وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

في معنى الهبات الشعبية في القدس

 الهبات الشعبية في القدس
صورة تم التقاطها يوم ٢ مايو ٢٠٢٢ لمسلمين أمام مسجد قبة الصخرة عقب صلاة عيد الفطر الذي تلا شهر رمضان المبارك، وذلك في مجمع المسجد الأقصى بمدينة القدس القديمة. المصدر: AHMAD GHARABLI / AFP.

ماجد كيالي

من الصعب توقع مستقبل المواجهات الدائرة في مدينة القدس، والتي شهدنا مثلها العام الماضي فيما عرف بهبة الشيخ جراح. حينذاك، جاءت هذه المواجهات رداً على سياسات إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، المتمثلة بتقويض السيادة الفلسطينية في المسجد الأقصى، بإتاحتها المجال للمتدينين المتطرفين اليهود اجتياح الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، مع سياساتها الرامية لتعزيز الاستيطان، وتغيير الطابع الديمغرافي للمدينة. هذه السياسات تنتهجها الحكومات الإسرائيلية منذ ضمها القدس الشرقية بعد احتلالها باقي أراضي فلسطين التاريخية في حرب يونيو (1967)؛ وهو ضم غير شرعي وغير قانوني ورفضته القرارات الدولية.

وقد نجم عن تلك السياسات، مثلا، اندلاع هبة النفق، في العام 2006، نتيجة قيام إسرائيل، في أول عهد لبنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة، بحفر نفق تحت المسجد الأقصى. ونجم عن هذه المواجهات مصرع 65 فلسطينيا مقابل 17 إسرائيلياً، وهي هبة شاركت فيها قوات الأمن الفلسطينية، وكانت أول مواجهة فلسطينية – إسرائيلية بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة (1993). وفي سبتمبر من العام 2000، تسبب انتهاك أريئيل شارون حرمة المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال في اندلاع الانتفاضة الثانية (2000ـ2004)، التي نجم عنها مصرع حوالي 5000 من الفلسطينيين مقابل 1040 من الإسرائيليين.

وفي التاريخ الفلسطيني، كان حصل مثل ذلك في العام 1929، فيما عرف بثورة “البراق“، إذ شهدت القدس وباقي المدن الفلسطينية مواجهات دامية بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود المتطرفين، الذين اعتبروا أن “حائط البراق” (الجزء الجنوبي من الجدار الغربي للقدس)، الذي يسمونه “حائط المبكى”، ملكهم وأنه جزء من “هيكل سليمان”. وقد نجم عن تلك المواجهات مصرع 116 من الفلسطينيين مقابل 133 يهودياً؛ إذ تدخلت سلطات الانتداب البريطاني لصالح المستوطنين وقتها. وكانت حصلت مجزرة في باحات المسجد الأقصى لدى محاولة مجموعة من المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى (أكتوبر من عام 1990)، لوضع حجر الأساس لبناء الهيكل الثالث، بحماية قوات الجيش الإسرائيلي، حيث تصدى لهم الفلسطينيون، ما أدى إلى مصرع 21 منهم.

هكذا فمنذ احتلال إسرائيل بقية الأراضي الفلسطينية (1967)، ظلّت مدينة القدس تتمتّع بمكانة متميّزة في إدراكات واهتمامات الفلسطينيين، وحركتهم الوطنية، باعتبارها رمزاً تاريخياً ودينياً ووطنياً، في آن واحد. وقد تم التعبير عن ذلك في مجمل الوثائق الرسمية الصادرة عن منظمة التحرير والفصائل والهيئات الفلسطينية الجمعية، وضمنها “إعلان الاستقلال”، الذي أعلن فيه المجلس الوطني الفلسطيني “قيام دولة فلسطين…وعاصمتها القدس الشريف.” (الدورة 19، الجزائر، نوفمبر 1988)

بديهي أن التعامل مع هذه القضية ظل يتطور، من مختلف النواحي، بحسب تطورات القضية الفلسطينية، كما ظلّ يتعقّد مع تعقّدها، سواء تعلق الأمر بقضايا الصراع، أي مقاومة سياسات الاحتلال والاستيطان ومصادرة الأراضي ومحاولات التهويد والتهجير، أو تعلق بعملية التسوية والخيارات المتاحة.

