وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أطفال ينتحرون في تونس.. القتامة نحو أقصاها

الرفاه الاجتماعي مفتاح حل إصلاح منظومة الطفولة

 أطفال تونس
صورة تم التقاطها يوم ١٧ ديسمبر ٢٠٢٠ لأطفال وهم ينشدون هتافات من أعلى تمثال لعربة محمد بوعزيزي في الساحة التي تمت تسميتها فيما بعد باسمه في قلب بلدة سيدي بوزيد وسط تونس. المصدر: FETHI BELAID / AFP.

حكيم مرزوقي

جهاتٌ إعلامية وحقوقية وجمعيات مدنية في تونس، بدأت تقرع ناقوس الخطر حول واقع الطفولة وما تعانيه هذه الفئة العمرية الهشة من اضطرابات سلوكية وصلت حدّ الحالات الكارثية مثل تنامي ظاهرة الانتحار عند الأطفال، مما يستدعي إعلان نوع من ” الطوارئ الاجتماعي” وإنشاء “خلية أزمة” بقصد حماية ما يقارب ثلث السكان، ولكن من يحمي ويصلح واقع بقية الشرائح التي تقوم بعمليات التربية والتأهيل والتدريس، وذلك ضمن واقع مأزوم على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟

منذ يومين، وأثناء حوار إذاعي مطوّل، قال الباحث والخبير التونسي في مجال الطفولة والأسرة، إبراهيم ريحاني، إن إصلاح منظومة الطفولة في تونس التي تعيش واقعا تنذر جميع مؤشراته بالخطورة، ينطلق بالاستثمار في تنمية الطفل عبر عدّة آليات وتحقيق مفهوم الرفاه الاجتماعي الذي يساهم بدوره، في الارتقاء بالناشئة وحمايتها من براثن الوهن والاستغلال ويبني جيلا يقدّر ذاته.

وفسّر الباحث مفهوم الرفاه الاجتماعي، بالعمل على ترسيخ دور الأسرة والمدرسة في التنشئة السليمة، من خلال تقليل ساعات العمل حتى يتسنى للوالدين الاهتمام بأبنائهم بعيدا عن الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية ولتكون بذلك العائلة أولى آليات إصلاح منظومة الطفولة.

وأضاف الباحث التونسي إنه “يجب كذلك التقليص في الزمن المدرسي وترسيخ مفهوم المدرسة الصديقة عن طريق التخفيض من ساعات التعلم وإحداث نوادي وورشات فاعلة صلب المؤسسات التربوية لتساهم في صقل المهارات الحياتية للناشئة خاصة في السنوات الأولى من العمر”.

وعلى صعيد الأسرة التي تمثل الحاضنة الأولى للطفل قبل أن تكون الشريك التربوي مع المدرسة، فإنها أمام قسوة الواقع المتغير والضغوطات النفسية والاقتصادية التي تحاصرها، تجد نفسها غير قادرة على الإلمام بدورها التربوي، ولا تمتلك المهارات التي تساعدها في التنشئة فتلجأ إلى العنف مما يولد لدى الطفل تقدير سلبي لذاته، يغذيه غياب الترفيه وضغط المنظومة التربوية فيتوجه بذلك إما الى السلوكيات المحفوفة بالمخاطر أو إلى الانتحار الذي تنامى في السنوات الأخيرة، وأصبح بإمكاننا الحديث عن ظاهرة حقيقية وليس الأمر مجرد تهويل إعلامي، كما يقول بعض المسؤولين في محولتهم التخفيف من حجم الكارثة.

وأبرز الباحث إبراهيم ريحاني، في حواره الإذاعي الذي جاء ضمن حملة توعية تقوم بها السلطات التونسية، انتشار نسبة الجريمة في صفوف الأطفال، مشيرا إلى ان الإحصائيات المنشورة ضمن التقرير الوطني حول وضع الطفولة في تونس سنة 2018 كشفت أن 7925 طفلا محكوم عليه في قوانين الأحداث، فضلا عن تنامي الاستغلال الاقتصادي للأطفال وتعرضهم للانتهاكات الجنسية، إذ بلغ عدد الإشعارات الواردة على مديري مراكز حماية الطفولة أكثر من 17500 اشعارا في سنة 2019

واعتبر الخبير التونسي أن التنشئة الاجتماعية للطفل لا تقتصر على دور الأسرة والمدرسة إنما هي تفاعل بين عديد المؤسسات التي تؤثر في رسم ملامح شخصيته، على غرار الشارع والمجتمع والوسائط الالكترونية، الأمر الذي يتطلب رسم استراتيجية تشاركية بين جميع المتدخلين، وفق رؤيته.

ولاحظ غياب سياسة عمومية مندمجة لحماية الطفولة بصفة تشاركية، داعيا الى تفعيل المجلس الأعلى للطفولة الذي صدر القانون المنظم له بشكل رسمي، منذ سنة 2012 والى حوكمة القطاع من خلال حسن التصرف في الموارد البشرية والمالية في المنظومة التربوية.

ورغم الجهود المبذولة على المستوى التشريعي، وتسجيل بعض التحسن في التعليم الخاص، مقارنة بالبلدان المجاورة، إلا أن أزمة منظومة الطفولة في تونس لا تنحصر في المؤسسات التعليمية كوادرها المشرفة والعاملة بل ببنية مجتمعية شاملة تتعلق بالأسرة والشارع، وتمتد لتشمل ذلك التوتر العام الذي يسود البلاد في العشر سنوات الأخيرة، حيث غاب الحزم والصرامة في تطبيق القوانين والتزام الانضباط، مما تسبب في حالة من التسيب والاستهتار بسلطة الدولة التي تراجعت هيبتها نتيجة عجزها على الوفاء بمستحقاتها والتزاماتها.

وهنا يؤكد الخبراء النفسانيون والمتخصصون التربويون، تأثر الطفل بمنطق وسلوكيات كل من حوله من آباء ومربين من حيث علاقة هؤلاء بسلطة الدولة، ذلك أن الطفل الذي يشاهد كل يوم جملة التظاهرات والاحتجاجات ضد الحكومة، بالإضافة إلى الملاسنات وتبادل الشتائم والاتهامات بين المسؤولين على شاشات التلفزيون، يولّد لديه هذا المشهد المتصف بالفوضى والانخرام، نوعا من فقدان النموذج والمثال الذي يمكن الاحتذاء به فينزع نحو الاستهتار واللامبالاة، وتصبح الدراسة لديه شيئا عديم الجدوى.

وتبين ـ مما لا يقبل الشك ـ أن الطفل الذي يعاني أبوه من الفقر أو البطالة، ويرى شقيقه الأكبر وابن جيرانه “ينجحان” في تأمين حياتهما من خلال الهجرة السرية إلى أوروبا، تولد لديه رغبة في ترك الدراسة نحو ما يراه “أنفع” وأكثر جلبا للحياة السعيدة.

التساؤل هنا: ما هو مصير قرابة 100 ألف منقطع عن التعليم سنويا في ظل غياب تأطيرهم من الدولة ومنظمات المجتمع المدني؟ وكيف السبيل إلى التصدي لمأساة الأطفال المنقطعين عن التعليم ومصيرهم التراجيدي في بلد كان يفخر أنه استثمر في التعليم منذ تأسيس دولة الاستقلال في منتصف خمسينات القرن الماضي؟

إنها أزمة انهيار قيم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، إذ لا يمكن إنقاذ فئة هشة مثل الطفولة من واقع مرير تعاني منه بقية الفئات العمرية التي هي أكثر سنا ووعيا بما يجري حولها.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.