منذ بدايتها، أثّرت الثورة السورية في جميع القوى السياسية في لبنان. ولم يعد التوازن الذي دعم اتفاق الطائف قائماً، لكن البنية السياسية للبنان ظلّت من دون تغيير. وقد ساهمت الزيادة الكبيرة في أعداد اللاجئين السوريين في تأجيج التوترات الطائفية داخل البلاد.

كتبه: سي. آر. بينيل المحاضر السابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط بجامعة ملبورن في أستراليا
حرره: إريك برنس
اتهام أعضاء من حزب الله
في 17 يناير 2011، أصدرت المحكمة الخاصة بلبنان أول مسودة للقرار الظني في قضية اغتيال رفيق الحريري، والذي تقرر أن يبقى سرياً آنذاك. وبعد نحو شهرين، قدّم الادعاء العام قرار اتهامٍ معدّلٍ في 11 مارس، وبقي أيضاً سرياً، وسط تكهنات إعلامية بأنّ الاتهامات ستشمل قياديين وأعضاء من حزب الله.
ووصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما هذه الخطوة بأنّها نهاية “حقبة الإفلات من العقاب”، ودعت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي القادة اللبنانيين إلى “الحفاظ على الهدوء وضبط النفس.” من جانبه، رد وزير الخارجية اللبناني علي الشامي على دعوة أوباما مطالباً إياه بالتوقف عن التدخل في الشؤون اللبنانية.
وفي يونيو، صدرت مذكرات توقيف بحق أربعة أشخاص، وفي أغسطس أُعلن عن أسمائهم، وكانوا جميعهم من حزب الله. واعتبر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أنّ هذه الاتهامات مؤامرة دولية تستهدف حزبه، ورفض القرار الاتهامي. لكنه أكد أن الحكومة الجديدة ستضمن الاستقرار ونفى وجود خطر من اندلاع حرب أهلية. بدوره وصف سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني منذ عام 2009، هذه الاتهامات بأنّها “لحظة تاريخية”. ولكن أعضاء المعارضة استقالوا من حكومته الائتلافية، مما أدى إلى انهيارها، واستمر الحريري في منصبه رئيساً لحكومة تصريف الأعمال.
وفي يناير 2011، شكّل نجيب ميقاتي حكومة جديدة هيمنت عليها قوى تحالف 8 آذار وحزب الله. وبعدها بعام، في 1 فبراير 2012، أعلنت غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان أنّ المتهمين الأربعة “لا يمكن العثور عليهم، وأنّهم فارّون ولا يرغبون في المشاركة في المحاكمة.” وبذلك، تقرر أن تُجرى المحاكمة غيابياً. وأما وسام الحسن السنّي، مدير المراسم في عهد الحريري، والذي يُعتقد أنه كان له دور بارز في مؤامرة اغتيال الحريري، فلم تُوجه له أي اتهامات رسمية.
تزامنت هذه الأحداث مع بدء تهديد كبير لكل من سوريا ولبنان، والذي يُعد الأخطر على البلدين منذ الحرب العالمية الثانية: اندلاع الثورة السورية ضمن موجة الربيع العربي التي اجتاحت الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الثورة السورية ولبنان
مع اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، تركز الدعم اللبناني للمعارضة السورية، التي كانت غالبيتها معارضة سنّية، على الخطب والمظاهرات وتهريب الأسلحة. ومع استمرار الأزمة، لجأ السوريون الهاربون من نظام البعث إلى لبنان. ورغم أنّ الحكومة اللبنانية لم تكن دائماً مرحّبة باللاجئين، فإنّ لبنان كان أكثر أماناً لهم مقارنة بتركيا أو دول عربية أخرى مثل السعودية.
حتى ديسمبر 2011، لم يتجاوز عدد اللاجئين خمسة آلاف، لكنه ارتفع إلى 29 ألفاً في يونيو 2012 عقب قصف مدينة حمص، ثم وصل إلى 36 ألفاً في أغسطس و101 ألف بحلول منتصف أكتوبر، وتركز أغلبهم في شمال لبنان والبقاع. وبحلول يناير 2014، بلغ العدد 809 آلاف لاجئ، وفي العام التالي اقترب العدد من 1,145,000 ألف لاجئ.
أدى تدفق اللاجئين إلى تفاقم التوترات الطائفية في لبنان، لا سيما في الشمال، حيث كان معظم اللاجئين من السنّة. وأعرب السنّة هناك عن استيائهم من النظام السوري الذي أغلق الحدود وأضر بالاقتصاد المحلي، بموافقة ضمنية من حكومة لبنانية موالية لحزب الله. وازدادت هذه التوترات بعد اغتيال وسام الحسن في تفجير سيارة مفخخة يوم 19 أكتوبر 2012. فقد كان الحسن يمثل حلقة وصل مع الثوار السوريين المناهضين لنظام البعث، ويُزعم أنه شارك في تهريب الأسلحة إليهم.
