وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة (كويكرز) في لبنان: أقلّيّة منسيّة

انخفض عدد العائلات الكويكريّة في لبنان بسبب ارتفاع عدد الشّباب الّذين يختارون السّفر بداعي استكمال دراستهم، أو لإيجاد وظيفة، أو لبدء حياة جديدة. ويُعرف أعضاء جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة، بغالبيّتهم، بإنجازاتهم في المجال الأكاديميّ وريادة الأعمال.

كويكرز في لبنان
Photos courtesy of Brummana High School

دانا حوراني

لبنان منارة التّعدّد الدّينيّ في الشّرق الأوسط لتشبّعه بالغنى الثّقافيّ والتّقاليديّ. إذ يضمّ هذا البلد الواقع بين فلسطين -مركز الدّين المسيحيّ- وسوريا الغنيّة تاريخيًّا، 18 طائفة مختلفة. لم يشهد لبنان تعدادًا سكّانيًّا رسميًّا منذ عام 1932، لذلك قسّم كتاب حقائق العالم لوكالة المخابرات المركزيّة، معتمدًا على اللّوائح الانتخابيّة لمعرفة الأعداد، الشّعب إلى مسلمين بنسبة 67.8 % (31.9 % من السّنّة و31.2 % من الشّيعة)، ومسيحيّين بنسبة 32.4 % (مع كون الشّريحة الأكبر للموارنة)، ودروز بنسبة 4.5 %.

ومن بين الأقلّيّات المسيحيّة نذكر جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة (كويكرز) الأقلّ شهرة. ومع أنّها تُعتبَر شُعبة من الدّين المسيحيّ، فهي ترحّب بالمهتدين إليها من كلّ الخلفيّات.

جوهر النّزعة الصّاحبيّة (الكويكريّة) هو الاعتقاد بوجود نور يسوع المسيح داخل كلّ منّا، وبالتّالي إلغاء الحاجة إلى وسطاء.

غزت جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة الشّرق الأوسط للمرّة الأولى في السّتّينيّات من القرن التّاسع عشر. كان هؤلاء كويكرز من ولاية مين الشّمال أميركيّة ذهبوا في بعثة عبر منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ورسّخت الجمعيّة جذورها في الشّرق الأوسط أوّلًا، في مدينة رام اللّه – فلسطين وبرومانا – لبنان، حيث أنشأت المدرستين الكويكريّتين الأولتين والوحيدتين.

شُيّدت مدرسة الأصدقاء للبنات بطلب من الشّعب الفلسطينيّ عام 1869، وتبعها تشييد مدرسة الأصدقاء للصّبيان عام 1901. ولقد أصبحتا اليوم مختلطتين، لكنّ النّظام التّعليميّ للبنات يتراوح بين الرّوضة والصّفّ السّادس، بينما يمتدّ النّظام التّعليميّ للصّبيان حتّى الصّفّ الثّاني عشر.

أمّا في لبنان، فلقد أسّست جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة البريطانيّة مدرسة برومانا الثّانويّة عام 1873. تغمر هذا الحرم المدرسيّ، البالغة مساحته 16 فدّانًا، بيئة طبيعيّة غنيّة بالأشجار الضّخمة وإطلالة بديعة على سلسلة من الجبال. شعار المدرسة “أنا أخدم”.

ومنذ وصول المبشّرين إلى المنطقة حتّى الآن، انخفض عدد العائلات التّابعة للكويكرز بشكل ملحوظ، ولم يبقَ إلّا حفنة منهم في برومانا. غير أنّ المراقبين يشيرون إلى صمود المبادئ الكويكريّة عبر الزّمن، وإلى تأثيرها المستمرّ على المجتمع من خلال التّربية والتّعليم.

لمحة تاريخيّة

لعب المنشقّ الإنجليزيّ جورج فوكس دورًا محوريًّا في تأسيس جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة، المعروفة بالكويكرز، في إنجلترا في القرن السّابع عشر.

صادف فوكس خلال حياته العديد من الباحثين التّوّاقين إلى علاقة وطيدة مع الكائن الإلهيّ. وذلك رسّخ فيه فكرة أنّ النّاس هم مكان وجود اللّه وليس المنظّمات الدّينيّة، وأشار إلى هذه اللّحظات بـ”الفتحات” حين كان متأكّدًا من أنّ اللّه يتواصل معه مباشرة.

