وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مصداقية المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا على المحك: الموقف تجاه حفتر وسياسة الكيل بمكيالين

Libya- Khalifa Haftar
المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي من أبرز المرشحين للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في ربيع عام. Photo AFP

نشر موقع “The Conversationمقالة سلّط فيها الضوء على سياسة الكيل بمكيالين التي تنفذها المحكمة الجنائية الدولية حيال مقاضاة الأشخاص المتورطين في جرائم الحرب بليبيا خلال السنوات القليلة الماضية. وتشير المقالة التي كتبتها إيليا زايبوليا إلى أن المكانة التي تحظى بها المحكمة باتت على المحك في ظل تجاهلها للنداءات المتعددة لمقاضاة قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر.

وتبدأ الزميلة الباحثة في جامعة أبردين مقالتها بالإشارة إلى مواجهة المحكمة الجنائية الدولية لضغوطٍ عدة ترمي إلى مقاضاة حفتر على خلفية جرائم تم ارتكابها بحق الإنسانية خلال الحرب الأهلية التي عصفت بليبيا. وكان محامو مكتب “غويرنكا 37” المتخصص في الدفاع عن حقوق الإنسان ومقره لندن قد تقدموا بملف أمام المحكمة لمحاكمة حفتر وقواته بتهم “التعذيب” و”وتنفيذ أحكام الإعدام بإجراءات موجزة” و”التدمير المفرط”.

ويشغل المشير حفتر قيادة الجيش الوطني الليبي، وكما هو معروف فقد حظي هذا الجيش بدعم الغرب وساعد على الإطاحة بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي في عام 2011. ويتمتع حفتر بعلاقات وطيدة مع الحكومة العاملة من مدينة طبرق شرقي ليبيا، علماً بأن هذه الحكومة تسيطر على معظم حقول النفط في البلاد وترفض منذ زمن التعاون مع الإدارة المنافسة لها في طرابلس والتي تدعمها الأمم المتحدة بقيادة رئيس الوزراء فايز السرّاج.

بصرف النظر عمّا إذا كانت القضية الموجهة ضده تستند على أدلة ملموسة وقوية أم لا، ترى زايبوليا أن فرص محاكمة حفتر تكاد لا تذكر. كما تلفت الكاتبة النظر إلى تدخل أروقة السياسة في مثل هذا النوع من المحاكمات التي تقوم بها المحكمة الجنائية الدولية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بملاحقة مجرمي الحرب المحتملين. وبالطبع، لا تشذّ ليبيا مع الأسف عن هذه القاعدة.

لوائح اتهام انتقائية

Libya- Fatou Bensouda
المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة أثناء مقابلة تم إجراؤها معها على هامش الاجتماع السنوي للدول الأعضاء في المحكمة بلاهاي عام 2015. Photo AFP

لا تعتبر ليبيا من الدول التي شاركت في وضع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، تحظى هذه المحكمة بالسلطة القانونية للقيام بأعمالها على الأراضي الليبية، حيث يعود بفضل في ذلك إلى الإحالة التي حصلت عليها من مجلس الأمن الدولي في عام 2011. ومنذ ذلك الحين، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية خمس مذكرات اعتقال مرتبطة بليبيا. وكانت البداية بتوجيه 3 مذكرات اعتقال في العام الذي تم فيه إصدار الإحالة، وذلك بحق معمّر القذافي وابنه سيف الإسلام، وصهره عبد الله السنوسي الرئيس السابق للمخابرات الليبية.

وبعد عامين، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2013 مذكرة اعتقال بحق التهامي محمد خالد، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي. ولم يتم توجيه الاتهام لأشخاص غير مرتبطين بنظام القذافي حتى تم في أغسطس 2017 تم توجيه مذكرة اعتقال بحق محمود الورفلي، آمر المحاور بالقوات الخاصة “الصاعقة”.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصلات الوثيقة التي تجمع قوات الصاعقة بالجيش الوطني الليبي، فإن ذلك يشير إلى مدى تبعية الورفلي لحفتر. وعلى هذا النحو، فقد ناشدت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة مؤخراً حفتر بصورةٍ مباشرة مباشرةً لتسليم الورفلي، خاصةً وأنه متهم بتعذيب وقتل 33 شخصاً في بنغازي.

ومع ذلك، لم تشهد أروقة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حضور الورفلي أو غيره من الأشخاص المتهمين في هذه القضية. وتلفت الكاتبة النظر إلى أن جميع المطلوبين للمحكمة ما زالوا على قيد باستثناء القذافي، إلا أن الفوضى المستمرة صعّبت على الشرطة والقوى الأمنية تسليمهم. من جانبٍ آخر، فقد وجه العديد من الأشخاص أصابع النقد للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية ما تعتريه مساعي المحكمة من طابعٍ سياسي وتطبيقها لعدالةٍ أحادية الجانب استفادت منها القوات المناهضة للقذافي ومن خلفها الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي.

وترجح زايبوليا ضلوع جميع الأطياف المشاركة في الصراع الدامي الذي تشهده ليبيا فيما تم اقترافه من جرائم حرب. وإلى جانب الجهود التي يبذلها محامو “غويرنيكا 37”، قامت مجموعة “محامون من أجل العدالة في ليبيا” العاملة من لندن وطرابلس بحث المحكمة الجنائية الدولية بتبني منهجية “أكثر فاعلية” أثناء التعامل مع الاتهامات التي لا تحصى بارتكاب الفظائع بحق المدنيين، ومنها الاغتصاب المنهجي للذكور. وبصورةٍ مماثلة، ترى الكاتبة أن المحكمة الجنائية الدولية مطالبة بالنظر فيما يواجهه المهاجرون من معاملةٍ قاسية في مراكز الاحتجاز الليبية، خاصة وأن هذه المعاملة ترقى أيضاً إلى مستوى جرائم الحرب.

