Chronicle of the Middle East and North Africa

ثورة الأرز: كيف تجذّر الانقسام في لبنان؟

ازدادت حدة التوتر الطائفي بين السنّة والشيعة بعد عام 2005 على خلفية مواقف حزب الله وحركة أمل المؤيدة لسوريا، والحرب مع إسرائيل عام 2006، وسيطرة حزب الله على العاصمة بيروت في مايو 2008. لكن اغتيال رفيق الحريري شكّل نقطة تحول كبرى أدت إلى تعميق الانقسام الداخلي في لبنان.

ثورة الأرز لبنان
نصب تمثال برونزي لرئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في وسط بيروت في 14 فبراير 2008، يوم الذكرى الثالثة لاغتياله. وقد نحت التمثال الفنان مكريش مازمانيان، ونُصب بالقرب من مبنى تضرر بشدة في الانفجار الذي أودى بحياة رئيس الوزراء في عيد الحب عام 2005. Enes Canli / Anadolu Agency

كتبه: سي. آر. بينيل المحاضر السابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط بجامعة ملبورن في أستراليا

حرره: إريك برنس

اغتيال رفيق الحريري

أدى اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 إلى أزمة سياسية حادة، إذ أشعل مقتله شرارة احتجاجات واسعة النطاق ضد الوجود السوري في لبنان، كما أدى إلى ضغوط دولية على بيروت.

وفي 21 فبراير، شهدت بيروت مظاهرة حاشدة في موقع الاغتيال، حيث طالب المحتجون بإنهاء الاحتلال السوري وحمّلوا الرئيس اللبناني إميل لحود، الموالي لسوريا، مسؤولية الجريمة. وتكررت المظاهرات أسبوعياً في ساحة الشهداء وسط بيروت مما أدى إلى اندلاع ما عُرف باسم “ثورة الأرز” نسبة إلى رمز لبنان الوطني. وفي 28 فبراير، أعلن رئيس الوزراء عمر كرامي استقالته ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة.

وعلى الصعيد الدولي، واجهت سوريا معارضة شديدة من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية. وحين زار الرئيس السوري بشار الأسد الرياض في 3 مارس 2005، وجّه له ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز إنذاراً صريحاً لسحب الجيش السوري والمخابرات السورية من لبنان على الفور.

نشأة تكتلين سياسيين

في الثامن من مارس عام 2005، ردت الأطراف الموالية لسوريا، ولا سيما حزب الله وحركة أمل، بمظاهرة حاشدة في وسط بيروت رداً على ثورة الأرز. وانضم إليهم لاحقاً التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون وشكّلوا معاً تحالف 8 آذار.

وبعد أسبوع، شهد قلب بيروت مظاهرة حاشدة أخرى شارك فيها مئات الآلاف، وذكرت بعض التقارير أنّه شارك فيها نحو مليون متظاهر. ورفع المتظاهرون ثلاثة شعارات: “حرية، سيادة، استقلال”، وجمعت المظاهرة حزب الكتائب اللبنانية، وحزب القوات اللبنانية، والحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي بزعامة وليد جنبلاط، وتيار المستقبل الذي كان يرأسه آنذاك سعد الحريري، الابن الثاني لرفيق الحريري.

كان سعد الحريري، رغم قلة خبرته السياسية، يتمتع بدعم دولي وشعبية كبيرة بين الطائفة السنّية لكونه رجل أعمال شاباً له علاقات وثيقة مع السعودية (مثل والده). وقد أُطلق على هذا التحالف لاحقًا اسم تحالف 14 آذار.

طالب متظاهرو تحالف 14 آذار بإجراء تحقيق دولي في اغتيال رفيق الحريري، وانسحاب الجيش السوري من لبنان. وسرعان ما تحقق ذلك، إذ أصبح الوجود السوري السافر أمراً لا يمكن استمراره. فبدأ الانسحاب السريع والمذلّ للقوات والمخابرات السورية في أواخر أبريل 2005، وتم تنفيذه بشكل غير منظم خلال أقل من شهر. وفي الانتخابات النيابية اللبنانية التي أُجريت في مايو ويونيو، تكبدت الأحزاب المدعومة من سوريا هزيمة ساحقة باستثناء مرشحي حركتي أمل وحزب الله.