أعداد اللاجئين السوريين في لبنان 2011-2015

منذ بدايتها، أثّرت الثورة السورية في جميع القوى السياسية في لبنان. ولم يعد التوازن الذي دعم اتفاق الطائف قائماً، لكن البنية السياسية للبنان ظلّت من دون تغيير.
لم يتمكن حزب الله ولا تيار المستقبل من السيطرة على قاعدتهما الشعبيتين سيطرة كاملة. وأعلن حزب الله وحلفاؤه اللبنانيون، بما في ذلك التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون، وحركة أمل بقيادة نبيه بري، دعمهم الصريح للنظام السوري. لكن نظام الأسد لم يتمكن من تقديم دعم كبير في المقابل بعد أن أضعفته الحرب الأهلية، بل سعى حزب الله إلى حماية نفسه عبر إرسال مقاتلين لدعم دمشق عام 2013. وقد حافظت تلك التوجهات التي اتبعها الحزب على علاقاته السياسية مع القوى الخارجية خاصة إيران. وفي الوقت نفسه، تجنب الحزب أي فعل داخل لبنان من شأنه أن يستدعي رد فعل إسرائيلي واسع النطاق.
ومن المفارقات أنّ الأزمة السورية أدت إلى تحوّل مهم في لبنان عبر تقليل الاهتمام الدولي به. ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان لبنان جزءاً من الخط الأمامي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن ثورات العقد الثاني من القرن العشرين حوّلت الانتباه إلى مناطق أخرى مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا.
وفي هذه الأثناء، بدأ حزب الله يوسّع نفوذه خارج حدود لبنان. إذ تغيرت علاقته بسوريا تغيراً جذرياً، فلم يعد حزب الله يعتمد على سوريا، بل أصبح عنصراً رئيسياً في الحفاظ على نظام بشار الأسد. وفي عام 2016، أفادت تقارير بأنّ حزب الله فقد ما بين 1700 و1800 مقاتل في سوريا منذ عام 2013، وهو ما يفوق خسائره التي بلغت نحو 1200 مقاتل في مواجهاته مع إسرائيل منذ عام 1998.
أسهم تورط حزب الله في سوريا في حصوله على تمويل كبير وتسليح ضخم، خاصةً من إيران، مما عزز قدراته العسكرية داخل لبنان وجعل أي محاولة لتحديه أمراً مستحيلاً. ومع ذلك، جاء هذا التوسع العسكري على حساب تكلفة سياسية باهظة. فقد بدا أنّ حزب الله لم يعد ظاهرة لبنانية خالصة، بل تحوّل إلى جزء من صراع إقليمي وهو ما أدى إلى نفور شريحة كبيرة من اللبنانيين. إذ لم يعد تركيز الحزب الرئيسي هو مواجهة إسرائيل وحماية المستضعفين، بل تحوّل إلى قتال السنّة في سوريا وأماكن أخرى.
نتيجة لذلك، فقد حزب الله القدرة على تقديم نفسه كمظلة توحّد الطوائف اللبنانية في مواجهة إسرائيل. فبين عامي 2015 و2020، يكاد يكون الحزب قد نأى بنفسه عن التورط ضد إسرائيل على الإطلاق. وبدلاً من ذلك، انصبّ تركيزه بشكل متزايد على مجتمعه الشيعي، مما أدى إلى تراجع نقاط التلاقي مع الطوائف اللبنانية الأخرى.
ورغم ذلك، ظل حزب الله مشاركاً في الحكومات اللبنانية، وهو ما أثر على مستوى المساعدات الدولية المقدمة إلى لبنان. ففي فبراير 2016، تراجعت السعودية عن وعودها بتقديم مساعدات بقيمة 4 مليارات دولار للقوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي، مبررة ذلك بـ”مصادرة ما يُسمى حزب الله اللبناني لإرادة الدولة”. وفي ديسمبر 2015، أدى قانون “منع تمويل حزب الله الدولي” الذي أصدرته الولايات المتحدة إلى قطع المعاملات المصرفية الدولية المرتبطة بالحزب، مما جعل من الصعب عليه الحفاظ على دوره كمزود رئيسي للخدمات المقدمة إلى الطائفة الشيعية اللبنانية.
انهيار الاقتصاد اللبناني
نتيجةً لذلك، عجز النظام السياسي اللبناني عن التعامل مع المشكلات الاقتصادية الهيكلية التي تواجهها البلاد.