السياسة قبل العدالة؟

Libya- Mahmoud Mustafa Busayf al-Werfalli
المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة اعتقال بحق محمود الورفلي المحسوب على حفتر في أغسطس 2017. Photo AFP

تعرضت سمعة المحكمة الجنائية الدولية لضرباتٍ عدّة في ليبيا، خاصةً في ظل المزاعم التي طفت على السطح حول ارتباط لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام السابق للمحكمة، بعلاقات تجارية مع شخص وثيق الصلة بحفتر.

وبحسب الكاتبة، فإن هذه المزاعم تثير التساؤلات حول الدور الذي قد تكون لعبته هذه العلاقات في تجنيب أمير الحرب الليبي لخطر توجيه اتهام ضده خلال السنين الأولى من الحرب الأهلية الليبية.

وبعدما تولي فاتو بنسودة في عام 2012 لمنصب المدعي العام للمحكمة خلفاً لأوكامبو، بدا جلياً أن سياسة ملاحقة أتباع القذافي ستتواصل. وحظيت مذكرة اعتقال الورفلي التي تم إصدارها في هذا العام بالترحيب بوصفها تغييراً إيجابياً في توجه المحكمة. إلا أن تزامن إصدار هذه المذكرة مع زيارة بنسودة المثيرة للجدل لقطر ومقابلتها لأمير قطر ووزير خارجيتها في يوليو 2017 دفع الكثيرون لربط الحدثين ببعضهما البعض.

وتشير الكثير من الروايات إلى لعب قطر لدورٍ في غاية الأهمية خلال النزاع الليبي وذلك عبر دعمها مع تركيا للفصائل الإسلامية التي قاتلت جيش حفتر. في المقابل، حظيت حكومة شرقي ليبيا بدعم الإمارات والسعودية ومصر وروسيا. وعندما قامت السعودية وغيرها من دول الشرق الأوسط بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في يونيو 2017، لم تحد طبرق عن السرب.

وتصف زايبوليا ردود فعل فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية على ما تم وضعه من ضغط مؤخراً على حفتر بـ”المدهشة”، خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الدول الثلاث من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التي منحت المحكمة الجنائية الدولية التفويض اللازم للعمل في ليبيا. وعندما قامت المحكمة بتوجيه الاتهام للورفلي، فقد أصدرت هذه الدول بياناً مشتركاً رحبّت به ببيان أصدره حفتر وأشار فيه إلى أنه سيتحقق من الاتهامات الموجهة ضد مساعده. وبحسب الكاتبة، فإن البيان لم يقدّم أية إشارةٍ صريحة إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إلى مذكرة الاعتقال، معتبرةً ذلك بمثابة إشارة على عدم الغرب للخطوة التي قامت بها بنسودة.

كما بقيت هذه الدول صامتة في مواجهة الدعوات الأخيرة التي تم توجيهها لمحاكمة حفتر نفسه. وترى زايبوليا أن الغرب مصمّم على أن يلعب دوراً حاسماً في أي اتفاق سلام يمكن أن يتم عقده في ليبيا، وهذا ما تشير إليه المحادثات التي أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون مع حفتر خلال الأشهر الماضية.

ويزيد ذلك من الغموض حيال مساعي المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الورفلي، خاصةً وأن الضغوط التي تفرضها المحكمة على حفتر ومساعده قد تقوّض ترشّح أمير الحرب للانتخابات الرئاسية المقرر عقدها خلال الربيع المقبل. وبصورةٍ مماثلة، فإن شرط حصول حفتر على ما يحصل عليه من دعمٍ دولي قوي هو عدم توجيه أي اتهام شخصي له. وكلّما قامت المحكمة بتجاهل حفتر، نما الشعور بأن الظروف السياسية السائدة تحظى بحصة الأسد من أعمال المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا عوضاً من التركيز على حماية حقوق الإنسان.

وعلى الرغم من ضرورة عمل المحكمة الجنائية الدولية بطريقةٍ عادلة وبعيداً عن سياسة الكيل بمكيالين، إلا أنها فشلت مراراً وتكراراً في تطبيق هذا الأمر على أرض الواقع. وعلى هذا النحو، يمكن تبرير معارضة الكثير من الدول الإفريقية لما توجهه المحكمة من اتهاماتٍ كثيرة للقادة السود في الوقت الذي أشاحت فيه بوجهها على سبيل المثال عن محاكمة توني بلير لما قام به من أعمال في العراق. كما واجهت التدخلات الانتقائية التي قامت بها المحكمة الجنائية الدولية في أوغندا الكثير من الانتقادات، خاصةً وأنها قدّمت السلام على العدالة.

وتختم زايبوليا مقالتها بالإشارة إلى أن موقف المجتمع الدولي تجاه العدالة والمساءلة يهدد بتعزيز ثقافة الإفلات من العقاب على ما يتم ارتكابه من خروقات بحق الإنسان. وفي أفضل الأحوال، فإن الدول غير الغربية ستأخذ تصريحات المحكمة الجنائية الدولية بعين الريبة. وفي أسوأ الأحوال، فإنها ستراها مركبة دافعة للإمبريالية الغربية.

The Conversation