وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحرب السورية: الآثار تدفع الثمن أيضاً

Translation- Palmyra
صورة تم التقاطها يوم ٤ مارس ٢٠١٧ ويظهر فيها جنودٌ سوريون أثناء حراستهم للمدرج الروماني في مدينة تدمر الأثرية وسط سوريا، وذلك ضمن جولةٍ سياحية نظمها الجيش السوري للصحفيين. وبحسب الكرملين والجيش، فقد استطاعت القوات السورية بدعم الطائرات الروسية المقاتلة استعادة مدينة تدمر القديمة من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” يوم ٢ مارس ٢٠١٧. المصدر: Louai Beshara / AFP.

نشر موقع “The Conversation” مقالةً سلطت الضوء على وضع التراث الأثري السوري منذ بداية الحرب السورية حتى الآن. وتقوم صاحبة المقالة لبنى عمر، أخصائية آثار الشرق الأدنى والأستاذة الزائرة المساعدة بقسم الأنثروبولوجيا التابع لجامعة ولاية نيويورك في بينغهامتون، بتوضيح ما تلعبه المنطقة من دور في التعرّف على تاريخ الجنس البشري، ناهيك عمّا تتمتع به هذه المنطقة من مكانةٍ هامة بالنسبة للتراث الثقافي العالمي. وتكشف عمر النقاب عمّا تعرّض له هذا الإرث العظيم من خرابٍ وسلبٍ ونهب واستغلالٍ سياسي منذ 2011، شارحةً في الوقت نفسه ما مرت به من مشاعر أليمة أثناء متابعتها للحريق المستعر في بلدها وعجزها عن حماية تاريخها أو حاضرها.

وتقول عمر: “سبق لي العمل في سوريا كعالمة آثار متخصصة بآثار الشرق الأوسط. والآن، فقد علقت في عذابٍ أكاديمي، فأنا أتابع بلدي من مسافةٍ بعيدة وهي تحترق وتنقصني القدرة على حماية حاضرها وماضيها”.

وتقع سوريا في المنطقة التي أطلق عليها اصطلاحاً اسم مهد الحضارة. وتعتبر هذه الدولة جزءاً من المنطقة التي يطلق عليها علماء الآثار اسم الهلال الخصيب، حيث تمتد هذه المنطقة من حدود ما بات يعرف في يومنا هذا بالعراق إلى مصر. ويعتقد الباحثون أن هذه المنطقة هي الأولى التي استقر فيه البشر بعد البداوة، حيث ظهرت الزراعة واستأنس الناس الحيوانات منذ آلاف السنين.

وبحسب عمر، فقد كانت سوريا تشهد قبيل عام ٢٠١١ ما يزيد عن ١٠٠ عملية تنقيبٍ أثري، وكان ذلك بمشاركة باحثين من داخل البلاد وخارجها. وتشير صاحبة المقالة إلى أن ما اكتشفه الجميع يساعدنا في معرفة المزيد عن الجنس البشري وأسلافنا.

إلا أن اندلاع الحرب في عام ٢٠١١ أدى إلى تعليق عمليات التنقيب الأثرية، وهو ما دفع جميع البعثات الدولية إلى مغادرة البلاد. وبدأت تنتشر على مواقع الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي صور ومقاطع فيديو لتدمير مواقع التراث الثقافي. ولم توقف الحرب السورية عمليات البحث التي كان من المقرر لها استكمال صورة الحضارة البشرية فحسب، إذ دأب المقاتلون أيضاً على تدمير الاكتشافات السابقة.

تراثٌ ثقافي عمره آلاف السنين

تقول عمر: “قبل الانتفاضة التي شهدتها سوريا، كنت أعمل كعالمة متخصصة في آثار الحيوان، وكنت أحلل عظام الحيوانات القديمة من مواقع تعود إلى العصر البرونزي. وكنت من الخبراء القلائل في هذا المجال ضمن منطقة الشرق الأوسط”.

وتضيف: “ركزت في أبحاثي على ما يمكن أن تخبرنا به بقايا عظام الحيوانات عن الأشخاص الذين عاشوا في هذه المراكز الحضرية القديمة وكيفية استخدامهم للحيوانات”.

