وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

السؤال عن مانديلا أو غاندي فلسطيني

مانديلا أو غاندي فلسطيني
صورة تم التقاطها يوم ٨ أكتوبر لمتظاهر فلسطيني وهو يشاهد تساقط القنابل المسيلة للدموع أثناء الاشتباكات التي دارت بين قوات الأمن الإسرائيلية ومظاهرة خرجت للتنديد بالمستوطنات في قرية بيتا في الضفة الغربية المحتلة. المصدر: JAAFAR ASHTIYEH / AFP.

ماجد كيالي

بين فترة وأخرى يتصدر الدعاية السياسية الإسرائيلية سؤالٌ من نوع: “أين مانديلا أو غاندي الفلسطيني؟” وهو سؤال مراوغ لسببين، أولهما، أنه يبطن فكرة مفادها أن أيّاً من الزعيمين الكبيرين كان يعشق مضطهده لدرجة أنه كان مستعدا لمسامحته والتصالح معه دون قيد أو شرط، وهو أمر غير صحيح البتة، إذ الاثنان كانا يتوخيان المصالحة والحقيقة والعدالة، وهو ما حصل في الهند وجنوب افريقيا، بانتهاء الاستعمار البريطاني في الأولى، وفي انهاء نظام التمييز العنصري في الثانية.

على أية حال ثمة إغراء في المقاربة بين التجربتين الجنوب إفريقية والتجربة الوطنية الفلسطينية، سيما أن الطرفين واجها استعمارا استيطانيا، مع الفارق أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي اتسم بالطبيعة الإجلائية (لأهل الأرض الأصليين) والإحلالية لليهود المهاجرين ـ المستوطنين، كما اتسم بالطابع الأيديولوجي ـ الديني. كما تنبع أهمية النقاش هنا في المفاضلة بين شكلي الكفاح المسلح، والشعبي، سواء على الطريقة الهندية (تجربة غاندي) أو الجنوب أفريقية (تجربة مانديلا).

في هذا الصدد يبدو الكفاح السلمي في الصراع ضد استعمار استيطاني إجلائي عنصري، كما يتمثل في إسرائيل، غير مقنع، وغير منتج، البتة، إذ لا يمكن لدولة هكذا طبيعتها وقامت بوسائل القوة، أن تقتنع بالحقوق المشروعة للفلسطينيين بوسائل الحوار، وبالكفاح السلمي، حتى لو تعلق الأمر فقط بالحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة.

وفي الحقيقة فإن “السلمية” هنا تبدو مجرد اعتقاد أيديولوجي آخر، لا علاقة له بمعرفة إسرائيل، ولا بالعقلانية ولا بالواقع. أولاً، لأن إسرائيل لم تقم بالوسائل السلمية والديموقراطية أصلاً. ثانيا، لأننا لسنا إزاء دولة عادية نشأت بفضل تطور المجتمع اليهودي في فلسطين، وإنما إزاء دولة استعمارية أنشأتها حركة سياسية ظهرت في أوروبا، وجلبت مجتمعها بوسائل الاستيطان، وفرضت نفسها في البلاد بواسطة السلطة الاستعمارية (بريطانيا)، وبوسائل القوة العسكرية. ثالثاً، لأننا إزاء دولة استيطانية، ذات طابع اقتلاعي (للسكان الأصليين) وإحلالي (لليهود المهاجرين)، أي أنها تختلف حتى عن النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري (الأبارتهايد)، الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا، والذي لم يطرد السكان الأصليين، ولا حاول مصادرة تاريخهم وحرمانهم هويتهم. ولعل هذا يفسّر أن إسرائيل ترى علاقتها الصراعية مع الفلسطينيين ذات طابع صفري، أي من طبيعة الصراع الوجودي، الذي يتضمن عمليات الإزاحة والنفي والمحو من الزمان والمكان، في المعنى والمبنى، أي أنها ليست علاقة إخضاع وتهميش واستغلال فقط. رابعا، لأن إسرائيل هي دولة ذات طابع أيديولوجي – ديني، ودول كهذه حتى لو كانت تشتغل وفق القواعد الديموقراطية، فإنها تشتغل، أيضاً، وفق قواعد النظم الشمولية، التي تتأسس على الهيمنة على المجتمع، وتنميطه وفق مفهوم ثقافي وهوياتي أحادي وتعسفي. ولا شك في أن هذه القواعد تشتغل بنجاعة في المجتمع الإسرائيلي، بحكم أنه مجتمع مهاجرين – مستوطنين، تجمعهم الفكرة الصهيونية، القومية والدينية. فهؤلاء من جهتهم في حاجة الى خدمات الدولة وامتيازاتها. وفي المقابل فإن أجهزة الدولة (الجيش ووسائل الإعلام ومؤسسات التعليم والقطاع العام والضمان الاجتماعي…) تضطلع بدور ماكينة الصهر، التي تشتغل على خلق مجتمع مؤدلج، يعي ذاته، والآخرين، وفق المحددات التي رسمتها.