وتولى فؤاد السنيورة بعد الانتخابات رئاسة الحكومة، وهو مصرفي سبق له أن شغل منصب وزير المالية بين عامي 2000 و2004. وكانت لدى السنيورة الخبرة السياسية اللازمة لقيادة تحالف 14 آذار بخلاف سعد الحريري، وتمكن من تشكيل حكومة جديدة في شهر يوليو. ولكن سرعان ما أظهرت الحكومة السورية أنّها ستواصل إظهار هيمنتها رغم سحب جيشها وإغلاق الحدود بين البلدين.

كان الشيعة وكثير من المسيحيين يرون في ما اعتبروه “انتصاراً سنياً” مصدر شكوك. ورغم ذلك، حقق حزب الله، المتحالف مع حركة أمل، نتائج جيدة في الانتخابات، وأُعيد انتخاب نبيه بري، زعيم حركة أمل، رئيساً لمجلس النواب. وأعلن حزب الله دعمه الكامل لحكومة السنيورة الجديدة. ورغم انسحاب الجيش السوري من لبنان، بقي حزب الله لاعباً قوياً ومؤثراً بمفرده.

حرب تموز أو حرب لبنان عام 2006

لم يضعف انسحاب سوريا عام 2005 من قوة حزب الله كما توقع بعض المراقبين، بل استمرت عمليات حزب الله ضد المواقع الإسرائيلية على الحدود. وفي 12 يوليو 2006، قتلت وحدة من حزب الله ثلاثة جنود إسرائيليين وأسرت اثنين آخرين في كمين على الحدود. وطالب حزب الله بعقد صفقة لتبادل الأسرى مع إسرائيل، لكن الجيش الإسرائيلي رد بقصف جوي ومدفعي مستهدفاً البنية التحتية المدنية اللبنانية ومواقع حزب الله العسكرية. وبعد ذلك بدأت القوات الإسرائيلية بغزو بري لجنوب لبنان، لكن حزب الله كان مستعداً على النحو اللازم.

ثورة الأرز لبنان
أنقاض منزل دمرته الطائرات الحربية الإسرائيلية في مدينة مرجعيون جنوب لبنان، 12 يوليو 2006. قصفت إسرائيل لبنان براً وبحراً وجواً لاستعادة الجندييْن الذيْن وقعا في أسر حزب الله، وكان ذلك أول هجوم إسرائيلي كبير من نوعه منذ انسحابها عام 2000. Riza Ozel / Anadolu

أدت الحرب إلى خسائر مدنية كبيرة، وصدر عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحد القرار رقم (1701) الذي طالب بنزع سلاح حزب الله، وانسحاب إسرائيل، ونشر الجيش اللبناني تحت حماية قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل). توسعت قوات اليونيفيل، ونشر الجيش اللبناني قواته في جنوب لبنان لأول مرة منذ عقود. كما انسحبت معظم القوات الإسرائيلية بحلول الأول من أكتوبر، لكن حزب الله احتفظ بسلاحه.

لم ينعم لبنان بالاستقرار بعد الحرب، وسط تباين واضح في مواقف الرأي العام العربي والإسلامي. فقد دعمت إيران وسوريا واليمن حزب الله بقوة، بينما انتقدته مصر والأردن، وعارضته السعودية وحلفاؤها الخليجيون والسلطة الفلسطينية بضراوة. وشهد لبنان مظاهرات حاشدة في ديسمبر 2006، تلتها إضرابات عامة ومواجهات بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها، وعمليات اغتيالات وتفجيرات لسيارات مفخخة. وفي تلك الأجواء المتوترة، بدأت ميليشيات مختلفة بإعادة تسليح نفسها.

رداً على ذلك، أصر حزب الله على استقالة الوزراء الشيعة وهو ما حصل بالفعل، ودعا إلى استقالة حكومة السنيورة، فلم تستجب الحكومة لذلك. وخلال تلك الأزمة، لم يستطع مجلس النواب الاجتماع لانتخاب خليفة للرئيس لحود المنتهية ولايته. وهكذا، أصبح السنيورة رئيساً مؤقتاً بالنيابة إلى حين انتخاب رئيس جديد.

وهنا صار لبنان في انقسام شديد، إذ أصبح معظم الشيعة يدعمون حزب الله باعتباره القوة الوحيدة القادرة على مقاومة الهجمات الإسرائيلية، بينما رأت غالبية الطوائف الأخرى أنّ الحزب مصدر الخطر الأكبر على البلاد.

تصاعد الدور السياسي لحزب الله

مثّل نجاح حزب الله النسبي في إعادة إعمار المناطق المدمرة بسبب الحرب تبايناً واضحاً مع الجهود الحكومية الضعيفة والبطيئة. وفي ظل قيادة سياسية يهيمن عليها السنّة والموارنة، ومعارضة يهيمن عليها الشيعة، كان خطر اندلاع الحرب الأهلية وشيكاً.

على جانب المعارضة، كان هناك تحالف غريب بين حزب الله والتيار الوطني الحر بزعامة الجنرال عون، وهو الحزب الماروني الرئيسي المعارض للحكومة. لم يرغب عون ولا حزب الله في نزع سلاح الميليشيات، وهو ما شكّل أرضية مشتركة في سياساتهما.

ومع ذلك، أدركت قيادة حزب الله بحلول عام 2007 أنّه لا يمكن جني كثير من المكاسب عبر القتال. وفضّل عديد من مؤيديه في الجنوب أن يعمل حزب الله كقوة ردع بدلاً من اتخاذ خيار المقاومة المفتوحة. وعلى الرغم من اتهام حزب الله لقوات اليونيفيل بأنّها تخدم مصالح إسرائيل، فإنّ العديد من أهل الجنوب اعتبروها مصدراً للحماية. وقد دفع هذا الواقع حزب الله أكثر فأكثر نحو الانخراط السياسي في الساحة اللبنانية.

وفرت مطالبة حزب الله بالوحدة الوطنية له الحماية من خلال المشاركة في النظام. لكن الحزب ظل تحت قيادة رجال الدين، وبقي الخوف من سعيه إلى فرض حكم إسلامي يحد من جاذبية حزب الله عند أتباع الطوائف المختلفة.

لم يكن حزب الله محور الصراع الوحيد في البلاد. ففي مايو 2007، اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني ومجموعة إسلامية صغيرة تُدعى فتح الإسلام، بعد أن سطت الأخيرة على أحد المصارف. طارد الجيش اللبناني أعضاء المجموعة إلى مخيم نهر البارد للاجئين في شمال لبنان. واستمرت المطاردات لأكثر من ثلاثة أشهر، أسفرت خلالها عن مئات القتلى، حتى تمكّن الجيش من القضاء على المجموعة في سبتمبر، مما شكّل دليلاً قاطعاً على ضعف الجيش اللبناني.

مزيد من الانقسامات الطائفية

كان أداء مصرف لبنان، الرمز الآخر للدولة اللبنانية، أفضل حالاً في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد نجحت سياساته الحذرة في ضمان الاستقرار النقدي ومعدلات الفائدة الجيدة، وهو ما أدى إلى استمرار تدفق رؤوس الأموال الأجنبية. وقد بلغت التحويلات المالية الأجنبية خاصة من دول الخليج نحو 6 مليارات دولار، مما جعل لبنان في المرتبة الثامنة عشرة بين أكبر الدول التي تتلقى تحويلات مالية في العالم.

ونتيجة لذلك، تمكّن لبنان من تجاوز الأزمة المالية العالمية عام 2008 بشكل جيد. فقد استمر الناتج المحلي الإجمالي في النمو (بنسبة 8% عام 2008)، وانخفض معدل التضخم، الذي تجاوز 10% في صيف العام نفسه، إلى 4% في يناير 2009.

ومع ذلك، بدأت حكومة السنيورة تواجه تحديات كبيرة مع مطلع 2008. فلم تتمكن من حل المشكلة الأساسية التي عانى منها لبنان لأربعة أعوام تقريباً: أيّ الأحزاب ستكون في الحكومة وأيّها في المعارضة؟ وكان اغتيال الحريري عام 2005 كاشفاً لمدى صعوبة إصلاح النظام الانتخابي والرئاسي، إذ كان ذلك يشكل تهديداً وجودياً لقوة حزب الله العسكرية، وهو ما لن يسمح به الحزب.

وفي محاولة لكبح نفوذ حزب الله، أقالت الحكومة في 6 مايو رئيس أمن مطار بيروت المقرب من الحزب، وأثارت التساؤلات عما إذا كان ينبغي لحزب الله التحكم في شبكة اتصالات خاصة به.

وفي 7 مايو 2008، دعا الاتحاد العمالي العام المرتبط بالمعارضة إلى إضراب عام في بيروت. وطالب منظمو الإضراب بزيادة الحد الأدنى للأجور وزيادة عامة في الرواتب ودعم أسعار الطاقة. وقد انقسمت حركة النقابات، إذ رفضت النقابات المتحالفة مع الحكومة المشاركة في الإضراب. ولكن الأمر لم يكن مجرد مسألة عمالية، بل كان مرتبطاً بالولاءات السياسية المتجذرة.

أدى ذلك إلى اندلاع مواجهة حادة انتهت بانتصار حزب الله الذي سيطر على غرب بيروت لمدة ثلاثة أيام. واحتفظ قائد الجيش اللبناني، الجنرال ميشال سليمان، بقواته بعيداً عن الصراع، بينما تراجعت الحكومة. عمّقت هذه المواجهات الانقسامات الطائفية، لكنها حافظت على حياد الجيش، وأضعفت الحكومة رغم استمرار السنيورة في منصبه

وعلى الجانب الآخر، فقد حزب الله بعضاً من شرعيته السياسية لا الطائفية. وفي 21 مايو، اجتمعت الأطراف السياسية اللبنانية في قطر ووقعت على اتفاق الدوحة الذي نص على انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد شغور المنصب نتيجة فشل النواب في التوصل إلى مرشح توافقي. كما تضمن الاتفاق إصلاح قانون الانتخابات على نحو يصبّ في مصلحة المرشحين المسيحيين في الانتخابات المقرر إجراؤها عام 2009، وهو ما يخدم مصالح تحالف 14 آذار.

تعزز موقف تحالف 14 آذار في الأول من مارس 2009 عقب تأسيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي طال انتظارها للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري. وهكذا، أنشأت الأمم المتحدة أخيراً المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي والتي كانت تضم قضاة لبنانيين ودوليين.

وفي 25 مايو، انتخب مجلس النواب ميشال سليمان قائد الجيش رئيساً للجمهورية، فأعاد تعيين السنيورة رئيساً للوزراء بعد ثلاثة أيام فقط. وقد حقق حزب الله وحلفاؤه أيضًا نتائج جيدة في انتخابات يونيو 2009. وأتت نتائج الانتخابات التي شهدت نسبة إقبال مرتفعة إلى حد ما حصول تحالف 14 آذار على 55% بعد فوزه بـ 71 مقعداً في مجلس النواب، في حين فاز تحالف 8 آذار بـ 57 مقعداً. وفي 9 نوفمبر أصبح زعيم تيار المستقبل سعد الحريري رئيساً للوزراء.

تولى سعد الحريري زمام الأمور في لبنان الذي أصبح آنذاك أكثر انقساماً من أي وقت مضى. إذ تصاعد التوتر الطائفي بين السنّة والشيعة منذ عام 2005 على خلفية المواقف المؤيدة لسوريا من حزب الله وحركة أمل، ثم حرب 2006 مع إسرائيل، فضلاً عن سيطرة حزب الله على العاصمة بيروت في مايو 2008. وقد قبل النظامان السعودي والسوري نتائج الانتخابات، ولكن المستقبل كان يحمل تحدياً كبير وغير متوقع لكل الأنظمة في العالم العربي، لا سيما النظام السوري، وهو الانتفاضات الشعبية في نهاية عام 2010 المعروفة بالربيع العربي.

Advertisement
Fanack Water Palestine