ومع ذلك، استمر النظام في العمل شكلياً على المستوى الرسمي. ففي عام 2016، توصل السياسيون من التحالفين الرئيسيين، تحالف 8 آذار وتحالف 14 آذار، إلى اتفاق لاختيار ميشال عون البالغ من العمر 83 عاماً رئيساً للجمهورية. وفي العام التالي، وضعت الحكومات الأوروبية خطة لإنعاش الاقتصاد اللبناني، ونظمت في أبريل 2018 مؤتمراً للمانحين في باريس ركز على تطوير البنية التحتية بتمويل من قروض ميسرة بشرط إجراء إصلاحات لتحفيز الإنتاج.
مع ذلك، كانت الأزمة أشد إلحاحاً من الحلول متوسطة الأجل. فقد بلغت نسبة البطالة 46%، وتلاشت الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي. وفي أكتوبر 2019، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق عندما أعلنت الحكومة عن خطة تقشف مالي تشمل زيادة الضرائب المفروضة على الوقود والتبغ، وفرض رسوم على استخدام تطبيق “واتساب” عبر الإنترنت. وهكذا، استقالت حكومة سعد الحريري وتشكلت حكومة جديدة برئاسة حسان دياب في يناير عام 2020.
لم تحقق حكومة دياب أي تقدم في وضع خطة اقتصادية جديدة. فقد فشلت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إذ اشترطت الدول المانحة الكبرى تخصيص التمويل للأغراض الإنسانية فقط، وربطت أي مساعدات إضافية بإحراز تقدم اقتصادي فعلي، لا سيما في قطاع الكهرباء (إذ بلغت خسائر مؤسسة كهرباء لبنان 43% من إجمالي الدين العام اللبناني)، فضلاً عن استقرار العملة والموازنة العامة للدولة. لكن تحقيق هذه الشروط كان يتطلب التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو ما كان مستحيلاً.
أزمة كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت

تفاقمت المشكلات النظامية بفعل حالتي طوارئ متزامنتين في لبنان. ظهرت أول موجة من إصابات فيروس (كوفيد-19) في مارس عام 2020، وتمكنت الحكومة من إدارتها بكفاءة من خلال فرض إغلاق صارم استمر ثلاثة أشهر، على الرغم من تكلفته الباهظة. ثم جاءت موجة ثانية في أغسطس، إذ أُجبرت الحكومة على مواجهة تحدٍ مزدوج، شمل التعامل مع الجائحة وانفجار مرفأ بيروت الضخم في الرابع من أغسطس الذي أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص، وتدمير أجزاء كبيرة من المدينة، وتشريد نحو 300 ألف شخص. وفي 10 أغسطس 2020، استقال رئيس الوزراء حسان دياب وحكومته. وفي 30 أغسطس، رُشح مصطفى أديب السفير اللبناني في ألمانيا لتولي منصب رئيس الوزراء.
وبعد انفجار المرفأ، سارعت الجهات المانحة الأجنبية إلى تقديم مساعدات إنسانية إلى بيروت، لكن الحكومات الغربية أصرت على أن تلتزم الحكومة الجديدة بتنفيذ جدول زمني محدد للإصلاحات. وقد شملت هذه الإصلاحات استئناف المفاوضات المتوقفة مع صندوق النقد الدولي، وإقرار قانون لضبط رأس المال، وإجراء تدقيق شامل لحسابات مصرف لبنان، وإصلاح قطاع الكهرباء، وتشريع قانون استقلال القضاء، بالإضافة إلى سنّ قوانين لمكافحة الفساد.
وحذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أنّ هذه اللحظة ستكون “الفرصة الأخيرة”. وفي الوقت ذاته، أرادت الحكومة الأمريكية الحد من نفوذ حزب الله، ففرضت عقوبات على سياسيين متحالفين معه. وعلى إثر ذلك، قدّم مصطفى أديب استقالته، معلناً عدم قدرته على تشكيل حكومة جديدة في ظل ذلك المناخ العام.
عاد سعد الحريري في 22 أكتوبر لتولي منصب رئيس الوزراء بدعم من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، وحركة أمل. لكن حزب الله والتيار الوطني الحر بقيادة الرئيس ميشال عون والقوات اللبنانية امتنعوا عن دعمه. وقد أمضى الحريري الأشهر التسعة التالية في نزاعات مع الرئيس عون حول تشكيل الحكومة، وفي 15 يوليو 2021 قدّم استقالته مجدداً، فخلفه نجيب ميقاتي.
وفي ذلك الوقت، دخل لبنان في أزمة عميقة ومستعصية. فبين أكتوبر 2019 وأكتوبر 2020، خسرت الليرة اللبنانية 75% من قيمتها. وبحلول نهاية عام 2020، أصبح أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وبلغت نسبة البطالة 35% من القوى العاملة. أما اللاجئون السوريون والفلسطينيون، فقد كان تسعة من كل عشرة يعانون من انعدام الأمن الغذائي.