وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

جيل الألفية العلماني في إسرائيل ومشاعر متناقضة تجاه الفلسطينيين

Israeli youth
شبابٌ إسرائيليون أثناء احتفالهم طيلة الليل بعيد الاستقلال التاسع والستين “النكبة” في سوق ماهاني يهودا وسط القدس وذلك يوم ٢ مايو ٢٠١٧. المصدر: MENAHEM KAHANA / AFP.

نشر موقع “The Conversation” مقالة سلطت الضوء على أفكار جيل الألفية من اليهود الإسرائيليين العلمانيين تجاه مفهوم الوطن والتقاليد وعن الفلسطينيين ورؤيتهم لأنفسهم في خضم الصراع الجاري. وتحاول صاحبة المقالة ستيسي جاتكوسكي، وهي محاضرةٌ مختصة في دراسات الصراع ومديرة مشاركة لمركز دراسات المجتمعات المنقسمة في جامعة “كينغز كوليدج” بلندن، عقد مقارنة بين هذا الجيل ورومانتيكيي القرن التاسع عشر، ساعيةً في الوقت نفسه إلى رصد أوجه التشابه بين الجانبين.

ويعتبر الشباب العلماني اليهودي الإسرائيلي، وهم من مجموعات النخبة على المستوى الاجتماعي، بمثابة العمود الفقري لعملية السلام، فهؤلاء الشباب يعرفون بعملهم المناوئ للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

بيد أن أعداداً متزايدة من جيل الألفية العلمانيين اليهود الإسرائيليين، المعروفين باسم “حيلوني”، باتت أكثر تقبلاً لما تقوم به القوات الإسرائيلية من أنشطة عسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد ما وصفته جاتكوسكي بالحرب بين إسرائيل وغزّة.

وتقول صاحبة المقالة: “يسلّط كتابي الجديد الضوء من زاويةٍ جديدة على التحوّل الحاصل في موقف هؤلاء الشباب من الصراع الفلسطيني”.

وأدى فشل عملية أوسلو للسلام والحروب الأربعة في قطاع غزة بين عامي 2006 و2014 إلى تشكك هؤلاء في السلام. كما أن الجدار العازل الذي يفصل بين اليهود الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة جعلهم يشعرون بالأمان. ومنذ عام 2006، بدأ خطاب السياسيين يتحول بالتدريج من التركيز على الاحتلال إلى الاقتصاد.

لا تقدم بلا براغماتية

في أعقاب حرب غزة التي وقعت في عام 2014، أجرت جاتكوسكي 50 مقابلة معمقة على مدار عامين مع عينة متنوعة من أبناء جيل الألفية الذين يعرّفون عن أنفسهم باعتبارهم من “الحيلوني”. كما أنها أجرت دراسة استطلاعية موسعة وبحثاً إضافياً حول هذا الموضوع.

وتعرّج جاتكوسكي على ما يوجهه باحثون من انتقادات لجيل الألفية الحيلوني “لانغلاقهم على ذواتهم وعدم إبدائهم الالتزام بمستقبل إسرائيل”، لتعاود بعد ذلك الإشارة إلى اكتشافها مدى ما يتمتع به هؤلاء من “إحساس عظيم بالمسؤولية”. وتقول جاتكوسكي إن كثيراً من هؤلاء لديه فكرة بطولية عن نفسه باعتباره عقلانياً ومعتدلاً ومسؤولاً اجتماعياً. وهم يعتبرون أنفسهم عقلانيين على اختلاف توجهاتهم السياسية، أو ما تطلق عليه جاتكوسكي مصطلح “مواطني الارتكاز”، فهم يحققون التوازن مع المتطرفين بما فيهم جماعات العنف القومية الدينية الفلسطينية واليهود الإسرائيليين. وتضيف صاحبة المقالة: “أخبرني شابٌ في منتصف العشرينيات اسمه تامر* التالي: الاعتدال يتيح لك فعل الكثير للناس. البراغماتية مهمة جداً في الحياة، وإذا غابت، فلا وجود للتقدم”.

لكن الانعكاسات السياسية للشعور بالعقلانية لها وجهان. فحتى من يعتبرون أنفسهم يساريين ومعارضين تماماً للاحتلال ينظرون “الآن” إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية على أنه “أمرٌ مؤسف لكنه مبرر”.

