وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟

يستطيع غير الأوروبي التفكير
صورة تم التقاطها يوم ١٠ مايو لامرأة وهي تنظر لعمل فني منحوت لمجموعة من كتب المفكرين والفلاسفة الألمان قبالة جامعة هامبولت في برلين. المصدر: JOHN MACDOUGALL/ AFP.

يوسف شرقاوي

أوروبا الذات العارفة وباقي العالم موضوعٌ للمعرفة

يتخطّى سؤال “هل يستطيع غير الأوروبي التفكير” المستوى المباشر إلى مستوى آخر فلسفي متعالٍ واستفزازي في آن. إنه محاولة من محاولاتٍ كثيرة لاستنبات معرفة مضادة ومُقاوِمة للنظام الكولونيالي للمعرفة، ونصوصه المتواطئة مع أساليب الهيمنة.

فوّض بعض الأوروبيين أنفسهم بالإنابة عن العالم كلّه، على اعتبار أنّ الأعراق الأخرى غير قادرة على التفكير من تلقاء نفسها. وكان ذلك نتيجةً للتمركز حول الذات والنزعة المركزية الأوروبية حتى صار الأوروبي هو “الجوهر”، وكل مَن/ما سواه: آخر.

تنطلق مقالة وكتاب المفكر من أصل إيراني حميد دباشي، المُعنون “هل يستطيع غير الأوروبي التفكير”، من قراءته لإطراء جميل عن الفيلسوف الأوروبي الشهير سلافوي جيجك، يقول فيه: “هناك العديد من الفلاسفة الهامّين والفعالين اليوم: جوديث بتلر في الولايات المتحدة (وهي نتاج لسلالة الفلسفة الأوروبية)، سيمون كريتشلي في إنكلترا، فيكتوريا كامبس في إسبانيا، جان لوك نانسي في فرنسا، جياني فاتيمو في إيطاليا، بيتر سلوتردايك في ألمانيا، وفي سلوفينيا سلافوي جيجك، ناهيك عن غيرهم من الفلاسفة الذي يعملون في البرازيل وأستراليا والصين”.

إنّ الطابع الأوروبي واضح، والنزعة نحو الأشياء التي يدعوها الكاتب “فلسفة اليوم” واضحة. فجيجك يؤسس زعمه على كلٍّ من الذات والزمن الغربيين، واللذين يُعدّان ملكية حصرية لأوروبا. تمّ ذكر كلّ من الصين والبرازيل دون شك كمواقع لفلاسفة آخرين، يستحقون الذكر، “ولكن من الواضح أن لا أحد منهم يتميز باسمٍ معيّن يجعله يستحق الذكر بجانب هؤلاء الفلاسفة الأوروبيين”.

ماذا عن المفكّرين الآخرين إذن؟ أولئك الذين يعملون خارج هذه السلاسة الفلسفية الأوروبية، سواء كانوا يمارسون تفكيرهم باللغات الأوروبية التي ورثوها من مستعمريهم أو بلغاتهم الأم الخاصة – إن كان ذلك في آسيا أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية. هؤلاء المفكرون الذين اكتسبوا كرامة الاسم لاحقاً وربما لقب “المثقف العمومي” لا يختلفون عن حنة أرندت وجان بول سارتر وميشيل فوكو، الذين تم تقديمهم في مقالة جيجك على أنهم أسلافه. فهل هم مفكرون جنوب آسيويين، إفريقيون، أم مفكرون بالطريقة نفسها كما هؤلاء المفكرين الأوروبيين؟

تتّضح النظرة الإثنولوجية نفسها للنزعات الفكرية في العالم العربي والإسلامي: فهناك عزمي بشارة من فلسطين، وصادق جلال العظم وميشيل كيلو من سوريا، بالإضافة إلى قائمة لا تنتهي من المفكرين البارزين.

بعد أن نشر دباشي مقالته ردّ عليه البروفيسور الباحث في الفلسفة في جامعة برشلونة سانتياغو زابالا عبر مقال مضاد، حيث بدا وكأنه تلقى إهانة كبيرة بسبب مقالة دباشي، وظنّ أنّ الأخير يتّهمه هو وبقية الفلاسفة الأوروبيين بالنزعة المركزية الأوروبية.

