وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الإسلاميون والربيع العربي.. حكاية فشل متبادل!

الإسلاميون
أحد مناصري الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وهو يرتدي قناعاً لحركة “أنونيمس” ويرفع إشارة “رابعة” المرتبطة باقتحام لمعسكر الاحتجاج المخصص لمناصري مرسي قبل عام. ويظهر في المنشور الذي يحمله هذا المناصر صورة للقائد العام للقوات المسلحة المصرية حينها عبد الفتاح السيسي “في الوسط” ورئيس الوزراء المصري المؤقت حازم ببلاوي “يسار” والرئيس المصري المؤقت عدلي منصور “القسم الخلفي من وسط المنشور” وراء قضبان، وذلك في مظاهرة تم تنظيمها للاحتجاج على الاستفتاء على دستور جديد تم تنظيمه في وقتٍ لاحق من هذا الشهر في القسم الشمالي الشرقي من مدينة نصر بالقاهرة يوم ٣ يناير ٢٠١٤. المصدر: VIRGINIE NGUYEN HOANG / AFP

غسان عقله

ليس بالأمر الصعب اعتماد منهجية بحث تتلمّس خطوةً بخطوة المسار الذي تحوّل خلاله “الإسلاميون” لحجر عثرة في طريق “ثورات الربيع العربي”. كذلك ليس صعباً تعليق جميع ما حصل، وسيحصل، من أخطاء هذا “الربيع” على مشجب “الإسلام السياسي”. ليس بالأمر الصعب لكنه ليس بالمهم! فحتى لو تمظهرت تلك المنهجية بالجدية والرصانة، إلا أنها تبقى منهجيةً محفوفة بالسذاجة والمنطق البدهي الذي لا ينتج شيئاً. فهي من ناحية تُصوِّر من قاموا بالحراك على أنهم مجموعة حمقى انتزعوا حقّاً من مغتصب وأعطوه لمغتصبٍ آخر. ومن ناحيةٍ أهم تمنح صك براءةٍ لجميع القوى والأطراف الأخرى صاحبة المصلحة الحقيقية بإفشال ذلك الحراك من أساسه سواء امتطاه “الإسلاميون” أم سواهم.

بطبيعة الحال، أحدثت “ثورات الربيع العربي” صدمةً وإرباكاً على مستوى العالم بأسره. ليس فقط بسبب الشكل الجديد – التمترس في الميادين – الذي اتّخذه ذلك الحراك (وألهم بدوره حركات عدة حول العالم مثل “حركة احتلوا وول ستريت”) إنما أيضاً لكونها لم تكن متوقعة على مستوى التنظير السياسي. فبحسب التاريخ السياسي المعاصر فإن ثورات عام 1989 (التي بدأت في بولندا وأطاحت بالأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الوسطى والشرقية) قد أنهت الآيديولوجية الإشتراكية وأنهت معها عصر الآيديولوجيا نفسه. بعدها بعامين (1991) تفكك الاتحاد السوفييتي، وأصدر فرانسيس فوكوياما عام 1992 كتابه الشهير “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. عند ذلك الحد، وصلت فكرة الثورة إلى منتهاها، وأصبح جليّاً – خصوصاً عند مناصري الديمقراطية الليبرالية – أنّ العالم قد تجاوز إمكانية القيام بثورات جديدة. هنا، يجوز لنا القول إن “الربيع العربي” قد أذهل الجميع، حيث إنه قد اشتعل في وقتٍ تبددت فيه فكرة الثورة نفسها. لكن هنا أيضاً يمكن لنا تتبع دوامة الفراغ الآيديولوجي التي سيسقط داخلها ذلك “الربيع” لاحقاً، بمعنى أدق (بما أننا تحدثنا عن انتهاء عصر الآيديولوجيات) الفراغ الفكري الثوري. أي أن “الربيع العربي” نجح أن يتجلّى كثورة في شكلٍ جديد (التمترس في الميادين)، لكنه فشل أن يتجلى كثورة في مضمون جديد (خلق أنماط مختلفة من التنظيم).

نتيجةً لكل ذلك، راوح الحراك العربي على المطلب السلبي الذي اختزله شعار الميادين الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام”. وفشل بطرح أي مضمون إيجابي ملفت إن كان على المستوى الإقتصادي مثل علاقات الإنتاج، أو على المستوى السياسي مثل كيفية تأسيس نظم سياسية أكثر عدالةً ومساواة، فشل الحراك في ذلك رغم امتداده: زمانيّاً لعدة سنوات ومكانياً لعدة دول عربية!

هذا الفراغ الفكري الثوري الذي صاحب الحراك كان لا بد أن يشغله أحد التنظيمات السياسية القائمة بالفعل. وتحتّم من الناحية الواقعية أن ينبري “الإسلاميون” للعب هذا الدور. يعود ذلك بالدرجة الأولى لكونهم الأكثر “تأهيلاً من الناحية الفكرية والتنظيمية” دوناً عن سواهم، بصرف النظر أكانت أفكارهم راديكالية مثل داعش ومثيلاتها، أو معتدلة مثل جماعة الإخوان المسلمين.

