وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عندما تدفق الأوروبيون في يومٍ من الأيام إلى سواحل شمال إفريقيا

Translation- Refugees in Greek
لاجئون ومهاجرون يتظاهرون خارج أحد مراكز الاحتجاز الموجودة في مدينة ميتيليني اليونانية، مطالبين بإطلاق سراحهم من جزيرة ليسبوس اليونانية.

نشر موقع “The Conversation” مقالة تم فيها استعراض بعض الحقائق التاريخية عمّا عاشه حوض البحر الأبيض المتوسط من هجراتٍ تاريخية من الشمال باتجاه الجنوب، وبصورةٍ مغايرة لما نعيشه اليوم. ويحاول محمد أوالدي، الأستاذ المساعد والمؤرخ المتخصص في شؤون شمال إفريقيا المعاصرة بجامعة برنستون، نقل صورة تاريخية غابت عن بال الكثيرين ألا وهي استقطاب شمالي إفريقيا للمهاجرين الأوروبيين قبل ما لا يزيد عن قرنين من الزمن. ويبدأ أوالدي مقالته بالإشارة إلى رسالةٍ تاريخية محفوظة في الأرشيف التونسي، حيث ورد في هذه الرسالة التي أرسلها محمد الخزندار في عام 1832 إلى مولاه شاكير صاحب الطابع ما يلي:

“الحمد لله رب العالمين. إلى مولاي حماه الله. بعدما وبخني مولانا وغضب مني، حيث اتهمني بالتصرف في أغلب الأحيان دون استشارته، وبجلب والدتي إلى هنا من اليونان دون موافقته (….) فإنني لجأت إلى أكثر الناس تواضعاً (…) وبتّ عبدك. عليك أن تلقي الأوامر على عبدك. وإنك تملك القوة لتصفح عنه. قلتم أني أحضرت والدتي إلى طرفي دون إعلام حضرتكم. (حسناً)، أنا لا أم لي ولا أب. أنت أمي وأبي. فأنت كل ما لي يا مولاي”.

وكانت رسالة الخزندار، الذي كان عبداً يونانياً اعتنق الإسلام، موجهةً إلى سيده الشاكير صاحب الطابع، علماً بأن هذا الأخير كان وزير ولاية تونس العثمانية حينها وحافظ أختام الولاية. وبدوره، كان صاحب الطابع هذا عبداً ولد في بلاد الشركس الموجودة في المناطق الشمالية من القوقاز. واليوم، باتت بلاد الشركس جزءاً من الاتحاد الروسي، حيث تتواجد شمال جورجيا وتغطي ما بات يعرف في العصر الحديث بالجمهوريات الروسية التالية: قراتشاي – تشركيسيا، وقبردينو – بلقاريا، وأديغيا.

ومن بين العديد من الرويات التي كتبها العبيد على مدار القرن التاسع عشر، فإن هذه الرسالة المكتوبة باللغة العربية تعيدنا إلى حقبةٍ كان فيه الرجال والنساء يتنقلون بطريقةٍ مختلفة في منطقة البحر الأبيض المتوسط.

المغرب العربي: إلدورادو الأوروبيين

كان من النادر، حتى النصف الأول من القرن العشرين، إبحار الرجال والنساء والأطفال من الضفاف الجنوبية للبحر المتوسط وشمال إفريقيا سعياً للوصول إلى شواطئ القارة الأوروبية وما بعدها.

وبصورةٍ مغايرة لما يظهر للعيان حالياً، فقد توافد الإيطاليون والفرنسيون والإسبان واليونانيين إلى شمالي إفريقيا، هاربين من الفقر والاكتظاظ السكاني في دولهم. ولقد سعى هؤلاء للحصول على ثرواتهم في تربةٍ جديدة ضمن المغرب العربي وفي المستعمرات الموجودة في الضفة الغربية من المحيط الأطلسي.

كما كانت دول شمالي إفريقيا (لا الدول الأوروبية) نقطة استقرارٍ للناس، ليس فقط للعبيد الأفارقة الذين أجبروا على قطع الصحراء الكبرى، بل أيضاً للعبيد القوقازيين والجورجيين واليونانيين حتى منتصف القرن التاسع عشر، وذلك في أعقاب انتفاضاتهم ضد السلاطين العثمانيين في العقد الثالث من القرن التاسع عشر.

وفي الوقت الذي كتب فيه محمد الخزندار رسالته، لم يكن المغرب العربي قد خضع بعد للحكم الاستعماري الأوروبي. وكان الفرنسيون قد استولوا على الجزائر العاصمة قبل عامين فقط من إرسال الرسالة، كما احتلوا عدداً من المدن الموجودة على الساحل الجزائري في سلسلة هجماتٍ عنيفة تم شنها بين عامي 1830 و1832.