وعلى الرّغم من سجنه بتهمة التّجديف عام 1650، ثابر مع آخرين من الكويكيرز الأوائل في رسالتهم بنشر معتقداتهم. وبحسب سيرة فوكس الذّاتيّة، القاضي جيرفاس بينيت “كان أوّل من أسمانا كويكرز، لأنّني أمرتهم أن يخافوا كلمة اللّه.”

وهكذا اكتسبت المصطلحات شعبيّتها وتبنّاها بعض الأتباع. كما استُخدِمت مصطلحات أخرى منها “المسيحيّين الحقيقيّين”، و”القدّيسين”، و”أولاد النّور”، “وأصدقاء الحقيقة”.

بحلول ثمانينيّات القرن السّابع عشر كان الآلاف من الكويكريّين من الجزر البريطانيّة كافّة قد عانوا عقودًا من الجلد والتّعذيب والسّجن.

وبسبب معتقداتهم غير التّقليديّة، مثل مفهوم أنّ اللّه موجود داخل كلّ شخص، وُضِعت هذه الحركة قيد الاختبار. فلقد رفض الكويكرز الطّقوس التّقليديّة، ونبذوا فكرة التّسلسل الهرميّ لرجال الدّين، وآمنوا بالمساواة الرّوحيّة بين الرّجل والمرأة.

أصبح المبشّرون الكويكريّون، الّذين وصلوا إلى المستوطنات الاستعماريّة في شمال أميركا في منتصف الخمسينيّات من القرن السّابع عشر، قوّة دافعة في إلغاء الاستعباد والنّضال من أجل حقوق المرأة.

أمّا في ما يتعلّق بقيمهم الجوهريّة فهي تتلخّص بـ”النّزاهة، والمساواة، والبساطة، والسّلام، والحسّ الجماعيّ، والتّناغم مع الطّبيعة.”

من الكويكرز المشهورين نذكر: المؤلّف جيمس ميشنر، وفاعل الخير جونز هوبكينز، والممثّلَين جودي دينش وجيمس دين، والموسيقيَّتين بوني رايت وجوان بيز، ومؤسّس مصنع الشّوكولا الّذي يحمل اسمه جون كادبوري، ورئيسَي جمهوريّة أميركيَّين ريتشارد نيكسون وهربرت هوفر.

رحلة إلى الشّرق الوسط

عايشت جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة في فلسطين الحكم العثمانيّ، والحرب العالميّة الأولى، والانتداب البريطانيّ، والحرب العالميّة الثّانية، وخطّة تقسيم الأمم المتّحدة 1947، وحرب 1948، والنّكبة، والمملكة الهاشميّة للحكم الأردنيّ، والحرب العربيّة الإسرائيليّة 1967، والانتفاضة الفلسطينيّة الأولى (أو انتفاضة الحجارة)، وحرب الخليج، والانتفاضة الثّانية (أو انتفاضة الأقصى)، وبناء جدار الفصل العنصريّ، والاحتلال الإسرائيليّ العسكريّ المستمرّ.

وكان موقع لقائهم ملجأ للفلسطينيّين الهاربين من حربَي العامَين 1948 و1967.

في أوائل عام 1948، وضع الكويكريَّين الأميركيَّين، كلارنس بيكيت وروفوس جونز، عريضة تطرح الهدنة بين إسرائيل وفلسطين. لكن بعد فشل هذا الطّرح، لجأت لجنة خدمة الأصدقاء الأميركيّين (AFSC) إلى جمع التّبرّعات لمساعدة اللّاجئين. وهي حاليًّا تدير برنامجًا للشّباب على الأراضي الفلسطينيّة، وتملك مقرًّا في شرق أورشليم، ورام اللّه وغزّة.

أنشأت لجنة خدمة الأصدقاء الأميركيّين في سبعينيّات القرن العشرين ثلاث عشرة روضات للأطفال في فلسطين، وهي تتلقّى المساعدات الماليّة من خدمة جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة النّرويجيّة منذ عام 1993. تدفع الوكالة النّرويجيّة للتّعاون الإنمائيّ ومنظّمات جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة نسبة كبيرة من أجور المعلّمين، وتدير حاليًّا منظّمات محلّيّة غير حكوميّة هذه الرّوضات.