وبذلك، شكّل “الربيع العربي” فرصةً للإسلاميين لا يمكن تفويتها لتحقيق “الحكم الثيوقراطي”، وهو حلمٌ راود خصوصاً الحركات الإسلامية في مصر منذ ثمانينيات القرن المنصرم، حين رفعت شعارها المعروف “الإسلام هو الحل”. وهذا ليس من قبيل الصدفة أبداً. ففي ذلك الوقت كانت الحرب الباردة في أوجها بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. والحركات الإسلامية في طرحها ذاك، إنما كانت تقدم نفسها كـ”نِد” وبديل في الوقت ذاته لتلك الآيديولوجيات الكبرى. وفي تلك الفترة استعارت معظم أدبياتها من فكر سيد قطب أو من مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنّا الذي رأى أن: “الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف”. إلا أنها ومع انتصار المعسكر الرأسمالي في الحرب الباردة وتبدد الآيديولوجيا الاشتراكية، سارعت لاستعارة مفردات الديمقراطية الليبرالية مثل الحرية والديمقراطية والمساواة..

يتجلى في ذلك التحول الفكري الطبيعة البراغماتية للحركات الإسلامية، التي ما إن اشتعل “الربيع العربي” حتى نفضت الغبار عن شعارها الإنتخابي القديم “الإسلام هو الحل”، وقدّمته كوصفة جاهزة لعلاج مختلف أمراض المجتمع. وهي بذلك استغلت قدرتها على التعبئة الجماهيرية من جهة (على سبيل المثال أطلق الإسلاميون مسمى “غزوة الصناديق” على استفتاء التعديلات الدستورية الذي جرى في مصر في آذار 2011)، ويأس الناس من جهةٍ أخرى بالذات بعد تردّي أحوالهم المعيشية والأمنية وعجز الحراك الثوري عن تقديم بدائل تنظيمية ناجعة. يلاحظ ذلك خصوصاً في المناطق السورية، التي تمكنت من الإفلات من قبضة النظام السوري وتلقفتها سريعاً قبضة الحركات الإسلامية دون أدنى مقاومة من الناس العاديين، بل بأيدٍ مفتوحة بكثيرٍ من الحالات.

لكن حلم الإسلاميين لم يستمر طويلاً، فسرعان ما أدرك الجميع أنّ وصفتهم الموعودة وصفةٌ منتهية الصلاحية تزيد من خطورة الحالة العربية (الميؤوس منها أصلاً) لا تعالجها! إلا أن الإسلاميين أنفسهم لم يدركوا ذلك. لا بل إنهم لم يدركوا أن المجتمع الدولي ذاته غير مستعد لإعادة إنتاج أنظمة إسلامية بأحسن صورها ستكون شبيهة بنظام الملالي في إيران!

عند ذلك المنعطف، أخذ “الحراك العربي” يلتهم نفسه من الداخل، ففي مصر انتزع الجيش السلطة مجدداً من قبضة الإخوان المسلمين، ليتولّى الرئاسة فيما بعد المشير عبد الفتاح السيسي، وهي عملية إعادة تدوير واضحة ومملة لنظام مبارك الساقط. أما في سوريا، فقد تحوّل الحراك الثوري، بعد سيطرة الإسلاميين على مختلف الجغرافيا التي انتزعها مقاتلو “الجيش الحر” من النظام السوري، لحربٍ أهلية لا يمكن توقع نتائجها أو موعد انتهائها.

لم يعط الحراك العربي إجابةً واحدةً كاملةً أو إيجابية عن السؤال الوحيد ذي المعنى في الحراك: ما هو تحديداً الهدف من “الثورة”؟ كان دائماً الجواب سلبياً: “الشعب يريد إسقاط..”، أو غير مكتمل: “إقامة نظام ديمقراطي منتخب..”. لكن أحداً لم يتحدث عن اليوم التالي لسقوط الأنظمة، ولا عن الجدوى من إنشاء نظام ديمقراطي. هذا التعثر الحاصل كان من الممكن أن يتحول لنقطة قوّة فيما لو ساهمت جميع مكونات المجتمع (بما فيها الإسلاميين) في تقديم إجابات واقعية وحقيقية عليه. إلا أن الذي حصل هو انفراد الإسلاميين وحدهم بتقديم إجابة كانت أكثر فداحةً من غياب إجابات الحراك نفسه. فالإسلامي من حيث يعتبر نفسه الطرف الأحق في الحكم، أقصى دون اكتراث جميع الأطراف الأخرى من المشاركة، ليقوم بذلك بشنق نفسه وشنق الحراك معه بحبلٍ أرخاه له النظام العميق في الدول القائمة وسط تواطؤ من المجتمع الدولي الذي راعه قيام أنظمةٍ راديكاليّةٍ جديدة في المنطقة.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.