أما القسم الباقي من شمالي إفريقيا، فقد كان إما يخضع لحكم السلالة العلوية، كما كان عليه الحال في المغرب، أو تحت سلطة حاكمٍ تقوم الإمبراطورية العثمانية بتعيينه، كما كان عليه الحال في تونس العاصمة وطرابلس الغرب.

واستطاع الناس الذين أتوا من المناطق البعيدة، كما كان عليه الحال مع محمد الخزندار ومولاه شاكير، الارتقاء بصورةٍ مذهلة على سلّم المراتب الاجتماعية: فشاكير كان الوزير، والمستشار الرئيسي للحكام العثمانيين في تونس العاصمة. وهرع الإيطاليون والمالطيون والإنكليز والفرنسيون وغيرهم من الأوروبيين إلى تونس العاصمة والجزائر العاصمة وطرابلس الغرب بهدف كسب المال عبر وسائل قد تكون قانونية أو غير قانونية في مجالات التجارة وصيد المرجان وأحياناً في التهريب (التبغ، والأسلحة، والقهوة وغيرها من السلع).

فضح زيف نظرية “الاستبدال العظيم”

يطرح أوالدي في بداية هذا القسم التساؤلات التالية: “ما الذي حدث منذ أيام محمد الخزندار؟ ما الذي أحدث الطفرة في الهجرة الإفريقية إلى أوروبا (وبشكلٍ خاص منذ خمسينيات القرن الماضي)؟ ولماذا تغيّر المغرب العربي من مكانٍ يجذب ويتحكم بهجرة وحركة الرجال والنساء من إفريقيا وآسيا وأوروبا، إلى نقطة توقف على الطريق إلى المتوسط وأوروبا؟”

ويجيب على صاحب المقالة على استفساراته بالتالي: “إذا ما أعدنا ذاكرتنا القصيرة إلى الوراء وألقينا نظرة على القرن التاسع عشر، فإنه سيكون في مقدورنا تذكر جميع التحولات العظيمة التي شهدها هذا القسم من العالم ومنها: سيطرة القوى الأوروبية شيئاً فشيئاً على الأسواق والاقتصادات الإفريقية؛ وإلغاء العبودية بصورةٍ رسمية منذ أربعينيات القرن التاسع عشر في تونس والجزائر؛ والاختفاء التدريجي لتجارة الرقيق، بدايةٍ في منطقة المتوسط ومروراً بغربي إفريقيا ووصولاً إلى المغرب العربي؛ وظهور الاستعمار، أولاً في الجزائر في عام 1830، وبعد ذلك في تونس في عام 1881، وانتهاءً بالمغرب وليبيا في بداية العشرية الثانية من القرن العشرين، أي قبل فترةٍ بسيطة من اندلاع الحرب العالمية الأولى”. ويضيف أوالدي إلى الأسباب هجرة المستعمرين الأوروبيين، الذين وصل عددهم في الجزائر إلى مليون شخص مقابل 9 ملايين “مسلم” عندما حصلت هذه الدولة على استقلالها في عام 1962، حيث غادر مستوطني “الأقدام السوداء” الجزائر بصورة جماعية باتجاه القارة الأوروبية. ويختم أوالدي أسباب تحوّل مسار الهجرة إلى شمال البحر المتوسط بالهجرة الاقتصادية لعمال شمال إفريقيا، وعمّال الدول الإفريقية الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بهدف المساعدة على إعادة بناء وتعزيز اقتصادات القوى الاستعمارية السابقة.

وبحسب ما يراه صاحب المقالة، فإننا إذا ما أخذنا جميع هذه الأحداث التاريخية بعين الاعتبار، فإنه بإمكاننا القول: لا يمكن وصف هجرة الجنوب إلى الشمال على أنها “غزو” أو اعتبارها جزءاً مما بنظرية “الاستبدال العظيم”، كما يريدنا البعض أن نعتقد. ويتختم أوالدي مقالته بالتالي: “إن هذه الهجرة نتيجة للاعتماد الاقتصادي المتراكم، وهجرة العمال الجديدة، والاستغلال، والهيمنة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. لقد استطاع محمد الخزندار الذي كان عبداً أن يتحوّل من خازنٍ بسيط إلى رئيس وزراء في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما بسطت فرنسا هيمنتها على تونس. وبصورةٍ مماثلة لملايين المهاجرين الآخرين، فإن حياة الخزندار رسمت معالمها أيضاً نتيجة العديد من التحولات العظيمة التي حدثت على منطقة البحر المتوسط”.