ولتفسير سبب انخفاض عدد الأشخاص الذين يقاتلون ضد الاحتلال من أبناء هذا الجيل، قالت روث*، وهي فتاةٌ في العشرينيات من عمرها وابنة أحد نشطاء حقبة أوسلو: “في الواقع، ينتابني شعور باليأس إلى حدٍّ ما. أحسب أننا عالقون… إننا مخدرون فعلاً… حياتنا جيدة للغاية. ولدينا الكثير لنخسره. إذا أردت أن أتدرب في الأمم المتحدة، فإن فرصة القيام بذلك لن تكون متاحة إذا ما تم اعتقالي في مظاهرة واحتفظت الشرطة بسجل عندها عنّي. قد يكون الاحتلال سيئاً، إلا أن مواجهته أمرٌ في غاية الخطورة”.

وتتوافق هذه النتيجة مع ما خرجت به استطلاعات الرأي العام في حقبة ما بعد اتفاقية أوسلو، والتي أجريت منذ عام 2000. وتظهر هذه الدراسات الاستطلاعية انفتاح نصف اليهود الإسرائيليين على السلام مع العرب (كالإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان)، إلا أنهم لا يعطوا أية أولوية لحماية حقوق الإنسان الفلسطيني بما يتوافق مع القانون الدولي.

الرومانتيكية الجديدة

استناداً على بحث موسع تم إجراؤه عن هذه المجموعة وتناول تأثير المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عليها، فقد ركّزت جاتكوسكي على شعور النشوء كيهودي علماني في إسرائيل بعد فشل اتفاقيات أوسلو للسلام، سيّما وأن جاء ذلك على خلفية تنامي القومية الدينية العرقية بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين.

ووجدت صاحبة المقالة أن فلسفات الحياة الذاتية وخبراتها والعلاقات المقربة هي ما شكّلت الآراء السياسية لمن قابلتهم بصورة غير متوقعة. وحتى ندرك هذا الأمر، فإننا بحاجة إلى التفكير بطريقة جديدة حول ما يعنيه أن يكون المرء علمانياً يهودياً إسرائيلياً.

وتقول جاتكوسكي: “لاحظت ما أستطيع تسميته بالحس الرومانتيكي الحديث بين صفوف من قابلتهم من الحيلوني. فرومانتيكية القرن التاسع عشر التي عاشتها أوروبا الغربية حاولت أن تجد سبيلاً جديداً نحو حياة صادقة وأصيلة تتوافق مع حدسها الذاتي وتجربتها الشعورية. وقد أرسى الرومانتيكيون تقليداً عظيماً في التعبير عن الذات، لكن ذلك لم يمنعهم أيضاً من إرساء ارتباط عظيم بالأمة القومية”.

وسعوا كذلك، عن طريق الفنون تحديداً، إلى تحقيق تسامٍ وعلوٍّ يتجاوز التقاليد الدينية ويبقى ضمن حدودها في نفس الوقت. وقد أثّروا في ذلك على المفكرين اليهود الذين جذبهم تفسير المبدعين للتقاليد اليهودية وتطوير سبل جديدة ليكونوا يهوداً مكتملين بذواتهم، بعيداً عن السلطة الحاخامية.

وحتى مع غياب رابط تاريخي مباشر بين جيل الألفية الحيلوني ورومانتيكيي القرن التاسع عشر، فقد وجدت جاتكوسكي حسّاً مشتركاً بينهم. وأظهر من قابلتهم صاحبة المقالة من الحيلوني تمسكاً بالتعبير عن الذات وتشديداً على الصدق والخبرة الذاتية، مثلهم في ذلك مثل رومانتيكيي القرن التاسع عشر. كما أن الحيلوني أبدوا اهتمامهم بالاستكشاف الفلسفي داخل السياق اليهودي وخارجه. وشعروا برابطة قوية تجمعهم ببقية اليهود الإسرائيليين من عائلاتهم وأصدقائهم، بل والجماعة القومية العرقية اليهودية كذلك.

