضة البنية التحتيّة، التي مولتها الرساميل والاستثمارات الغربيّة، خلال مرحلة ضمور الدولة العثمانيّة. ثم كان هذا القطاع هو ما فرض اعتماد الليرة التي أصدرها بنك سوريا ولبنان، كما كان أبرز أسباب تأجيل تأسيس مصرف مركزي للبنان حتّى بعد نيل الاستقلال.

Advertisement
Fanack Water Palestine