في هذا الإطار، فقد شمل التعاطي الفلسطيني مع قضية القدس ثلاث مسائل متداخلة فيما بينها: الأولى، تتعلق باعتبار القدس مدينة مقدسة يقع فيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وكمدينة مقدسة لكل الأديان السماوية. والثانية، تتعلق بالبعد الوطني – السياسي، إذ يتكثف الصراع في هذه المدينة، التي تعتبرها إسرائيل عاصمة لها، سيما مع محاولاتها تغيير طابعها الديمغرافي، وتغيير معالمها، وتعزيز استيطان اليهود فيها. والثالثة، في الجانب الحقوقي المتعلّق بكشف سياسات إسرائيل ومقاومتها، بخصوص مساعيها الدؤوبة للتضييق على فلسطينيي القدس، لتهجيرهم منها، والسيطرة على بيوتهم وأراضيهم، وتبنيها سياسة هدم المنازل.

وكانت أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني من أجل القدس تجلّت في الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، إذ أضحت بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزاً قيادياً لانتفاضتهم، سيما مع وجود القيادة الرسمية في الخارج (وقتها)، ومع بروز شخصيات مقدسية ذات مصداقية، كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني.

وقد برز تلك الفترة مركزان لعبا دورًا كبيراً في الانتفاضة، الأول، هو المسجد الأقصى، إذ باتت صلاة الجمعة، التي كان يحتشد فيها مئات ألوف الفلسطينيين، بمثابة واحدة من أهم مظاهر الانتفاضة ورفض الفلسطينيين للاحتلال، والتحريض على المقاومة. والثاني، “بيت الشرق“، الذي كان بمثابة مركز توجيه للانتفاضة، وكمعبر عن الفلسطينيين في الأرض المحتلة، إذ بات مقراً يزوره وزراء أجانب وسفراء وقناصل ومراسلو وسائل إعلامية.

على أية حال وفيما يتعلق بالهبة الشعبية الراهنة لنصرة القدس، ثمة مشكلتان أساسيتان، أولاهما، أن القيادة الفلسطينية في محاولتها التجاوب مع الهبة الشعبية، بوقفها كل الاتصالات مع إسرائيل، تكمن في أنها لم تهيئ نفسها ولا شعبها لهكذا تحدي طوال الفترة الماضية، وأنها مطالبة بمراجعة تجربتها وخياراتها، وإعادة تأهيل أوضاعها وأوضاع الكيانات الوطنية لمواجهة التحديات الإسرائيلية في مختلف المجالات. وثانيتهما، أن هذه الهبة بحاجة إلى عمق عربي ودولي، والمشكلة أن الأوضاع في المشرق العربي ليست على ما يرام، ما يعني أن إسرائيل تشعر بأنها أضحت مطلقة اليد في البطش بالفلسطينيين، الأمر الذي يفترض التحكم بوتائر هذه الهبة وعدم تركها للعفوية والمزاجية والاستغلال الإسرائيلي.

أما من الجهة الإسرائيلية، فإن هذا الوضع يؤشر على تحول، أو تخلخل داخل إسرائيل. فبعد أن كان التيار العلماني يستخدم الدين لتبرير إقامة إسرائيل، ولاستقطاب اليهود المتدينين في العالم، بات التيار الديني، والقومي الديني، هو الذي يهيمن على السياسة الإسرائيلية، وهذا هو معنى إقرار الكنيست لقانون ـ أساس (1918) يعتبر إسرائيل كالدولة القومية للشعب اليهودي في كل مكان.

على أية حال، فإن الهبات الشعبية جزءٌ من مسار طويل ومعقد من الصراع بين إسرائيل، كمشروع استعماري استيطاني وعنصري وديني، وبين الفلسطينيين الذين يدافعون عن حقوقهم كشعب، رغم اختلال موازين القوى لغير صالحهم.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.