وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصراع على ذاكرة الثورة المصرية

Translation- January revolution
متظاهرون مصريون يحملون اللافتات أثناء مظاهرة وسط القاهرة للمطالبة بإسقاط الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك والدعوة للإصلاحات يوم ٢٥ يناير ٢٠١١. المصدر: AFP.

نشر موقع “Open Democracy” مقالة سلطت الضوء على صراع القوى الثورية مع النظام المصري فيما يتعلق بسردية الثورة المصرية وما تلاها من أحداث. وتحاول مقالة أحمد السيد، الباحث في برنامج أبحاث تحويل الصراع بمؤسسة بيرغهوف في العاصمة الألمانية برلين، تناول هذا الصراع من خلال ثلاثة محاور وهي الرأي العام وشبكة الإنترنت ووضع النشطاء الثوريين خارج مصر. ويقوم السيد في مقالته باستخدام أفكار موريس هالبفاكس وهنري لوفيفر وجيمس وريتش لكشف الطرق التي يجري من خلالها إنتاج السلطة والمعرفة عبر خلق الرموز والعمران والذاكرة الجمعية.

ويبدأ السيد مقالته بالإشارة إلى أن النظام المصري البائد عاد بكامل قوته في أعقاب ما واجهه من تعثرات. ولم يكتفي النظام المصري بتعزيز سلطته الحالية فحسب، بل أنه عاد أيضاً ليسيطر على الماضي. وبصرف النظر عن الإسلاميين، يرى السيد أن الصراع على العديد من القضايا المماثلة لطبيعة الثورة ومبادئها كان وما يزال دائراً بين طرفين أساسيين وهما النظام والنشطاء الثوريين. ويحاول القسم التالي من هذه المقالة التعريف باستراتيجيات الفريقين لاختراق الوعي الجمعي للشعب وفرض سردياتهما عن الثورة وذاكرتها عبر ثلاثة نطاقات مختلفة وهي الرأي العام، وشبكة الإنترنت، وخارج مصر.

الرأي العام المصري المحاصر

تحوّلت مناطق مصر الحضرية على امتداد السنوات الماضية من مراكز ازدهارٍ للديمقراطية إلى مناطق محاصرة عسكرياً. ولم يكن الانسحاب من تلك المساحات أمراً سهلاً لأنها كانت المهد الذي تشكّلت فيه هوية الكثير من الشباب المصري.

وإذا ما تم الاعتماد على فرضية عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس التي تقول إن الرموز (الصور والنصب التذكارية) الموجودة في المحافل العام يمكن إنشاؤها (أو إعادة إنشاؤها) بواسطة جماعات مجتمعية مختلفة (الرأي العام) بحيث تنتج كل جماعة مساحة تعبّر عن وجودها، فإنه سيكون من الواضح أن الرأي العام المصري كان يعبر عمّا أبداه النشطاء الشباب من إبداعٍ وثورة خلال السنوات الأولى من عمر الثورة المصرية.

وحوّل الثوار شوارع مصر وميادينهها إلى نصبٍ تذكارية عبر رسوم الغرافيتي، والصور، والنصوص، والمباني، ليحفظوا بذلك على ذكرى الشهداء الشجعان وعلى حيوية مبادئ الثورة. ويمكن الاطّلاع على بعض هذه النماذج في كتاب جدران الحرية المنشور في عام ٢٠١٤، وهو من إعداد بسمة حمدي ودون كارل. كما ساهمت الأنشطة الثقافية التي أقامها الشباب المصري، بما فيها الحفلات والمعارض، في تعزيز السردية التاريخية لمجتمع الثورة.

وعندما تمكن الثوار من التواصل مع المواطنين على الأرض، فإنهم نجحوا في إضعاف سردية الثورة المضادة وذاكرة النظام الجمعية. وتعتبر حملة “عسكر كاذبون” في عام ٢٠١٢ المثال الأبرز على ذلك، إذ عرضت هذه الحملة وثائقيات ومقاطع فيديو في الشوارع تُكذب ادّعاءات الجيش في عدة أحداث، بالتزامن مع فضح جرائم الجنود وانتهاكات حقوق الإنسان التي تجاهلتها وسائل الإعلام الرسمية والموالية للنظام.