وتأتي هذه المدركات كنتاج لسياق سياسي واقتصادي واجتماعي مرتبط بالعصر الذي نشؤوا فيه خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، وهو ما أنتج تفاعلاً بين الفردانية والتضامن العرقي والقومي.

التوجه نحو الداخل

خلال هذه الفترة، تضافرت عدة عوامل أدت إلى توحيد المجتمع اليهودي الإسرائيلي، كالحروب المتكررة بين حماس وإسرائيل وحرب تموز عام 2006 مع حزب الله والمخاوف من إيران النووية. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، قام غالبية السياسيين الإسرائيليين بحشد الناس حول الرموز العرقية والدينية، ووجود شعور إيجابي متزايد تجاه الالتزام بالتقاليد اليهودية في المجتمع (Hadatah).

وشعرت الأجيال السابقة بالارتباط العميق بالمجتمع ككل وبالحكومة. بيد أن العديد من العوامل أدت إلى تغذية مشاعر الفردانية والاعتماد على الذات والعائلة والأصدقاء. وتتضمن قائمة هذه العوامل كلاً من الفساد السياسي، واستعداد الحكومات المتعاقبة لترك الأفراد عاجزين أمام منطق السوق الحر وتعميق النزعة الاستهلاكية.

وبحسب جاتكوسكي، فإن ثقافة “الحيلوني” تطورت أيضاً. وسادت روحانية العصر الجديد وباتت حوافز اليهود المزراحي (يهود الشرق الأوسط)، تشهد انتشاراً، لتحاكي بذلك تأكيد رومانتيكية القرن التاسع عشر على المشاعر. كما سهّل الإنترنت التمتع بتجارب ذاتية أكبر والتعبير عن النفس بشكل يفوق ما كان متاحاً أمام الأجيال السابقة.

ونتيجة لذلك، فقد اعتمد جيل الألفية من “الحيلوني”، شأنهم في ذلك شأن الرومانتيكيين، على تجاربهم الخاصة باعتبارها بوصلة أخلاقية ذاتية. وتضمنت التجربة الشخصية ما حدث لهم وما شعروا به تجاه هذه التجربة، فضلاً عن آراء الخبراء التي قاموا ببحثها.

ويقول أبناء جيل الألفية الحيلوني على اختلاف مشاربهم السياسية إنهم يبنون سياساتهم على مجموعة مركبة من الخبرات الشخصية والتداول العقلاني ومحبتهم لأولئك الذين يشعرون بقربهم منهم.

ونشأ هؤلاء وهم منعزلون مادياً وشعورياً عن الفلسطينيين، وجاء ذلك بالتزامن مع تأكيد الساسة الإسرائيليين بشكل صريح على عدم وجود “شريك في عملية السلام“، وعلى الترويج للتضامن اليهودي القومي والديني وهوية إسرائيل كدولة يهودية. وعلى هذا النحو، فقد شعر هؤلاء بمستويات أكبر من الارتباط والمسؤولية الشخصية تجاه اليهود الإسرائيليين مقارنةً مع ما يشعرون به تجاه الفلسطينيين، حتى وإن أعربوا عن غضبهم بين الحين والآخر تجاه المستوطنين.

وشعرت جاتكوسكي بوجود مشاعر معقدة تجاه الفلسطينيين من مختلف التيارات السياسية، فهناك مزيجٌ من التفهم والتعاطف وخيبة الأمل واليأس والصداقة واللامبالاة والخوف والازدراء.

وبصورةٍ مماثلة لما كان عليه الحال مع رومانتيكيي القرن التاسع عشر، فقد انحسرت مشاعر “الحيلوني” من أبناء الألفية نحو ذواتهم، وإلى حياتهم الخاصة أو النشاط من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعهم الخاص بدلاً من السعي إلى إنهاء الاحتلال.

وتختم حاتكوسكي مقالتها بالتالي: “صحيحٌ أن نشاطي السلام الحيلوني وصفوا أنفسهم بالعقلانيين في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي – وهو ما دفعهم إلى النظر تجاه مواجهة الاحتلال باعتبارها الخيار العقلاني الوحيد أمامهم. بيد أن تلك الحقبة الزمنية تغيّرت”.

ملاحظة
* تم تغيير الأسماء للحفاظ على هوية المشاركين في المقابلات.

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.