وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الجزائر: معركة الديناصورات السياسية الشرسة من أجل التفوق

Bouteflika and General Toufik political battle
رجال يحملون جثمان أحد البربر الإحدى عشر الذين قتلوا خلال الاضطرابات العرقية في منطقة غرداية جنوبا، وذلك خلال مراسم التشييع في القرارة جنوب الجزائر, 11 يوليو 2015. Photo AP/Mokhtar

منذ أواخر الثمانينات وحتى الربيع العربي عام 2011، قدمت الجزائر صورة سياسية مختلفة للعالم. وفي منطقة تعدّ فيها أنظمة الحزب الواحد والحكم المُطلق المعيار الأساسي، كانت الجزائر تتمتع بالتعددية الحزبية في الانتخابات وبحرية الصحافة، وإن كان ذلك بشكلٍ جزئي. في الواقع، لطالما كانت دولة الظل تُدير الأمور في البلاد، والتي تتكون بشكلٍ أساسي من الثلاثي غير الرسمي: الرئاسة، والجيش، والمخابرات. ومع استبدال الجنرال توفيق، رئيس جهاز الأمن منذ فترة طويلة في البلاد، هذا الشهر، انخفضت الركيزة الثالثة، وباتت أمور البلاد في قبضة كل من الرئاسة، والجيش، والمجهول.

أثرت حرب الاستقلال عن فرنسا (1954-1962) على سياسات الجزائر ما بعد الاستعمار، ومنذ عام 1962، حُكمت البلاد من قِبل المجاهدين (مجاهدي الاستقلال) وأنصارهم. وكان العامل الرئيسي الآخر هو الحرب الأهلية الدامية في التسعينيات، التي عارضت وصول جماعات حرب العصابات الإسلامية للدولة، وزادت من قبضة القوات الأمنية والاستخبارتية.

ومن أجل البقاء على قيد الحياة، بنى النظام الجزائري كياناً أمنياً وعسكرياً مثيراً للإعجاب، الذي بدوره سيطر على الدولة وأمنّ حدود البلاد. فقد كان جميع رؤساء الجزائر الأوائل من رجالات الجيش، وأغلقت الحياة السياسية إلى أنّ تولى الرئيس الشاذلى بن جديد مقاليد الحكم وسمح في عام 1988 بالتعددية الحزبية. أدى هذا إلى تعزيز قوة الأحزاب الإسلامية، التي فازت في الانتخابات عام 1991. ومن ثم ظهرت مجموعة من الجنرالات الذين خاضوا المنافسة لتحقيق الفوز وإقامة حكمهم الخاص. كانت تلك بداية العشرية السوداء في الجزائر، أو الحرب الأهلية الدامية في الجزائر.

أحد هؤلاء الجنرالات، الملقبون بـ”الاستئصاليون،” كان محمد مدين، المعروف باسم توفيق، رئيس دائرة المخابرات الجزائرية (دائرة الاستعلامات والأمن أي ما يعادل لجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي KGB). الجنرال توفيق الذي قاد دائرة الاستعلامات والأمن منذ عام 1990 إلى عام 2015، حوّل دائرته إلى عامود ارتكاز الدولة الجزائرية، ويعتقد أنه كان وراء العديد من الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية.

عُرف الجنرال توفيق، على نطاقٍ واسع، باعتباره أكثر الرجال تأثيراً في الجزائر وكان يُحسب له ألف حساب، صانع قيادات ذو نفوذ فضّل التواري عن الأنظار بينما كان يحبك الحيل والمؤامرات من الأجنحة السياسية. كما لعب دوراً في “اختيار” العزيز بوتفليقة رئيساً للبلد عام 1999، وكان له دور أساسي في تهميش الجنرال محمد العماري، رئيس الأركان العامة للجيش في عام 2004، حيث قام باستبدالة بأحد أنصار بوتفليقة، الجنرال أحمد قايد صالح. وبالتالي، بات من الواضح منذ ذلك الوقت تأييد الجيش لبوتفليقة.

ومع ذلك، وفي السنوات التالية لعام 2000، نمت العداوات بين مخيميّ بوتفليقة والجنرال توفيق. فقد بدأ بوتفليقة بتفويض السُلطة إلى أفراد مقربين منه، مثل شقيقه سعيد، والعمل بشكلٍ مستقل عن رئيس المخابرات. ومن هنا، بدأت مصالح المجموعتين تتعارض، حيث بدأ شقيق بوتفليقة ومؤيديه بحشد السلطة والمال، والتعدي على مناطق نفوذ كلٍ من الجنرال توفيق ودائرة الاستعلامات والأمن.