ومع ذلك، لم يقف الجيش صامتاً على ثورة مناطق مصر الحضرية. ويرى الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر أن المساحة الحضرية تؤسس اجتماعياً وتنتجها عادة سلطة مركزية. وبصورةٍ مماثلة، يرى الأنثروبولوجي الأمريكي جيمس وريتش أن التحكم في سلطة إنتاج وتلقين سردية الماضي لا تجابهها قوة أي فاعل اجتماعي آخر. ومما لا خلاف كبير عليه أن الجيش، الذي يمثل سلطة مصر المركزية، سعى إلى تقييد الرأي العام ومحو ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير. ويعود السبب في ذلك إلى إدراك النظام لأن تلك الذكريات ستحدد تصوّر المصريين للمستقبل، رغم ارتباطها بالماضي. وعلى هذا النحو، قام الجيش باتباع نبوءة أورويل الواردة في رواية “١٩٨٤” ألا وهي: “من يتحكم بالماضي، يتحكم في المستقبل”.

وقامت الحكومة بإعادة طلاء الجداريات الثورية، حيث ردت ذلك إلى ضرورة إجراء الترميمات. كما وضعت الحكومة كاميرات المراقبة في المناطق المركزية، بالتزامن مع نقل المكاتب الحكومية بعيداً عن قلب القاهرة. ويرى الباحث جينيفي شينديهوت أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة “سيمحو مباني الحكومة من ذاكرة المقاومة”.

ويعد مقر الحزب الوطني الحاكم السابق أحد أبرز المعالم المحفورة في قاهرة الثورة. ويقع المبنى التاريخي على كورنيش النيل بالقرب من ميدان التحرير والمتحف المصري، علماً بأن هذا المبنى احترق أثناء الاحتجاجات في الثامن والعشرين من يناير ٢٠١١. وما يزال من أشعلوا الحريق مجهولين، إلا أن المبنى المحترق بات رمزاً لانتصار الثورة على النظام.

وفي إطار الجهود الرامية إلى دفع الشعب لنسيان هذا الانتصار الذي يذكرهم به المبنى، فقد قرر النظام هدمه. كما قام النظام بهدم أول نصب بناه الثوار لشهداء ٢٥ يناير في ميدان التحرير بعد تنحي مبارك مباشرة.

من جانبها، قامت جينيفر جوردان في كتابها عن عمارة برلين الشرقية باستكشاف القدرة على كبت الذكريات ومحوها بواسطة ما يتم إحداثه من تغييرات على مستوى التخطيط العمراني. ويرى السيد أن النظام أراد عبر تفكيك رموز الثورة بناء ذاكرةٍ جمعية تستبعد أي تفسيرات أخرى للأحداث. وهذا يذكرنا بهدم الحكومة البحرينية لدوار اللؤلؤة، وهو الدوار الذي انطلقت منه الاحتجاجات الكبيرة المناوئة لنظام البحرين في عام ٢٠١١.

كما استخدم الثوار الهدم لمقاومة تلاعب النظام بذاكرة الثورة. ففي نوفمبر من عام ٢٠١٣، خرّب المتظاهرون نصباً تذكارياً شيدته الحكومة من أجل “شهداء الثورة” بعدما افتتحه رئيس الوزراء المصري حازم الببلاوي بساعاتٍ قليلة. وكان الببلاوي قد أشار في خطاب الافتتاح إلى “ثوار” ٢٥ يناير و٣٠ يونيو بالإضافة إلى شهداء الشرطة والجيش. واعتبر المتظاهرون ذلك محاولةً لخلط المعاني، وتشويش صورة الثورة وتصورات المصريين عنها في اللاوعي الجمعي.

وتجدر الإشارة إلى أن الثوار كانوا قبل عدة سنواتٍ يتحمسون للمقاومة ورسم المزيد من الجداريات مع كل جدارية تمسحها السلطات. إلا أن تلك المقاومة خبت مؤخراً. فقمع المعارضة غير المسبوق والقوانين التعسفية التي زجّت بعشرات الآلاف من الثوار في المعتقلات دفعت كثيرين للتخلي عن الرأي العام. ويعود السبب في صمت البعض إلى الخوف أو خيبة الأمل. أما البعض الآخر فقد حاول تنحية ذاكرة الثورة جانباً حتى يتسنى لهم الاستمرار في حياتهم الخاصة.

فضاء الإنترنت المراقب في مصر

Egypt- Sisi
موالٍ للحكومة المصرية يحمل صورة للرئيس المصري في ميدان التحرير الشهير يوم ٢٥ يناير ٢٠١٦، بمناسبة مرور خمس سنوات على ثورة ٢٥ يناير. المصدر: AFP.

منذ الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر في عام ٢٠١٣، استمرت وسائل الإعلام الحكومية والخاصة – التي تعود ملكية أغلبها إلى بطانة النظام – في التغني بأمجاد دور الجيش في السنوات الأخيرة، بالإضافة للتشهير بالثورة والثوار باعتبارهم أدوات الغرب لتدمير مصر. وذكر تقريرٌ صادر عن منظمة “فريدوم هاوس” أن مصر “هي ثالث أسوأ بلد في العالم على مستوى اعتقال الصحفيين”. ويقوم النظام بمعاقبة أي وسيلة إعلامية تخرج عن سرديته. وعلى هذا النحو، لم يجد الثوار منفذاً بعد إغلاق المناطق العامة ووسائل الإعلام سوى المكان الذي بدؤوا منه وهو شبكة الإنترنت.

وفي إحدى المرات، قام أحد المستخدمين المجهولين بنشر التالي: “لطالما كان يكتب المنتصرون التاريخ. الآن صار يكتبه الجميع”. وهكذا سعى الشباب المصري إلى كتابة تاريخ ثورتهم ومقاومة نسيان النظام الإجباري وهيمنته على ذاكرة الشعب الجمعية. ويميل كثيرون لنسيان أن الثوار الشباب المهووسين بالتكنولوجيا استغلوا تخليد الذكرى لإثارة الاحتجاجات الديمقراطية. فصفحة “كلنا خالد سعيد” على موقع “فيسبوك”، والتي أُنشئت لتخليد ذكرى خالد سعيد الذي عذبته الشرطة وقتلته في عام ٢٠١٠ وهو ابن الثمانية وعشرين ربيعاً، أصبحت مركز تجمعٍ افتراضي لثوار ٢٥ يناير والمنسق الرئيسي لاحتجاجتهم.

وما تزال هناك العديد من المبادرات لمقاومة النسيان رغم المراقبة الشديدة والحجب الذي فرضته الحكومة على مئات المواقع الإلكترونية. وكان أخر هذه المبادرات مشروع “٨٥٨ أرشيف ثوري” التابع لتعاونية “مُصِرِّين”. وكما تقول التعاونية، يحتوي الأرشيف على صور ومقاطع فيديو ووثائق غير معدّلة “تنقل حكايات ووجهات نظر وتاريخ آلاف الأشخاص. وفي الوقت الذي يقوم فيه النظام باستخدام جميع الموارد وسعه لتضييق الخناق على الرأي العام والذاكرة الجمعية، فإن الوقت حان لاستخراج وإعادة طرح تاريخنا كي نتذكره”.

وتتضمن قائمة الأمثلة الأخرى على التوثيق والأرشفة الإلكترونية كلاً من “ويكي ثورة” وشعاره “حتى لا ننسى”، و”وثائق التحرير” التابع لجامعة كاليفورنيا، و”جامعة في الميدان” التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، بالإضافة لمشروع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “١٨ يوماً في مصر”.

خارج مصر

لقد غيّر الاضطهاد الذي يتعرض له مؤيدو الثورة من نظرتهم للمستقبل بصورةٍ جذرية. فالأمل الذي عاشوه منذ سنوات تركهم، وبقي الخوف وخيبة الأمل. واضطر الآلاف إلى الرحيل من البلاد بعد الانقلاب العسكري وهم يعيشون حالياً في المنفى خارج مصر. وما تزال مجموعة صغيرة من بين هؤلاء تشارك في سرد قصص الثورة، كما يقوم هؤلاء بمعارضة ما تقوم به حكومة السيسي من انتهاكات لحقوق الإنسان وتدمير للآمال الديمقراطية. وما يزال هؤلاء مستمرين في مواجهة سرديات النظام المهيمنة والتي تشوه الثورة باستخدام الفن والسخرية.

صحيحٌ أن النظام هو من يملك اليد العليا في الصراع على قصة الثورة وذاكرتها. إلا أن محاولات النظام لفرض النسيان على مبادئ الثورة ولحظات انتصارها لا تمر دون مقاومة. وعلى الرغم من معاناتهم الصعبة، ومحاولات أكثرهم للنسيان حتى يتسنى لهم العيش، فإن بعض مؤيدي الثورة ما زالوا يواجهون بروباغندا النظام وسردياته الكاذبة باستخدام الفنون والسخرية والأرشفة، في الخارج وعلى الإنترنت، ليعيدوا بذلك تقديم قصص ثورة ٢٥ يناير الديمقراطية وذكرياتها.

ويختم السيد مقالته بالتالي: “على الرغم من الفارق الهائل في القوة بين الأطراف المتعارضة، فإنه من الصعب تأكيد نجاح سيطرة النظام على الذاكرة الجمعية المصرية عن ثورة ٢٥ يناير. ويعود السبب في ذلك إلى أن الذاكرة الجمعية ليست كياناً جامداً، بل إنها كيانٌ سلس يشكّل الظروف الجارية وتطلعات المستقبل ويتشكل بها. وعلى الرغم من وجود ملايين الصامتين في مصر اليوم، إلا أن هؤلاء ما زالوا قادرين على التذكر”.