ما لبث أن انضم زميل زابالا في الجامعة السيد مايكل ماردر إلى أخيه، وكتب مقالة أخرى ضد دباشي. إنّ هؤلاء الفلاسفة الأوروبيين صغار السن كانوا واعين للغاية بكونهم “فلاسفة أوروبيين”، لدرجة شعورهم بمسؤولية التجمهر للدفاع عن أنفسهم ضد الفتى الملوّن الذي تجرّأ على التعدي على منطقتهم.

وجد دباشي الأمر مسلياً، حيث لم يكن يخاطب أي فيلسوف أوروبي في مقالته، حتى عنوانها كان “على سبيل الدعابة”، ولكنهم يظنون حقاً أنّ أي شيء يحدث في جميع أنحاء هذا العالم متعلق بهم حصراً.

لماذا يتعيّن على الأوروبيين ألا يكونوا قادرين على القراءة، حتى عندما نكتب باللغة التي يفهمونها؟ إنهم لا يستطيعون القراءة لأنهم “كأوروبيين” وقعوا في فخ المجاز المستنزف الذي يتوق إلى ماضيه؛ يجيب دباشي. يُحيلون ما يطّلعون عليه – مجدداً – إلى ذلك الفخ، وإلى ما يعرفونه بالفعل. وبالتالي، فهم غير قادرين على رؤية أنه شيء لا يعرفونه. إنهم يحاولون إحالة العالم إلى ما يعرفونه.

إنها النزعة المركزية الأوروبية، أهم دافع يمنع الأوروبيين من قراءة ما يُكتب خارج أسوارهم. منذ كتابات إيمانويل كانط التي اعتبرت أوروبا ذاتاً عارفة، بينما بقية العالم تشكّل موضوعات للمعرفة، ثم تعمقت هذه النزعة مع كتابات هيغل عن شمس الغرب كنهاية للفكر الكوني. ذلك ما ترتّب عنه نوعٌ من الإحساس بالتفوق وامتلاك عالم الأفكار، من ثمّ فهم ليسوا بحاجة لقراءة ما ننتجه نحن “الأغيار”، باعتبارنا جزءاً من المعرفة، لا يمكننا التفكير من تلقاء أنفسنا وكلّ شيء صادر عنا يبقى مجرد رقص، كما يقول الفيلسوف الأوروبي إيمانويل ليفيناس.

إنّ الفلاسفة الأوروبيين مثل زابالا وماردر يزعمون امتلاكهم سلطة أسلافهم، كما لو كان أيّ شيء، يقوله أي شخص، في أي مكان، لا بد أن يدور عنهم وحسب! إنهم يعتقدون أنّ فلسفتهم الخاصة هي “الفلسفة” وتفكيرهم الخاص هو “التفكير”، بينما كلّ شيء آخر، “مجرّد رقص”.

ومسألة النزعة الأوروبية اليوم – يقول دباشي – مسألة منتهية تماماً. الأوروبيون يتمتعون بالطبع بالنزعة الأوروبية ورؤية العالم من وجهة نظرهم العتيقة، ولماذا لا يكونون هكذا؟ إنهم ورثة الإمبراطوريات المتعددة (المنحلّة اليوم)، وما زالوا يحملون بدواخلهم الغطرسة الوهمية لتلك الإمبراطوريات. الغطرسة الإمبريالية التي مكّنت تلك النزعة الأوروبية من إنتاج مروّجين ودعائيين مثل جيجك، تمثّل الذكريات الوهمية لذلك الوقت الذي أكّد فيه “الغرب” ثقته وشعوره الكوني وشموليته.

لكنّ هذه الشمولية لم تعد موجودة أبداً. الناس من كل المناخات والقارات يتحركون – بحرّية – تجاه ادّعاء عالميتهم الدنيوية الخاصة، ومعها القدرة الفطرية على التفكير خارج زنازين النزعة الأوروبية، والتي ما تزال تحقق لهم المتعة الوهمية في التفكير في أنفسهم على أنهم مركز الكون.

 

المصادر:

  • دباشي، حميد. هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟، مطبعة زيد بوكس، لندن، ٢٠١٥. (باللغة الإنكليزية)
  • غاشي، محمد. هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟، مجلة الدوحة، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، ٢٠١٨.

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.