Chronicle of the Middle East and North Africa

الحرب الأهلية اللبنانية

الحرب الأهلية اللبنانية
خلال الحرب الأهلية اللبنانية، انقسمت بيروت إلى جزئين فصار القسم الشرقي للمسيحيين، والغربي للمسلمين. بينما كان “الخط الأخضر” منطقة عازلة تقطع ساحة الشهداء في وسط المدينة. وكانت الساحة قبل الحرب مركزاً اجتماعياً نابضاً بالحياة، ومن أبرز معالمها سينما ضخمة اكتمل بناؤها عام 1960 من تصميم المهندس المعماري جوزيف فيليب كرم الذي عُرف بابتكاراته في استخدام الخرسانة وتصاميمه الحديثة. تميزت السينما بتصميمها الذي بُنيّ على طراز العمارة القاسية أو الوحشية ولقب الناس السينما باسم “البيضة”، وقد احتلت أحد أطراف الساحة بالكامل. وتعرضت السينما للتدمير خلال الحرب، لكن بعد إعادة إعمار المدينة التي قادتها شركة سوليدير في أوائل الألفية الجديدة، نجت “البيضة” لتصبح رمزاً لما فُقد خلال النزاع. تُظهر الصورة الهيكل الباقي من سينما “البيضة” محاطاً بالمباني الجديدة. وقد أصبحت تلك الساحة في وقت لاحق موقعاً للتجمعات الاحتجاجية ضد الحكومة. Picture November 2001 © C.R. Pennell

كتبه: C.R. Pennell أستاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا

حرره: إريك برينس

المرحلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية

في يناير 1976، سيطرت ميليشيات الكتائب المارونية على حي الكرنتينا الذي تقطنه أغلبية مسلمة لبنانية وفلسطينية، وارتكبت مجزرة أودت بحياة 1500 شخص. كما فرضت تلك الميليشيات حصاراً على مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في 18 يناير. وبعد يومين، ردّت ميليشيات المسلمين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بمجزرة استهدفت السكان المسيحيين في بلدة الدامور.

رأت الحكومة السورية بقيادة حافظ الأسد في هذه التطورات تهديداً مزدوجاً لنظامها. فقد خشيت من أن يؤدي تفكك لبنان إلى تفاقم حالة “البلقنة” في الشرق الأوسط عامةً وسوريا على وجه الخصوص. كما خشيت أن تكوّن نظاماً متطرفاً في لبنان يسمح لجماعات المعارضة السورية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية بتعزيز قوتها، وهو ما يهدد هيمنة حزب البعث الحاكم في سوريا آنذاك.

وفي منتصف فبراير، اقترح الرئيس سليمان فرنجية بعد ضغط سوري عقد تسوية دستورية جديدة، رغم أنّها لم تُحدث تغييراً كبيراً. فقد أكدت مجدداً على التوزيع الطائفي لمناصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، لكنها وزعت المقاعد النيابية على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.

كما اقترحت أن تكون التعيينات في الخدمة المدنية والجيش على أساس الكفاءة بدلاً من الانتماء الطائفي.

لكن هذه المقترحات لم تحظ بدعم أي طرف، لأنّ مختلف القوى السياسية كانت ستُحرم من امتيازات حرصت على الحفاظ عليها. ووصفت الحركة الوطنية اليسارية التسوية بأنّها “محاولة ساخرة لإجراء إصلاح شكلي”، بينما رفض الزعيم الدرزي كمال جنبلاط المشاركة في تشكيل الحكومة. وفي تلك الأثناء، تمرد الجيش اللبناني وانقسم. إذ انشق المسلمون بقيادة الملازم أحمد الخطيب وشكلوا ما عُرف باسم “جيش لبنان العربي“، بينما انضم المسيحيون إلى الميليشيات المارونية، وأبرزها “جيش لبنان الحر” بقيادة أنطوان بركات وسعد حداد.