وفي ظلّ اضمحلال وجود الكويكرز في الشّرق الأوسط بشكل عامّ، وفي فلسطين ولبنان بشكل خاصّ، ما زالت مدرستَي الأصدقاء رام اللّه وبرومانا الثّانويّة صامدتَين.

عانت المدرسة الّتي تأسّست في القرن التّاسع عشر في رام اللّه من ماضٍ مضطرب. فلقد أمّنت ملجأ للفلسطينيّين خلال صراع الـ 1948، لكن بحلول عام 1967 أُقفِلت كلّ مرافق الإقامة الدّاخليّة نتيجة الاحتلال الإسرائيليّ للضّفّة الغربيّة. وعلى الرّغم من هذه التّحدّيات، استطاعت الحفاظ على سمعتها الممتازة في المجال الأكاديميّ، وهي المؤسّسة التّعليميّة الفلسطينيّة الوحيدة الّتي تمنح برنامج بكالوريا دوليّة.

تأسّست مدرسة برومانا الثّانويّة بعد وصول المعلّم الكويكريّ السّويسريّ، ثيوفيلوس فالدماير، إلى لبنان عام 1873 ليعمل كمفتّش مدارس في بيروت، وجبل لبنان، ودمشق. وصل فالدماير إلى برومانا ناويًا الاستيلاء على مدرسة الكويكرز المحلّيّة للبنات، ونتيجة لذلك، اشترى ما يساوي 20,000 ياردة مربّعة من العقارات كانت مُلكًا لبعثة جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة السّوريّة الّتي أسماها “عين السّلام” أي ينبوع السّلام. ولقد أعطته البعثة السّوريّة إذنًا ببناء مقرّ تدريب للصّبيان دُمِج لاحقًا مع مدرسة البنات ليشكّلا معًا مدرسة برومانا الثّانويّة.

أُنشئت المؤسّستين بالتّماهي مع مبادئ جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة، وشدّدتا على قيم مثل عدم التّمييز، ونبذ العنصريّة، وغياب الانحياز السّياسيّ. إضافة إلى ذلك، يُحفَّز التّلاميذ على استخدام أدوات تعلُّم مبتكَرة سعيًا للوصول إلى مستويات أعلى ولخدمة مجتمعاتهم بعطف وتواضع.

النّزعة الصّاحبيّة في لبنان

كويكرز في لبنان
مدرسة برومانا للبنين والبنات، وبيت اجتماع كويكر للعبادة، 1880. الصورة مقدمة من مدرسة برومانا الثانوية

في أواخر القرن التّاسع عشر، أُسِّس عدد من المدارس المؤقّتة في القرى المجاورة لبرومانا، وذلك لتشجيع العائلات على تعليم أطفالها. وكانت هذه المؤسّسات الصّغيرة واعدة قبل إقفالها.

شهدت منطقة رأس المتن تأسيس مدرسة كويكريّة عام 1920 تحت قيادة الإسكتلنديَّين دانيال وإميلي أوليفر. لكنّها أُقفلت بحلول ستّينيّات القرن العشرين بسبب نقص التّمويل لإعادة البناء، إثر هزّة أرضيّة ضربت المنطقة في ذلك الوقت.

أسّست جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة في لبنان أيضًا، أوّل مركز للطّبّ النّفسيّ في الشّرق الأوسط معروف محلّيًّا بـ”العصفوريّة”. وعلى الرّغم من أهمّيّته، أُغلق بسبب نقص في التّمويل واستحوذت عليه الدّولة فيما بعد وباعته كعقار عام 1974.

أمّا في ما يتعلّق بالعائلات التّابعة لجمعيّة الأصدقاء الدّينيّة، فلم يبقَ منهم إلّا خمس في لبنان، بحسب شذا أبو خليل مديرة القسم الابتدائيّ في مدرسة برومانا الثّانويّة، وهي: منسّى، قرطاس، باز، أبو خليل، وخطّار.