وفي عام 2009، فتحت دائرة الاستعلامات والأمن ملف المقربين من بوتفليقه، ومن بينهم وزير الطاقة شكيب خليل. أجبر خليل على الاستقالة كما أضطر إلى الانتقال إلى المنفى. أراد الجنرال توفيق بهذا إثبات مدى قوته أمام بوتفليقه. كما كان هناك أيضاً هجمات متكررة في وسائل الإعلام ضد الرجال والنساء على حد سواء من المقربين لكلا الجانبين، إذ تعتبرأكثر الصحف تأثيراً في الجزائر على صلة إما بالرئاسة أو بدائرة الاستعلامات والأمن.

في عام 2013، أصبح بوتفليقه عاجز جزئياً إثر إصابته بسكتة دماغية. كان الجنرال توفيق مقتنعاً أن الرئيس بات الآن خارج اللعبة، وغير قادر على القيام بمهمته كرئيس للدولة. وأوضح أمام بوتفليقه ومساعديه أنه يتوجب أن تتمخض انتخابات 2014 عن انتخاب رئيسٍ جديد. وعلاوة على ذلك، فقد عارض الجنرال توفيق ترشح بوتفليقه للانتخابات، إلا أنّ احتجاجه هذا قد ضرب عرض الحائط.

سقوط توفيق

انحازت وسائل الإعلام إلى بوتفليقه وشرعت في انتقاد دائرة الاستعلامات والأمن بشكل أكثر شراسة، وفي عام 2014، هاجم عمار سعيدان، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني بقيادة بوتفليقه، الجنرال توفيق علناً. كان هذا أول انتقاد صريح لتوفيق، كما كشف عن مدى الضعف الذي بات يتمتع به الآن الجنرال، الذي كان في فترة من الفترات يُلقب بإله الجزائر. وفي الأشهر التالية، تم إفراغ وكالاته من الأقوياء، ونُقلت صلاحياته إلى وزارات وإدارات أخرى. وأجبر العشرات من كبار المسؤولين في حاشيته إلى التقاعد.

كما تسارعت وتيرة الأحداث في عام 2015، ووصل إنتقاد دائرة الاستعلامات والأمن أوجه بعد الهجوم الغامض على قصر “زيرالدا،” مقر الإقامة الصيفية للرئيس بوتفليقه. تم اعتبار هذا الهجوم فشلاً ذريعاً لأجهزة المخابرات في البلاد، وسمح لبوتفليقه “بتنظيف محيطه” من الأعداء.

فضلاً عن ذلك، فقد طُرد الجنرال حسن واسمه الحقيقي عبد القادر آيت عراب، رئيس مكافحة الإرهاب وأحد المقربين من الجنرال توفيق، من منصبه ومن ثم اعتقل بعد هجوم قصر “زيرالدا،” بتهمة التخطيط لإنقلاب. كانت تلك الضربة القاضية للجنرال توفيق، إلا أنها أيضاً لربما عكست آخر محاولات بوتفليقه الجرئية لاختبار قوة عدوه. إنّ عدم قدرة الجنرال توفيق على إبداء أي رد فعل، شجع الرئاسة، وفي 13 سبتمبر 2015 تم استبدال الجاسوس القديم.

وبعد أسبوعين من رحيله، اختفت آثار الجنرال توفيق. وهذا ليس بالأمر المستغرب، نظراً لما عُرف عنه بتفضليه عدم الظهور العلني، إذ أن الصورة الوحيدة التي نُشرت له كانت صورة غير واضحة المعالم التقطت في التسعينيات. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام الجزائرية توجه أصابع الاتهام إلى أعداء الجزائر بسقوط الشيطان. كما يجري العمل على تفكيك الإمبراطورية التي بناها داخل جهاز الدولة أسبوعاً بعد أسبوع. هل يخطط لهجومٍ مضاد؟ أم لظهورٍ آخير؟ أم سيتم اعتقاله مثل ما حصل للجنرال حسن؟

لا تزال هذه الأسئلة بحاجة إلى الرد، ولكن، ما هو مؤكد أن بوتفليقه فاز في هذه الجولة السياسية. فقد تمكن الزعيم المعتل صحياً، والذي بالكاد يستطيع السير أو التكلم، من الإطاحة بحليفه القديم وعدوه حديث العهد عن دربه. لقد انتصر بسبب دعم الجيش، الذي يعتبر في الوقت الراهن اللاعب الأساسي الآخر إلى جانب الرئاسة. ولكن، هل انتهت مشاكل البلاد عند هذا الحدّ؟ بل على العكس، لعل هذه مجرد البداية. فقد أصبحت الجزائر تعتمد على مواردها الطبيعية لبناء دولة قوية تتمتع بالرفاهية، ولكن مع تعثر أسعار النفط، تواجه البلاد ركوداً اقتصادياً. وعلى صعيدٍ آخر، أصبح انعدام الأمن الإقليمي، وخاصة مع تصاعد الاضطرابات في مالي وليبيا المجاورتين، محسوساً عبر الحدود الجزائرية. يُفاقم هذا التهديد حالة عدم الاستقرار الداخلي الذي تشهده البلاد، مما يفتح أبواب نطاق المجهول.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles