وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

كيف غيّرت العولمة من معالم سوق الحج إلى مكّة

Translation- Kaaba
مصلّون مسلمون يؤدون الصلاة حول الكعبة المشرّفة في المسجد الحرام بمدينة مكّة المكرّمة السعودية يوم 15 أغسطس 2018، وذلك قبيل بداية موسم الحج السنوي في المدينة المقدّسة. المصدر: AFP.

نشر موقع “The Conversation” مقالة سلّطت الضوء على ما أحدثته العولمة من تحوّلات كبيرة في موسم الحج. ويقوم صاحب المقالة شون ماكلافلين، الأستاذ المتخصص في أنثروبولوجيا الإسلام بجامعة ليدز البريطانية، باستعراض نمو صناعة الحج والعمرة على المستوى الدولي بصفةٍ عامة وعلى مستوى المملكة المتحدة بصفةٍ خاصة.

ويبدأ ماكلافلين مقالته بالإشارة إلى تواجد ما يزيد عن مليوني مسلم في مكّة المكرّمة استعداداً لقضاء مناسك الحج في هذا العام، علماً بأن موسم الحج بدأ في يوم 19 أغسطس الماضي. ويعتبر الحج فرضاً إيمانياً يتوجب على المسلمين قضائه ولو لمرّة واحدة في حياتهم لوجه لله تعالى طالما كانوا يتمتعون بالقدرة المالية والجسدية على القيام بذلك. ويشير صاحب المقالة إلى إيمان المسلمين بتطهير “الحج المقبول” لهم من كلّ ما يتم اقترافه من ذنوبٍ وخطايا، لافتاً إلى أن مناسك الحج تحاكي ما واجهه النبي إبراهيم (مؤسس التوحيد في الكتاب المقدّس) وعائلته من ابتلاء. ويأمل المسلمون بعد قضائهم للحج بالعودة طاهرين مطهرين إلى ديارهم كيوم يولدتهم فيه أمهم.

وكانت آمال المسلمين المقيمين خارج حدود العالم العربي بإتمام الركن الخامس والأخير من أركان الإسلام صغيرة حتى تم مد أنظمة النقل الحديثة. وقلّما تجاوز عدد الحجاج القادمين من خارج الأراضي السعودية حاجز 100 ألف شخص قبل خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت المؤسسات السعودية ما تزال في طور النمو في تلك الحقبة. وفي بدايات العقد الأوّل من الألفية الجديدة، تجاوز عدد الحجّاج الإجمالي حاجز مليوني شخص، ليصل العدد إلى ذروةٍ جديدة في عام 2012 مع تخطّي عدّد الحجّاج حاجز 3 ملايين شخص.

وألقت فرص الحج الجديدة في عصر النقل الجوي بضغوطٍ هائلة على كاهل البنية التحتية في مكّة. وعلى هذا النحو، فقد خسر مئات الأشخاص أوراحهم بسبب ما يشهده موسم الحج من كوارث دورية، بما في ذلك اندلاع الحرائق وحالات التدافع، علماً بأن أحدث كارثة شهدها الحج من هذا النوع كانت في عام 2015. ويشير ماكلافلين إلى استثمار السلطات السعودية لمبالغ ضخمة في إطار ما تقوم به من مساعٍ لتحسين المنشآت والإدارة الشاملة للحج. وبحسب ما يشير إليه صاحب المقالة، فإن من قابلهم من القائمين على تنظيم الحج وإرشاد الحجّاج يقارنون الحج باستضافة الألعاب الأولمبية كل عام.

وتؤكد رؤية المملكة لعام 2030، التي أطلقها في عام 2016 ولي العهد السابق والعاهل السعودي الحالي سلمان بن عبد العزيز آل سعود، على لعب سوق السياحة الإسلامية لدورٍ هام في تنويع الاقتصاد السعودي غير النفطي. وفي الوقت الذي ركّزت فيه هذه الاستراتيجية بصفةٍ أساسية على العمرة (وهي الزيارة غير الملزمة لبيت الله الحرام والتي يمكن القيام بها على مدار العام)، فإن ذلك لم يمنع من استثمار 50 مليار دولار أمريكي في أنظمة النقل والبنية التحتية الأخرى بهدف مضاعفة حجم الحج بنهاية العقد المقبل.