صُدم النظام السوري من تلك المتغيرات، إذ إنّ تقسيم لبنان كان من الممكن أن يؤدي إلى قيام دولة مسيحية صغيرة تتحالف مع إسرائيل من جهة، ودولة عربية راديكالية مدعومة من العراق من جهة أخرى. وبموافقة ضمنية من الولايات المتحدة وإسرائيل، اجتاح الجيش السوري لبنان في 31 مايو و1 يونيو 1976، وسط مقاومة من القوات الفلسطينية واليسار اللبناني.

وتحرك الجيش السوري بثلاث تشكيلات عسكرية، الأولى على طريق بيروت-دمشق وتوقف عند مشارف بيروت، بينما توجهت الثانية إلى جبال الشوف نحو صيدا حيث تصدت له قوات منظمة التحرير الفلسطينية. أما الثالثة، فقد دخلت سهل البقاع صوب مدينة طرابلس، حيث تمكنت الميليشيات المسيحية من إيقافها.

الغزو السوري للبنان

أجبرت الحكومة السورية الرئيس سليمان فرنجية على الاستقالة عبر وكلائها في لبنان، وفي الأول من يونيو ضمنت انتخاب إلياس سركيس رئيساً للجمهورية. كان سركيس مديراً سابقاً لمصرف لبنان المركزي، وخسر الانتخابات الرئاسية أمام فرنجية قبل ست سنوات.

وشعر الرئيس السوري حافظ الأسد بالقلق من احتمال التدخل الإسرائيلي. ولتفادي ذلك، زاد حجم القوات السورية في لبنان خلال يونيو من 12 ألف إلى 25 ألف جندي بهدف منع هزيمة حلفائه الموارنة.

وفي 12 أغسطس، اقتحمت الميليشيا الموالية للرئيس السابق كميل شمعون مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين الذي كان محاصراً منذ يناير. وارتكبت الميليشيا مجزرة مروعة راح ضحيتها ما بين ألفين إلى 3 آلاف من سكان المخيم.

وفي أكتوبر، نجحت الحكومة السعودية في تنظيم مؤتمر أدى فعلياً إلى تسليم لبنان للسيطرة السورية. وبذلك، أصبح النظام المصرفي هو الرمز الوحيد المتبقي للاستقلال اللبناني، إذ ظلت الليرة اللبنانية عملة قوية. لكن بخلاف ذلك، سادت الفوضى والاضطرابات أنحاء البلاد كافة.

شهدت البلاد موجة من عمليات الخطف ربيع عام 1977. واغُتيل الزعيم الدرزي كمال جنبلاط على يد الحزب السوري القومي الاجتماعي بالتعاون مع حزب البعث السوري بحسب التقديرات الراجحة. وبعد ذلك سيطر الموارنة على جبل لبنان تحت غطاء الهيمنة السورية.

وهكذا انتهت المرحلة الأولى من الحرب الأهلية بتدخل القوى الخارجية في الصراع الداخلي.

1978: الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان

في 11 مارس 1978، عبر فدائيون فلسطينيون من جنوب لبنان إلى داخل إسرائيل واستولوا على حافلة إسرائيلية. ورداً على ذلك، شنت القوات الإسرائيلية في 15 مارس غزواً شاملاً لجنوب لبنان وصولاً إلى نهر الليطاني. عقب ذلك، أنشأت إسرائيل منطقة حدودية خاضعة لسيطرة الرائد سعد حداد، الذي أصبح قائداً لجيش لبنان الجنوبي، وهي مجموعة مسيحية منشقة.

تحالف جيش لبنان الجنوبي مع إسرائيل واكتسب نفوذاً كبيراً. وفي عام 1979، أعلن حداد تأسيس “دولة لبنان الحر” في الجنوب، مما جعل منطقتي جبل لبنان وأقصى الجنوب فعلياً تحت سيطرة الموارنة. وفي محاولة لفرض السلام في المناطق الواقعة بين لبنان وإسرائيل، أسس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) لمراقبة الجنوب. ومنذ ذلك الحين، يجدد المجلس تفويض اليونيفيل بشكل مستمر.