واستناداً إلى ما قامت به عمر من تحليل، فقد توصلت هي وزملاؤها إلى اعتماد حياة المجتمعات القديمة على القطعان الكبيرة من الأغنام والماعز خلال العصر البرونزي بين عامي 3000 و1200 قبل الميلاد. واستخدم الناس في تلك الحقبة القطعان وغيرها من الماشية والخنازير والحيوانات البرية لتوفير الغذاء، والمواد الخام لصنع الأدوات، وحتى كوسيلة للتواصل مع العالم الروحي من خلال التضحية والأعمال الفنية.

ولا تعكس عظام الحيوانات وحدها في الغالب ثراء هذه الممالك ومستوى الحرف اليدوية فيها. ومن أبرز الأمثلة على هذا الأمر القصر الملكي الموجود في بلدة قطنا، إذ تم هناك اكتشاف تمثال حجري يعود لقرد يحمل إناء وتظهر عليه رسمة وجه من مقبرةٍ ضخمة. ويعود تاريخ هذا التمثال إلى الفترة الممتدة بين عامي ١٤٠٠ و١٦٠٠ قبل الميلاد.

وتمكن علماء الآثار من توثيق التغييرات الرئيسية التي حدثت في العصر الحجري الحديث، والذي بدأ منذ ما يقرب من 10 آلاف سنة. واكتشف هؤلاء أنماطاً مبتكرة للعمارة كالمباني الجماعية في منطقة الجرف الأحمر. كما قاموا بتوثيق التطورات الثقافية في الحياة اليومية كظهور وانتشار تقاليد صناعة الفخّار ومعالجة الأغذية وأساليب الطبخ. كما اكتشفوا الممارسات الجنائزية المعقدة في سوريا، بما في ذلك الجماجم الجصّية من تل أسود والتي يعود تاريخها إلى 9500 عام خلت، وهي واحدة من أفضل الأمثلة المحفوظة على الجماجم البشرية المزخرفة.

Translation- Archaeology syria
بارتوز ماركوفسكي من معهد الآثار التابع لجامعة وارسو وروبرت زاكوفسكي من أكاديمية العلوم البولندية أثناء تفحصهم لتمثال في متحف تدمر يوم ٩ إبريل ٢٠١٦. وعندما قام خبيرا التراث البولنديين بترميم تمثال الأسد في تدمر السورية في عام ٢٠٠٥، لم يخطر على بالهما أنها سيريانه محطماً إلى قطع بعد عقدٍ من الزمن. المصدر: LOUAI BESHARA / AFP.

وكشفت عمليات التنقيب في هذه المنطقة عن العديد من القطع الأثرية والمستحاثات القديمة. وفي كهف الديدرية شمال غرب سوريا، رمّمت مجموعةٌ بحثية هيكلين عظميين بالكامل تقريباً لطفلين رضيعين من البشر البدائيين (نياندرتال) أبصرا النور في زمنٍ يتراوح ما بين 48 ألف و54 ألف عام خلت. وتمكنت الأبحاث الحديثة من ربط الخصائص الهيكلية لهذين الهيكلين مع شكل العظام البشرية الحديثة. وبحسب عمر، فإن هذه الخطوة حاسمة لإعادة بناء العلاقة التطورية لجنسنا مع الأجناس الأخرى من فصيلة القردة العليا.

وحقّق علماء الآثار نتائج رائعة أخرى في واحة الكوم وسط سوريا بالقرب من تدمر، إذ اكتشفوا هناك مستحاثات قردةٍ عليا إلى جانب عظام جمالٍ عملاقة يعود تاريخها إلى حوالي 100 ألف عام خلت قبل أن يستوطن النياندرتال هذه المنطقة.

ومن الواضح ما لعبه الهلال الخصيب من دورٍ حيوي باعتباره طريقاً ووطناً للبشر وأسلافهم لفترةٍ طويلة للغاية. وتستمر هذه المنطقة في استضافة موجاتٍ من المجتمعات التي ابتكرت مهاراتٍ كانت حاسمة في بقاء جنسنا البشري.