العرض والطلب

تشير متابعة رحلة المسلمين البريطانيين لقضاء مناسك الحج إلى الدور المتنامي الذي باتت يلعبه سوق السياحة الدينية في صياغة منظومة الحج. وفي إحدى الفعاليات المختصة التي حضرها صاحب المقالة في وقتٍ سابق من العام الجاري، لفت مجلس الحجاج البريطاني إلى أن قطاع الحج البارز في الاقتصاد البريطاني تصل قيمته إلى حوالي 150 مليون جنيه إسترليني، علماً بأن قيمة هذا القطاع تصل إلى 310 مليون جنيه إسترليني إذا ما تمت إضافة نشاطات العمرة إليه.

وبصورةٍ مغايرة لجميع الدول ذات الأغلبية الإسلامية، فإن حصة الأقليات المسلمة المقيمة في الدول الغربية لا يمكن حصرها بحصة مماثلة لمعدل عدد الحجاج بالنسبة للمسلمين والتي تصل إلى ألف حاج لكل مليون نسمة. ويتمتع المسلمون المقيمون في الدول الغربية بحرية اختيار الوقت الذي يتناسب معهم لأداء مناسك الحج والعمرة بفضل غناهم النسبي وثقافتهم وتأثيرهم المتنامي من الناحية الاجتماعية. وغالباً ما يكون الحجاج المقيمون في الدول الغربية أصغر سنّاً من نظرائهم المقيمين في العالم الإسلامي. وكان عدد المسلمين البريطانيين الذين يقومون بتأدية فريضة الحج سنوياً قد ارتفع من 759 أشخاص في عام 1968 إلى حوالي 25 ألف حاج في منتصف العقد الأول من القرن الحالي – أي ما يشكّل حوالي ضعف معدّل نمو السكان المسلمين في المملكة المتحدة خلال نفس الفترة. وبحسب ماكلافلين، فإن حوالي 100 ألف بريطاني يقومون في الوقت الراهن بأداء مناسك العمرة سنوياً.

ولا تلعب الحكومات العلمانية في الغرب أيّ دور مباشر في تنظيم الحج. كما لم تتواجد سوى حفنة بسيطة من الشركات التي تقوم رسمياً بترتيب أمور الحجّاج المسلمين في بريطانيا حتى تسعينيات القرن الماضي. ولهذا السبب، فقد اعتاد معظم مسلمي المملكة المتحدة على السفر كأفراد أو ضمن مجموعاتٍ صغيرة إلى المملكة العربية السعودية. إلا أن السلطات السعودية أصرّت في بدايات العقد الأول من الألفية الجديدة على وجوب قيام أي شخص يعمل على تنظيم شؤون الحج بإنشاء شركة مسجّلة يجري ترخيصها بالطريقة الصحيحة، وجاء ذلك في إطار المحاولات التي تسعى من خلالها الرياض لتحسين ما يتم تقديمه من خدمات إلى الحجاج. كما حصرت السلطات السعودية، في منتصف العقد الأوّل من القرن الحالي، إمكانية حج المسلمين المقيمين في الدول الغربية بشراء “حزمة” من إحدى الشركات المنظمة للحج.

ارتفاع الأسعار

Translation- Jamarat bridge
قوات الأمن والمسعفون يجتمعون يوم 12 يناير 2006 حول الجثث في أعقاب التدافع على المدخل الشرقي لجسر “الجمرات”، وهو المكان الذي يرجم فيه المسلمون ثلاثة أعمدة ترمز إلى الشيطان في وادي منى شرق مكّة المكرّمة. وبحسب ما ذكره المسؤولون السعوديون حينها، فقد لقي 345 شخصاً على الأقل مصرعهم إثر تعثّرهم على أمتعتهم أثناء التنازع لرمي الحجارة على رموز الشيطان في موسم الحج السنوي. المصدر: AFP.

تحظى في الوقت الراهن قرابة 117 من الشركات البريطانية المنظّمة للحج بترخيصٍ من المملكة العربية السعودية. ويقع على عاتق كلّ شركة من هذه الشركات المنظّمة مسؤولية الحصة السنوية الخاصة بها والتي تتراوح بين 150 و450 تأشيرة يجري تقديمها للحجّاج. ويحظى المسلمون البريطانيون حالياً بخياراتٍ متعددة على مستوى خيارات الحزم. إلا أن الحجاج البريطانيون الذين أرادوا أداء فريضة الحج في عام 2018 صرفوا ما يتراوح بين 5 و6 آلاف جنيه إسترليني على الحزمة الخاصة بهم. وبحسب ما حصل عليه صاحب المقالة من معلومات على هامش إحدى الفعاليات التي نظمها هذا القطاع في الربيع الماضي، فقد قامت إحدى الشركات الكبرى ببيع نصف حزمها في غضون ستة أسابيع مقابل 9500 جنيه إسترليني للشخص الواحد. وزادت تكلفة الحاج “الاقتصادي” في العام الجاري عن 4 آلاف جنيه إسترليني. وتجدر الإشارة إلى أن تكلفة الحج زادت بصفةٍ عامة بما يصل إلى 25% خلال السنوات الأخيرة.

