وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أنا عراقي، إذن أنا حزين!

أنا عراقي حزين
صورة تم التقاطها يوم ٢٩ يونيو ٢٠١٨ للمايسترو وعازف التشيللو العراقي المعروف كريم وصفي وهو يعزف أمام مسجد النوري الكبير في مدينة الموصل القديمة التي دمرتها الحرب، وذلك بعد مرور عام على تدمير المسجد أثناء معارك استعادة المدينة من تنظيم “الدولة الإسلامية”. ويعرف وصفي بتجوله وعزفه على التشيللو في أعقاب التفجيرات بالعاصمة بغداد، محاولاً بذلك تخفيف الألم من خلال قوة الموسيقى الناعمة. المصدر: Zaid AL-OBEIDI/ AFP.

علي العجيل

أن تكون عراقياً حزيناً ليس بتهمة ولا بموقف عدمي كاذب. هذه حقيقة تاريخية مثبتة، ليس فيها شبهة تزوير، ولا تحتاج توضيحًا حتى. فالحزن المسيطر هذا قديمٌ قِدم العراق، وطبع بطابعه موسيقى العراق وأغانيه. ولهذا الأمر عدة أسباب، أولها الأسباب التاريخية. فالأساطير السومرية والأكادية والبابلية المكتوبة على الألواح الطينية تتحدث عن نزول الإله تموز (إله الخصب والنماء) أسيراً إلى العالم السفلي، فلا يتحرّر من أسره إلا ببكاء عشتار (آلهة الحب والجمال). وبعد أيام من النحيب والبكاء وترتيل المراثي في كل عام، يتحرر تموز أخيراً كما تقول عشتار: “من أجل تموز، حبيب الصبا، قضيت بالبكاء والنحيب سنة بعد أخرى”.

كما كان لطبيعة الأرض والمناخ الأثر الكبير في تكوين سيكولوجية الإنسان العراقي وتكوين موسيقاه. فمن حيث طبيعته، كان العراقي القديم غير مجهز للحروب. ولذلك، كان هذا العراقي يتعرض باستمرار للغزو والنهب من قبل سكان الجبال القادمين من الشرق أو من قبل القبائل من الغرب. يضاف إلى هذا أن نهر دجلة كان مرعبًا خطيرًا فكان سببًا في خوف العراقي القديم وقلقه. ويقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص: “الحزن جزء من الشخصية العراقية منذ آلاف السنين، بسبب تركيبة الثقافة العراقية كنتيجة للنشاط الاقتصادي، لأن أرض العراق أرض فيها كلّ الخير، ولكن تأتي فجأة ظروف غير طبيعية تحكم كل شيء. وعلى سبيل المثال، فإن فيضان النهر في العراق يحدث في زمن الحصاد الوفير، بينما فيضان النيل يحدث في زمن رمي البذور. لذلك، فإن فيضان النيل خير وفيضانات العراق نقمة، فيفرح المصري بالفيضان، بينما يحزن العراقي”.

وتأتي في النهاية مأساة مقتل الإمام الحسين ليصبح استشهاده معلم الحزن العراقي منذ أن روى بدمه تراب كربلاء، في سبيل إعلاء كلمة الحق. فمنذ ذلك اليوم ومواكب الحزن الجماعي في العراق لا تنتهي، مع إضافة الصوت الجميل لتحويل مسار الحزن ليس إلّا.

في النهاية، ظنّ العراقي أن المفتاح السحري للخلاص من معاناته في صراعه مع الآلهة والطبيعة، يأتي عبر الحزن والندب والرثاء. وهو بذلك يقتدي بذلك بأسطورة آدابا التاريخية. وتقول الأسطورة إن آدابا وهو ابن إله الحكمة أيا كسر جناح الريح الجنوبية، ليلاحظ (آنو) الإله العظيم هذه الحالة ويأمر بإحضار آدابا أمامه. حينذاك، قام أيا بتقديم النصائح لابنه. وأخبره أن يرتدي ملابس الحزن وألا يرتب شعره. وحين يصل إلى بوابة الجنة سيجد أنها محروسة من الإلهين تموز ونينكيزيدا. وعندما يسألانه عن سبب لبسه لثياب الحداد، عليه أن يجيب أنه حزين لاختفاء إلهين من على الأرض. وعندما يسألانه من هذان الإلهان عليه أن يجيب أنهما تموز ونينكيزيدا، وسوف يشبع هذا غرورهما ويسرهما كثيرًا وسوف يقومان بإطرائه أمام (آنو). وبهذا يضمن خلاصه.

فقد جرت خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، عدة محاولات في الدوائر الثقافية والإعلامية العراقية، لإخراج الأغنية العراقية من طابعها الحزين. حينها، تفاجأ القائمون على هذه الدوائر بخلو المكتبة الموسيقية تقريبًا من الأغاني بعد حذف الحزينة منها. هذه المكتبة لم تلبث بعد حين أن عادت لتمتلئ بالحزن والألم كما كانت.

وكانت آخر المحاولات، بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بعام تقريبًا، عندما أقدم الشاعر الغنائي البصري طاهر سلمان على كتابة نص غنائي بعنوان (وداعًا يا حزن) قام بتلحينه الفنّان الراحل طالب القره غولي وأداه المطرب ياس خضر. وفي هذه الأغنية، تكمن المفارقة والطرافة، إذ تبدأ الأغنية بقول الشاعر: (وداعًا يا حزن ولا توصل بعد). لكن ياس خضر، رغم محاولته، لم يستطع أن يدعم هذا القول بغنائه. ولم يوفق في تغيير نمطية الغناء في العراق، فقد جاء صوته شجيًا حزينًا كما عُرف عنه في الأغاني السابقة. ليبقى الحزن هوية العراقي ومفتاح خلاصه الوحيد.

 

المصادر:

– باقر، ط.، مقدمة في أدب العراق القديم، جامعة بغداد، ١٩٧٦، بغداد (النسخة العربية).

– الوردي، ع.، شخصية الفرد العراقي، الطبعة الثانية، دار ليلى للمنشورات، ٢٠٠١، لندن (النسخة العربية).

– الشحيلات ع.، الحمداني، ع.، مختصر تاريخ العراق.. تاريخ العراق القديم، دار الكتب العالمية، ٢٠١١، بيروت (النسخة العربية).

– الرافعي، م.، تاريخ آداب العرب، المكتبة العصرية، ١٩١١، القاهرة (النسخة العربية).

– شابيرو، م.، وهندريكس، ر.، معجم الأساطير، دار علاء الدين، دمشق، ٢٠٠٨، ترجمة حنّا عبود (النسخة العربية).

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.