الآثار تحت وطأة الحرب

توقف علماء الآثار عن العمل في سوريا بعد ربيع عام 2011. ولم يعاود العلماء اكتشاف مواقع جديدة، ناهيك عن توقفهم عن البحث بعمق في تاريخ البشرية الطويل بهذه المنطقة.

والآن يجري تدمير القطع والمواقع الأثرية، وما تزال أعمال النهب والتهريب الفظيعة مستمرة في أنحاءٍ مختلفة من البلاد. وبات نهب الآثار بمثابة أداةٍ اقتصادية يستخدمها تنظيم “الدولة الإسلامية” لمواصلة السيطرة على شمال البلاد. كما استفاد العديد من الفصائل المقاتلة في سوريا من الإرث الغني وهرّبت ما بوسعها إلى الأسواق الغربية وجامعي الآثار.

ونتيجةٌ لذلك، فقد أٌغلِقت المتاحف وحُصّنت. وما يزال أكثرها مستهدفاً ويعاني كثيراً وسط النزاع المسلح.

وتجدر الإشارة إلى تعرّض بعض المواقع – كقلعة الحصن وآثار حلب القديمة – للنيران من قتال قوات النظام والمعارضة. وعندما اعترف المجتمع الدولي بفداحة تدمير التراث العالمي وقيمة الآثار السورية للتاريخ العالمي، فطنت الجماعات المتقاتلة إلى إمكانية استخدام هذه المواقع كأدواتٍ سياسية. وفي الوقت الذي قامت فيه الأوركسترا الروسية بتقديم أحد العروض الموسيقية على مسرح تدمر بعد “تحرير” المدينة من تنظيم “الدولة الإسلامية” في عام 2016، فقد انتقم تنظيم الدولة لذلك بتدمير واجهة المسرح الأثري عندما استعاد المدينة في عام 2017.

وعلى ذلك، ما تزال هذه الفوضى مستمرة منذ ثماني سنوات.

علماء الآثار السوريون في طي النسيان

يتطلب إجراء البحوث الأثرية اتصالاً مباشراً بالمواقع والمواد القديمة. إلا أنّ العنف المسلح المتصاعد في سوريا يحول دون استكمال علماء الآثار لعملهم. كما حوّلت معظم المؤسسات الدولية تركيزها عن سوريا ونقلت بعثاتها ومشاريعها إلى البلدان المجاورة.

يأتي ذلك في الوقت الذي يواجه فيه عددٌ قليل من علماء الآثار السوريين تحديات متعددة. ففي المقام الأول، أدت الحرب إلى تدمير منازلهم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد عانى هؤلاء من تحدٍّ كبير على مستوى مسيرتهم المهنية: إذ كيف سيكون للمرء ممارسة مهنةٍ في هذا المجال وسط نزاعٍ مسلّح تدعمه قوى جيوسياسية متعددة.

وتقول عمر: “تم إجبار معظم هذه المجموعة من علماء الآثار الشباب الطموحين – بمن فيهم أنا – على الفرار من البلاد. وعلى الرغم من كوننا الآن في مأمنٍ من الخطر الجسدي، فإننا ما نزال نواجه حقيقة مهنية قاسية. ففي ظل التنافس الشديد في سوق العمل، لا يسعنا سوى الأمل بالعودة يوماً ما إلى حيث ننتمي كي نستأنف عملنا مرة أخرى”.

وتختم عمر مقالتها بالتالي: “يواصل العديد من السوريين في المنفى المشاركة في مبادراتٍ على شاكلة سوريون من أجل التراث وذلك في محاولةٍ لحماية المتاحف في جميع أنحاء البلاد، واستعادة القطع الأثرية، والحفاظ على التراث الثقافي السوري في الشتات. إلا انني على قناعة بأن هذه المهمة لن تكلّل بالنجاح إلا إذا حظي الشعب السوري بدعمٍ حقيقي، فالأمر لا يقتصر على دعم آثار هذا الشعب فحسب”.