وقالت أبو خليل لفناك: “تحدّرت العائلات في الأصل، أيّام تأسيس المدرسة، من عدّة طوائف مسيحيّة. وفور مشاركتها في المدرسة اهتدت إلى النّزعة الصّاحبيّة.”

صرّحت أيضًا، أنّه على الرّغم من غياب الطّقوس والوسائط، ما زالت جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة تعقد اجتماعات أيّام الآحاد في مدرستها، تتخلّلها ساعة صمت وتأمّل، و”أيّ شخص يشعر أنّه اختير لمشاركة شيء ما -من الإنجيل أو غيره- يستطيع ذلك.”

وأضافت أنّ للكويكريّين الحرّيّة باستدعاء كهنة من كلّ الطّوائف، خلال الأعراس والجنائز، للمشاركة في الحفاظ على الرّوح الكويكريّة.

أمّا طلّاب مدرسة برومانا الثّانويّة فيتعلّمون مبادئ الكويكريّة منذ الرّوضة حتّى الثّانويّة. تشير أبو خليل إلى أنّ هذه المبادئ “تُدعَّم على مرّ السّنين من خلال أنشطة ننفّذها وإجراءات نتّخذها.”

ومن الأمثلة على ذلك: الأعمال الخيريّة، والتّبرّعات، والتّأمّل بدلًا من الاحتجاز، وساعات خدمة اجتماعيّة إجباريّة.

الحفاظ على الإيمان من خلال التّعليم

انخفض عدد العائلات الكويكريّة في لبنان بسبب ارتفاع عدد الشّباب الّذين يختارون السّفر بداعي استكمال دراستهم، أو لإيجاد وظيفة، أو لبدء حياة جديدة. ويُعرف أعضاء جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة، بغالبيّتهم، بإنجازاتهم في المجال الأكاديميّ وريادة الأعمال.

بحسب مدير مدرسة برومانا الثّانويّة، دايفيد غراي، لا يهتمّ الكويكرز بهداية النّاس والتّبشير بعقيدتهم بقدر ما يهتمّون بالإسهام إيجابًا في المجتمع. وبذلك قال لفناك: “نعلّم الطّلّاب منذ صغرهم كيفيّة التّفاعل مع النّاس من خلفيّات مختلفة وتقبّلهم من دون نبذ معتقداتهم الخاصّة. ولهذا السّبب لا تعلّم المدرسة السّياسة أو الدّين.”

وأضاف “يركّز الكويكرز على عيش حياة جيّدة وإلهام الآخرين بفعل الشّيء نفسه، بدلًا من السّعي إلى ضمّ النّاس إلى معتقدهم.”

يمكن لكلّ الطّوائف اللّبنانيّة أن تنضمّ إلى جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة الّتي تتقبّل الجميع أيًّا كان إرثهم وتحترم حرّيّتهم على التّعبير. ويصرّح المدير أنّ هذا صحيح على الرّغم من اختلافاتهم.

يشير غراي إلى أنّ شعار المدرسة “أنا أخدم” لطالما كان رمزًا للحفاظ على قيم جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة.

ويقول: “نركّز كجزء من برنامجنا التّعليميّ على خدمة الآخرين، والمدرسة، والعالم بأجمعه. لا يتخرّج طلّابنا إلّا بعد تحصيلهم 160 ساعة خدمة اجتماعيّة في الأعوام الثّلاثة الأخيرة.”

يصف غراي الكويكرز بـ”البديل المختلف قليلًا”، إذ يحيدون عن الفكر التّقليديّ ولا يُطلب منهم التّماهي مع المجموعة.

يؤكّد غراي وأبو خليل أنّ النّزعة الصّاحبيّة تتميّز عن كلّ التّقاليد الإبراهيميّة الأخرى وبالتّالي تخالف كلّ الأديان المهيمنة في لبنان، لكنّها تخدم ساعية إلى تطوير المجتمع ككلّ. والأمل اليوم يقع على عاتق الشّباب بتعلّمهم اللّجوء إلى حلول سلميّة بدلًا من العنف في بلد مزّقته المجموعات السّياسيّة والدّينيّة؛ وهذه عمليّة تبدأ من مقاعد الدّراسة.

Advertisement
Fanack Water Palestine