وفي عام 1979، وقّعت إسرائيل ومصر معاهدة سلام شاملة. وكانت اتفاقيات كامب ديفيد تهدف إلى وضع “إطار للسلام في الشرق الأوسط”. كما نصّ قرار الأمم المتحدة رقم 242 على الأساس المتفق عليه نظرياً لتسوية النزاع سلمياً. وذلك من خلال انسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية وقطاع غزة، والتحرك نحو إقامة سلطة حكم ذاتي في تلك المناطق.

ومع ذلك، لم تتطرق المعاهدة إلى حق العودة الفلسطيني أو مرتفعات الجولان السورية (التي احتلتها إسرائيل عام 1967)، وهما عاملان أثّرا بشكل مباشر في الوضع في لبنان. بل إنّ المعاهدة لم تتضمن أي إشارة إلى لبنان على الإطلاق.

وفي داخل لبنان، طغت المصالح السياسية على الانقسامات الدينية. فقد قوبل الوجود الفلسطيني بمعارضة قوية من القوات المارونية، لا سيما حزب الكتائب الموالي لبشير الجميل، وتبنت ميليشيا حركة أمل الشيعية الموقف ذاته. إذ ساد السخط بين كثير الشيعة من التحالف الفلسطيني السنّي الذي تسبب في زعزعة الاستقرار جنوب لبنان. وقد حظي الرائد سعد حداد في بداية الأمر بدعم كبير من الشيعة. وفي هذا السياق، بدأ تيار سياسي شيعي جديد في التبلور وكان على صلة بالمركز الشيعي في النجف بالعراق وحزب الدعوة العراقي.

بعد الثورة الإيرانية عام 1979، أقام القادة الجدد في إيران علاقات وثيقة مع الطائفة الشيعية في لبنان، ليبرز بذلك لاعب دولي جديد في الشأن اللبناني. لكن الأمور سارت في اتجاه مختلف أيضاً، إذ امتدت تداعيات الأزمة اللبنانية إلى ما وراء حدودها. ففي مارس 1975، اغتيل الملك فيصل على يد أمير سعودي متطرف كان قد تدرب مع الفلسطينيين في لبنان.

1982 - الغزو الإسرائيلي الثاني للبنان

الحرب الأهلية اللبنانية
في 24 سبتمبر 1982، اغتيل عدد من ضباط الجيش الإسرائيلي الذي كان يحتل بيروت آنذاك، وذلك في عملية نفذها مقاتلو الحزب السوري القومي الاجتماعي أثناء جلوسهم في مقهى “ويمبي” بشارع الحمرا. وما تزال الملصقات التي تحتفي بهذا الحدث ظاهرة في بيروت عندما التُقطت هذه الصورة عام 2001. وقد نُقش على الملصق: “يوم أغرّ في تاريخ المقاومة”. Photo © C.R. Pennell 2001

في يونيو، وبعد محاولة مجموعة فلسطينية منشقة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، غزا الجيش الإسرائيلي لبنان مجدداً في عملية أسمتها “سلامة الجليل” ووصلت بقواتها شمالاً حتى وصلت إلى بيروت في يوليو. وكان الهدف الإسرائيلي من الغزو وقف الهجمات الفلسطينية المنطلقة من لبنان، وتدمير منظمة التحرير الفلسطينية في البلاد، وتنصيب حكومة مارونية موالية لإسرائيل.

وفي 7 يوليو 1982، وافق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان على إرسال قوة عسكرية أمريكية صغيرة ضمن بعثة قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات للمساهمة في حفظ استقرار لبنان. وضمت البعثة وحدات عسكرية من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا. وكانت مهمتها الإشراف على انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت الغربية ومنع حدوث مواجهة دموية بين القوات الإسرائيلية والمقاتلين الفلسطينيين.

