وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

اعتزال عبد السيد: تساؤلات حول المثقف والسلطة

اعتزال عبد السيد
المخرج المصري داوود عبد السيد حاملاً جائزتين تقديريتين خاصتين على فيلمه “مواطن ومخبر وحرامي” و”أرض الخوف” على هامش افتتاح مهرجان الإسكندرية للدول المتوسطية في مدينة الإسكندرية الساحلية المصرية، وذلك في وقتٍ متأخر من يوم ١٤ سبتمبر ٢٠١٠. المصدر: AMR AHMAD / AFP.

خالد محمود

“لقد اختلف الجمهور، فوداعا”..

هكذا ببساطة لخص المخرج السينمائي الكبير داوود عبد السيد المشهد السينمائي ولربما أيضا الثقافي والأدبي في مصر..

شغل عبد السيد الرأي العام بإعلانه الاعتزال رسميا..

لا أقول هنا إن المخرج المتوقف عن العمل تحديدا منذ عام 2015، بعد آخر أفلامه “قدرات غير عادية”، قد اعتزل رسميا، فمن أراد اعتزال الحياة العامة فعل دون ضجيج..

لكن مخرج الأفلام السبعة فقط، قد ألقى بحجر في مياه بحيرة السينما الراكدة في مصر..

الدوامات المتلاحقة لم تحقق أهدافها، فلم يتصل به أحد ما من القصر الرئاسي أو الحكومة أو وزارة الثقافة..

فقط همهمات الجمهور واستغرابهم من التوقيت والسبب.

في كلامه، حمل عبد السيد على مشاهديه، الذين تغيروا واختلفوا..

رغم أنه خصص أفلامه للطبقة المتوسطة وأفلام المدينة، هو يعتقد أنه تم حجب الجمهور بفعل فاعل..

الاتهام في رقبة الدولة، لكن لا إجابة، فلا أحد يمتلك ردا واضحا على ما قاله..

بعد كلامه مع المجتهدة قصواء الخلالي، التي أزعم أنها وبجدارة، قد أعادت إلى البرامج الثقافية حيويتها المفقودة على شاشة التلفاز المصري، تراجع عبد السيد ليقول إنه لم يعلن قرارا بالاعتزال وأنه لم يفكر مسبقا فيما سيقوله، رغم أن قصواء قالت إنه أبلغها في كواليس التصوير أنه سيعلن خلاله اعتزاله.

بغض النظر عن التضارب الحاصل هنا، فقد لفت الحوار مجددا إلى قيمة المحتوى الذي تقدمه قصواء في برنامجها التلفزيوني، بعدما اختاره، وفقا لما قالته “كمنبر إعلامي لإعلان ختامه لمسيرته الفنية ويتسق مع تنوع وجدية اهتماماته الإنسانية والفكرية والثقافية”.

في أغسطس الماضي، تحدثت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية عن التزام الدولة بمساندة أصحاب الرؤى في صناعة الإعلام للاستفادة من التاريخ المتميز لمصر في صناعة الإعلام والإنتاج الفني وتحويل الأفكار إلى فرص استثمارية مؤثرة تساهم في إعادة صياغة المشهد الإعلامي والفني وتقود قاطرة النمو المستدام”.

الكلام المنمق لم يسفر سوى عن صفقة شراكة واحدة فقط بين القطاعين العام والخاص، فلا زالت البنوك المصرية تحجم عن لعب دور المنتج أو المستثمر خوفا من المخاطر المترتبة على ذلك.

الحاصل هنا أن السينما المصرية التي تعاني من مشكلات بالجملة، تفقد الكثير من بريقها، لصالح جهات أجنبية محملة بأجندات مريبة ومشكوك فيها.

على سبيل المثال، الدعوة إلى قبول المثلية والممارسات خارج الزواج في المجتمع المصري، كما يطرحه فيلم أصحاب ولا أعز، لشركة نتفليكس الأمريكية التي اشتهرت بتبني أعمال ضد القيم الاجتماعية العربية التقليدية وموالاة إسرائيل، يدق جرس الإنذار..

في ظني لم تكن المصرية منى زكى في حاجة الى فيلم لإبراز قدراتها التمثيلية، ولا إلى أجرها الضخم، لكنها كانت حصان طروادة لدفع المشاهدين إلى حصة في القيم الأخلاقية، التي يطالب الغرب بتبنيها في المجتمعات العربية.

وبينما تبرز سينما جديدة في منطقة الخليج، تطالب دراسة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية نشرت عام 2020، بضرورة عودة تبني الدولة المصرية لصناعة السينما كصناعة كثيفة العمالة وواعدة اقتصاديا عبر برامج دعم متخصصة كما يحدث في الدول الأخرى، وأن تقوم الدولة بدورها كمنظم للصناعة وليس كمشارك مباشر في الإنتاج أو التوزيع.

ودعت إلى قيام البنوك بدراسة الاحتياجات التمويلية لصناعة السينما التي تأخذ في الاعتبار طبيعتها الخاصة من خلال التشاور مع صناعها.

وبعيدا عن الجانب السينمائي فيما يطرحه كلام عبد السيد، فإنه بنظرة عامة يثير أيضا تساؤلات مهمة حول متى يتقاعد المثقف؟ أو بالأحرى متى يرفع الراية البيضاء ويستسلم لنهايته المحتومة؟

لكن السؤال الذي يتجاوز الخاص إلى العام، يطرح نفسه من جديد في الساحة المصرية، التي يدور مثقفوها حول أنفسهم في حلقة مفرغة، ما بين المطالبة بدعم الحكومة، مع رفض هيمنتها على أنشطتهم الإبداعية.

وإذا كان داوود قد اختار إعلان انسحابه إعلاميا عن المشهد الثقافي، رغم أنه لازال يحضر مؤتمرات وندوات ومهرجانات، فإن كثيرين غيره لا زالوا يسعون لتغيير المشهد ويرفضون إعلان الاستقالة أو التقاعد.

صحيح أن العمل الإبداعي لا عمر له، لكن صحيح أيضا أن علاقة المثقف بالسلطة باتت ملتبسة الآن أكثر من أي وقت مضى.

ولربما كان هذا هو الجانب الأهم الذي طرحه عبد السيد في حديثه إلى قصواء.

بيد أن الإقصاء هنا ليس ترفا، أو اختيارا ذاتيا، في جمهورية يعتقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنها جديدة، بعد عقود ساهمت في تجريف الدولة المصرية، ومعها وعي المصريين إلى حد كبير..

ربما حان الوقت لكي يستمع السيسي إلى مثقفي بلاده وجها لوجه في مؤتمر جامع، ولربما أيضا حان وقت يعهد فيه بحقيبة الثقافة، كما الإعلام الغائب، إلى مثقف حقيقي، لا مجرد موظف عمومي بالدولة.

ثمة إشكالية كبيرة في هذا الصدد، لكن المثقفون، كما العشاق، لا ينسحبون ولا يرفعون الراية البيضاء، ولا يتقاعدون اختياريا، خاصة أن كان همهم الأساسي هو الشعب، ولا شيء غيره.

لكن تلك قصة أخرى، ربما نرويها لاحقا!

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.