هذا هو الوضع الذي يقف إزاءه الفلسطينيون منذ أكثر من سبعة عقود، في واقع دولي وإقليمي وعربي بدا مؤاتياً لقيام إسرائيل، ولتطورها، وتفوقها، في حين انه كان عاملاً كابحاً لكفاحهم، وحتى لكينونتهم كشعب.

ولعل معنى كهذا يمكن استنتاجه من حنة أرندت، أيضاً، في قولها: «لو أن استراتيجية غاندي الناجحة والقومية، التي قامت على مبدأ المقاومة اللاعنفية، وجدت نفسها، مضطرة لمجابهة عدو آخر – روسيا ستالين، مثلاً، أو ألمانيا الهتلرية، أو يابان ما قبل الحرب، بدلاً من إنكلترا – فمن المؤكد أن النتيجة ما كان أبداً من شأنها أن تكون رحيل الاستعمار عن الهند، بل مجزرة وخضوع عامان».

في المقابل، ثمة أيضا سذاجة وافتقاد للواقعية والعقلانية، في الاعتقاد بأن الكفاح المسلح فقط، على نحو ما جرّبه الفلسطينيون، طوال العقود الماضية، يمكن أن يحرر فلسطين، أو يستعيد حقوق شعبها. هذا ينطبق، أيضاً، على الاعتقاد بأن الفلسطينيين وحدهم، بكفاحهم المسلح وبغيره، يمكن أن يهزموا إسرائيل، أو أن يحرروا الضفة الغربية، مثلاً.

ربما يجدر لفت الانتباه الى إننا نتحدث اليوم عن تجربة بات عمرها قرابة ستة عقود، وفي غضون تلك الفترة، مع أثمانها الباهظة، ليس فقط لم تتغيّر معادلات الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنما تعرض مجتمعهم، ووجودهم، في الداخل والخارج للانكسار، والتهشيم، في حين تواصل إسرائيل تطورها وتفوقها في هذه المنطقة.

ما ينبغي إدراكه هنا أن إسرائيل تمتلك، في المربع العسكري، تفوقاً هائلاً، من حيث قوتها العسكرية، ونمط تسليحها، ومستوى إدارتها، وإضافة إلى ذلك فهي تمتلك قوة مضافة تتمثل بضمان الدول الكبرى، سيما الولايات المتحدة، لأمنها ولتفوقها. وفوق قوتها العسكرية ودعم الدول الكبرى، تمتلك إسرائيل القوة النووية أو ما تسميه سلاح «يوم القيامة».

ما الحل إذا؟ القصد من ذلك النقاش، أولا، أن الكفاح المسلح وحده، أي من دون أشكال المقاومة الشعبية، والعمل السياسي، لا معنى له كغاية في ذاته، إذ في هذه الحال لا يمكن تثميره، لا داخلياً في بناء المجتمع الفلسطيني، ولا خارجياً في إثارة التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، أو في جلب التعاطف الدولي. ثانياً، إن الكفاح الفلسطيني وحــــده، أي المسلح والشعبي والسياسي، يحتــــاج كي يثمر، أو حتى يحدث انكساراً في إسرائيل، إلــــى متغيرات عدة، يأتي في مقدمها: تغيّرات في المعادلات الدولية، وتغيّرات في البيئة العربية المحيطة، وتغيّرات ثقافيّة وسياسيّة في إسرائيل ذاتها، أو أقلّه، يحتاج إلى واحد من هذه التغيرات. وثالثاً، إن الفكرة الأساسية هنا تتعلق بضرورة إدراك الفلسطينيين أهمية ترشيد أشكال كفاحهم، وضمنه الاقتصاد في تصريف طاقتهم، والمـــوازنة في نشاطاتهم، بين حاجتهم لبناء كياناتهم ومؤسساتهم السياسية والمجتمعية، وبين كفاحهم ضد عدوهم، وأيضاً بين أشكال كفاحهم، ومستوياتها، وبين الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، حتى لا تتبدّد تضحياتهم، وكي يستطيعوا المراكمة على منجزاتهم.

على ذلك فأية مقاربة مع تجربة أخرى، هندية أو جنوب إفريقية أو جزائرية أو فيتنامية يفترض أن تأخذ الظروف الخاصة بالكفاح الفلسطيني، والمعطيات العربية والدولية.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.