بعد حصار بيروت الغربية وتعرضها لقصف إسرائيلي عنيف، تفاوضت منظمة التحرير الفلسطينية وحلفاؤها على وقف إطلاق النار بوساطة المبعوث الأمريكي الخاص فيليب حبيب. وقد أسفر الاتفاق عن خروج منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات من لبنان. إذ تمكن حبيب في الشهر التالي، في أغسطس 1982، من التوصل إلى هدنة انتقلت بموجبها قيادة منظمة التحرير إلى تونس، بينما انسحبت القوات الإسرائيلية من بيروت. واكتمل الانسحاب بين 21 أغسطس و1 سبتمبر.

في الوقت نفسه، في 23 أغسطس 1982، انتُخب بشير الجميل، زعيم حزب الكتائب الماروني الموالي لإسرائيل، رئيساً للبنان. لكن بعد أقل من شهر، وتحديداً في 14 سبتمبر، اغتيل الرئيس الجديد. وفي اليوم التالي، اجتاح الجيش الإسرائيلي بيروت الغربية.

مجزرة صبرا وشاتيلا

تولى أمين الجميل منصب رئيس الجمهورية خلفاً لشقيقه بشير بدعم من الجيش الإسرائيلي، وكان عازماً على حفظ الهيمنة المارونية. بيّد أنّ الجميل واجه معارضة واسعة من ائتلاف شمل السنّة والفلسطينيين واليساريين ممثلاً في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.

وما بين يومي 16 و18 سبتمبر، شنّت ميليشيات الكتائب هجوماً انتقامياً رداً على اغتيال قائدها، واستهدفت حي صبرا التي تسكنه أغلبية فلسطينية ومخيم شاتيلا. وأسفرت المجزرة عن مقتل ما بين 1500 و3500 مدني معظمهم من الفلسطينيين والشيعة اللبنانيين. ونفذت الميليشيات المجزرة تحت حماية الجيش الإسرائيلي، أو على الأقل بموافقته الضمنية. وسرعان ما شكّلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق برئاسة القاضي يتسحاق كاهان رئيس المحكمة العليا.

وحين صدر تقرير اللجنة في 8 فبراير 1983، ألقى بالمسؤولية المباشرة على عاتق مقاتلي ميليشيات الكتائب، مؤكداً عدم تورط أي إسرائيلي “بشكل مباشر.” ومع ذلك، حمّل التقرير وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون “مسؤولية شخصية” لتجاهله المخاطر وعدم اتخاذ “الإجراءات اللازمة لمنع إراقة الدماء”، وأوصت اللجنة بإقالته. ورغم رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن تنفيذ التوصية، فقد أجبرت الاحتجاجات داخل إسرائيل شارون على الاستقالة في نهاية المطاف. وفي 29 سبتمبر 1982، انسحب الجيش الإسرائيلي من بيروت وأنهى بذلك عملياته في لبنان.

قوى سياسية وتكتيكات جديدة على الساحة اللبنانية

الحرب الأهلية اللبنانية
حسين الموسوي (وسط)، مؤسس ميليشيا أمل الإسلامية الموالية لإيران والتي جرى حلها لاحقاً، يتحدث في 10 يوليو 1985 في بعلبك، وإلى جانبه القائد أبو الطلال (يمين) الرجل الثاني في حزب الله. وذلك في معقل الحزب بوادي البقاع. JOEL ROBINE / AFP

أسفر الغزو الإسرائيلي عام 1982 عن تطورين مهمين في جنوب لبنان وهما ظهور حركة حزب الله الشيعية، وتكوين ضيعة تسيطر عليها ميليشيا جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد وكيلاً لإسرائيل.

رحب العديد من الشيعة في جنوب لبنان في بادئ الأمر بالغزو الإسرائيلي، إذ كانوا يرغبون في خروج منظمة التحرير الفلسطينية من المنطقة. ولكن عندما أوضحت إسرائيل نيتها البقاء في الجنوب، تحول بعض الشيعة إلى العمل المسلح. وانقسمت حركة أمل بقيادة نبيه بري إلى جناحين، أحدهما معتدل والآخر راديكالي.