وتشكو جمعيات الحجاج الخيرية التي تم تأسيسها منذ وقتٍ طويل كجمعية الحجاج البريطانيين (التي تأسست في عام 1998) من استغلال شركات تنظيم الحج البريطانية، وهي تستدل على ذلك بارتفاع أسعار الحزم. وتشير الصورة الأكبر إلى ما تشهده صناعة الحج معادة الهيكلة في السعودية من تخصيص وتسويق متزايد الطابع. ويؤدي وصول ما يتراوح بين مليوني وثلاثة ملايين مسلم إلى مكّة، في أحد أهم أسابيع التقويم الهجري، إلى خلق طلب ضخم على النقل والبنية التحتية والخدمات الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة السعودية لا تتحكم بأسعار رحلات الطيران والإيجارات وما إلى ذلك من خدمات. ويجري العمل حالياً على تخفيض بعض الإعانات المالية المحلية المحدّدة، بالتزامن مع تنامي قيمة الضريبة المضافة والضرائب البلدية مؤخراً.

ويرى صاحب المقالة أن أعضاء جمعية منظمي الحج المرخصين البريطانيين، التي تأسست مؤخراً في عام 2016 كجمعية تجارية وطنية، يعملون في بيئة أعمالٍ محفوفة بالمخاطر. وجرت العادة في قطاع السياحة على سداد المبالغ المستحقة بشكلٍ متأخر، إلا أن شركات تنظيم الحج البريطانية غالباً ما تقوم بتسديد دفعات نقدية مقدّمة كبيرة حتى قبل بيع الحزم. وتستطيع شركات تنظيم الحج في الدول الغربية سداد قسطٍ من المال مقابل بعض الخدمات، ما يعود السبب فيه إلى افتقارها لما تتمتع به الحكومات الكبيرة في الدول المسلمة من قدرةٍ تفاوضية. كما أن الأسعار تتأثر بحالة انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي التي تتضمن الحروب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط والتأثير السلبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الجنيه الإسترليني.

التنظيم والمستقبل

يشير ماكلافلين إلى أن القيادة الجديدة لجمعية منظمي الحج المرخصين على دراية كبيرة بما تواجهه صناعة الحج والعمرة من قضايا معقدة. وتستطيع حفنةٌ بسيطة من شركات تنظيم الحج بيع كامل حصصها دون الحفاظ على علاقات مع شبكات الوكلاء الفرعيين. وبحسب عمليات التفتيش المفاجئة التي قامت بها مؤسسة معايير التجارة البريطانية للكشف عن “احتيالات الحج”، فإن سلاسل البيع الطويلة ونقص عمليات التوثيق قد تشجع على “البيع المفرط” وحتى على عمليات التحايل الإجرامية.

وتكشف مدونة السلوك الجديدة التي اعتمدتها جمعية منظمي الحج المرخصين قبل موسم الحج من هذا العام عن وجود رغبة جديدة وواضحة في هذا القطاع إلى محاسبة المنظمين الزملاء على مستوى عمليات التحايل. وفي الوقت نفسه، تشير شركات تنظيم الحج إلى عدم قدرة لوائح حزم السفر الأوروبية المرتبطة بتنظيم “العطلات الجماعية” على حل ما يواجهه الحج من تعقيداتٍ لوجستية وتجارية.

وما تزال التحولات الحاصلة في تنظيم سفريات الحج على مستوى بريطانيا تمثل دراسة حالة محلية لما تواجهه صناعة الحج والعمرة من تحدياتٍ على المستوى العالمي. ولطالما اجتمعت عوامل التقوى والتجارة في مكة. إلا أن تطوير نموذج رأسمالي استهلاكي للسياحة الدينية على النطاق الذي ترجوه السعودية لم يسبق تواجد نموذج مماثل له. وتعمل حالياً السلاسل الضخمة من عمليات البيع والشراء وكذلك الإيمان على ربط المسلمين بمهد الإسلام. ومع ذلك، يرى ماكلافلين أن هناك قضايا رئيسية لا بدّ من حلّها على مستوى منهجيات التنظيم المتباينة بشكلٍ كبير، مختتماً مقالته بالإشارة إلى الحاجة لتواجد قدرٍ أكبر من الحوكمة الدولية للتعامل مع القضايا المرتبطة بالحج والعمرة.