وكان السيد حسين الموسوي من بين الشخصيات البارزة في الجناح الراديكالي، إذ اتهم بري بالتعاون مع العدو ثم انتقل إلى منطقة البقاع لتأسيس حركة أمل الإسلامية في يونيو 1982. وسرعان ما اتحدت الحركة مع عدة حركات شيعية صغيرة لتشكيل حزب الله كمنظمة جامعة. وبدأ حزب الله ببناء روابط في بيروت مع الشيخ محمد حسين فضل الله رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الذي أصبح المرشد الروحي للحزب، وشاركه في ذلك شخصية أخرى مؤثرة هو السيد حسن نصر الله.

وأرسل النظام الثوري في إيران دعماً للحركة تمثّل في تمويل مالي ووحدة من الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع شرقي لبنان. وتعاون حزب الله مع طهران على اختطاف رهائن أجانب في بيروت من بينهم ستة أمريكيين. وفي واشنطن، حاولت عناصر في الإدارة الأمريكية تحريرهم من خلال عقد صفقة سرية تضمنت تقديم مساعدات للكونترا، وهي مجموعة متمردة في نيكاراجوا. وكان الكونغرس قد حظر على الإدارة الأمريكية تقديم تمويل مباشر إلى الكونترا، ولذلك كانت صفقة إيران-كونترا بمثابة مخطط لغسل الأموال تضمنت بيع الولايات المتحدة أسلحة إلى إيران في إطار اتفاق يهدف إلى إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين واستخدام الأموال لدعم الكونترا.

أصبح اختطاف الرهائن أمراً معتاداً خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1982 و1992، إذ اختُطف أكثر من مئة أجنبي، من بينهم ثلاثة بريطانيين (جون مكارثي، وبريان كينان، وتيري وايت)، وكان أغلبهم من أمريكا ودول أوروبا الغربية، لكنهم مثّلوا في المجمل 21 دولة. وصار اختطاف الرهائن ظاهرة متكررة خلال الصراع في لبنان أيضاً، فقد اختفى نحو 17 ألف لبناني بعد اختطافهم بين عامي 1976 و1992. ورغم أنّ حزب الله نفى رسمياً تورطه في هذه العمليات، فإنه كان من بين أبرز الجهات المتورطة في عمليات الاختطاف.

الحرب الأهلية اللبنانية
بيروت، 17 يناير 1987 – صورة تُظهر المبعوث الخاص لرئيس أساقفة كانتربري البريطاني، تيري وايت، يسير على كورنيش بيروت محاطاً بحراس شخصيين مسلحين من الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي. كان وايت قد تفاوض على إطلاق سراح عدد من الرهائن الغربيين في لبنان خلال الثمانينيات، قبل أن يُختطف في يناير 1987 ويُحتجز لنحو خمس سنوات في لبنان.

لم يكن اختطاف الرهائن التكتيك السياسي الوحيد الجديد الذي ظهر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فقد برز أيضاً تكتيك التفجيرات الانتحارية. ففي 18 أبريل 1983، اقتحمت شاحنة صغيرة مقر السفارة الأمريكية، وقام سائقها بتفجير طن من المتفجرات، مما أسفر عن مقتل نحو 60 شخصاً من الدبلوماسيين والعسكريين والزوار. وفي 23 أكتوبر، استهدفت شاحنات مفخخة مقرات وحدات قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات، مما أدى إلى مقتل 241 جندياً أمريكياً و58 جندياً فرنسياً. وقد نظم حزب الله هذه الهجمات والكثير من الهجمات الأخرى.

وكما هو الحال في إيران، أدت العمليات الاستشهادية إلى ظهور ثقافة تقديس الشهداء، وذلك على الرغم من أنّ منفذي هذه العمليات لم يكونوا جميعهم من الشيعة. ففي أبريل 1985، نفذت شابة مسيحية تنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عُرفت باسم “عروس الجنوب” عملية انتحارية استهدفت القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان، لتصبح أول انتحارية من النساء.

انسحبت القوات الأمريكية من لبنان عام 1984، بينما كانت القوات الإسرائيلية قد بدأت فعلياً في الانسحاب. ففي 17 مايو 1983، توصلت إسرائيل ولبنان إلى اتفاق أنهى حالة الحرب بين البلدين مقابل انسحاب إسرائيلي بدأ في أغسطس من العام نفسه. وبحلول 3 سبتمبر، انسحبت القوات الإسرائيلية جنوباً إلى ما وراء نهر الأولي جنوبي لبنان، لتترك خلفها منطقة أسمتها “منطقة أمنية” في الجنوب.

وكانت هذه المنطقة، التي شكّلت نحو 10% من مساحة لبنان الإجمالية، تخضع جزئياً لسيطرة لحليف إسرائيل المحلي، جيش لبنان الجنوبي الذي دفع رواتب مغرية لجذب الشباب للانضمام إلى صفوفه وتعزيز قواته، وهو ما دفع كثير من سكان المنطقة الفقيرة إلى الانضمام إليه طوعاً. وفي الوقت نفسه، أجبر آخرين على العمل معه من خلال فرض الانضمام الإجباري على القرى، مهدداً بفرض عقوبات جماعية في حال عدم الامتثال.

تفكك لبنان

تفكك لبنان فعلياً في النصف الثاني من الثمانينيات، إذ انهار الاقتصاد بعدما سحبت منظمة التحرير الفلسطينية مبالغ ضخمة من المصارف اللبنانية ضمن موجة أوسع لهروب رؤوس الأموال، مما أدى إلى انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع معدلات التضخم ارتفاعاً حاداً. كما سيطرت الميليشيات على مختلف المناطق اللبنانية، وتحولت فعلياً إلى كيانات شبه تجارية. وقد شهد الاقتصاد تفتتاً واضحاً بعدما أصبحت الموانئ والمطارات تحت سيطرة كل ميليشيا حسب نطاق نفوذها. كما استمرت عمليات الاختطاف بشكل واسع النطاق، وغادر نحو ثلث السكان البلاد.

ورغم هذه الفوضى، ظلت الهياكل التقليدية للدولة اللبنانية قائمة شكلياً. فقد استمر الجيش الوطني نظرياً، وفي عام 1984 أصبح ميشال عون أصغر قائد له على الإطلاق وهو في التاسعة والأربعين من عمره. كما ظل هناك رئيس للجمهورية؛ إذ تولى أمين الجميل المنصب بعد انتخابه من قبل مجلس النواب عام 1982. و كان ينبغي اختيار خليفة له بحسب الدستور عام 1988. لكن مجلس النواب، الذي عجز عن التأثير في مسار الأحداث، فشل في انتخاب خليفةً للجميل.

على إثر ذلك، وفي 22 سبتمبر 1988، قام الجميل، قبيل انتهاء ولايته، بتعيين ميشال عون الماروني رئيساً لحكومة انتقالية وقائداً لحكومة عسكرية، وأقال سليم الحص الذي شغل منصب رئيس الوزراء. ووفقاً للميثاق الوطني، كان الحص مسلماً سنّياً، فرفض هذا الترتيب الجديد مما أدى إلى انقسام سياسي نتجت عنه حكومتان متنافستان. وقد دعم المسيحيون اللبنانيون الرئيس عون في بيروت الشرقية، بينما دعم المسلمون سليم الحص الذي اتخذ من بيروت الغربية مقراً له وحظي بدعم سوري.

في فبراير 1989، أطلق الجنرال عون ما سماه “حرب التحرير” ضد الوجود العسكري السوري. لكن حتى داخل المجتمع المسيحي، اختلف كثيرون معه بشأن تشدده إزاء الوجود السوري. نتيجة لذلك، افتقر عون إلى دعم موحد مما جعله عرضة للهجمات. وقامت القوات الجوية السورية، بموافقة ضمنية أمريكية، بشن هجوم على القصر الرئاسي وأجبرت عون على اللجوء إلى السفارة الفرنسية في بيروت. وفي 13 أكتوبر 1990، غادر عون إلى منفاه في باريس في حدث كثيراً ما يُوصف بأنه نهاية الحرب الأهلية اللبنانية.

Advertisement
Fanack Water Palestine