وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عودة الفلسطينيين إلى الأنماط السياسية المألوفة: معادلةٌ فاشلة

palestinian people
فلسطينية تقف في منتصف طريق لمنع مرور المستوطنين الإسرائيليين خلال مظاهرة ضد المستوطنات اليهودية في قرية كفر مالك. Photo: ABBAS MOMANI / AFP

بقلم: نور عودة

أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، في 17 نوفمبر2020، عودة مسار العلاقة مع إسرائيل “كما كان،” إذ تضمن القرار استئناف التنسيق الأمني وقبول عائدات الضرائب الفلسطينية (التي تجمعها إسرائيل نيابة عن الحكومة الفلسطينية مقابل رسوم باهظة). فقد اعتبرت الخطوة محاولةً فلسطينية لتمهيد الطريق أمام إدارة بايدن القادمة.

أحدث هذا الإعلان صدمةً على مستوى المشهد السياسي الفلسطيني، بما في ذلك بين أعضاء من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الذين على ما يبدو لم يكن لديهم أدنى فكرة عن هذا القرار. وتقريباً على الفور، أصدرت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وحماس والجهاد الإسلامي بيانات استنكارٍ صارمة لما وصفته بالقرار الذي لا مسوّغ له والذي يقوّض جهود المصالحة وبكونه قراراً قدم لإسرائيل هدية مجانية.

وعلى الرغم من كون المصالحة ضرورةً فلسطينيةً مُلّحة، بيد أن تحقيقها على المستوى الوطني يُخيف على ما يبدو بعض القادة الفلسطينيين الذي يخشون من أن المصالحة مع حماس على وجه الخصوص ستغلق أبواب البيت الأبيض قبل أن تتاح لهم فرصة إعادة فتحها. كما يشير المراقبون بأصابع الاتهام إلى حماس التي أضاعت الكثير من الوقت في الأشهر الماضية وامتنعت عن إرسال تعهدها الكتابي بإجراء انتخابات. لكن في الوقت الذي تسير فيه محادثات الوحدة بتمهل، تنزف القضية الفلسطينية الآمال والفرص، ففي نهاية المطاف، سيكسر السماح باستمرار هذا الانقسام ظهر النظام السياسي الفلسطيني ويعزز عدم فعاليته.

وبالإضافة إلى هذه الخطوات إزاء إسرائيل، أبدت القيادة الفلسطينية أيضاً استعدادها لتلبية المطالب الأمريكية- الإسرائيلية الأخرى، إذ تطفو على السطح أقاويل تتمحور على وجه التحديد حول تعديل قانون الضمان الاجتماعي للأسرى والمحررين الفلسطينيين، فضلاً عن مراجعة المناهج الفلسطينية التي تتهمها الجماعات الموالية للاحتلال الإسرائيلي بالتحريض. تعتبر القضيتين من القضايا المحلية الشائكة وستتم قراءة هذه الإشارات الرسمية باعتبارها إذعان للضغوطات الإسرائيلية ومعلومات مضللة.

تكشف التطورات الأخيرة، في جوهرها، أن عدداً كافياً من اللاعبين الأقوياء داخل القيادة الفلسطينية اختاروا العودة إلى الروتين المريح المتمثل في تكرار شعارات السنوات الماضية أثناء محاولتهم كسب نِعم الإدارة الأمريكية القادمة بالتخلص من قائمة إسرائيل لـ”ما هو مطلوب” من خلال البيت الأبيض. يُستوحى هذا من رؤيةٍ عالمية مضللة تعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة علاقة خنوع وشروط.

ومقابل إعادة العلاقات مع إسرائيل إلى وضعها “الطبيعي،” يعتقد هؤلاء اللاعبون في السلطة أن القيادة الفلسطينية ستتلقى مساعداتٍ مالية ومشاركة سياسية من الإدارة الأمريكية، بيد أن هذه المقايضة فشلت في تحقيق أي إنجازاتٍ في الماضي، بل في الواقع، حدث العكس، إذ أدركت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أنها لن تواجه أي عواقب على تعنتها، مهما كان واضحاً، لتستمر في استعمار الأراضي الفلسطينية وإخفاء صيغة حل الدولتين التي كان من المفترض أن تحققها المفاوضات.

تمثلت الرسالة الفلسطينية الرسمية في أن القيادة الفلسطينية مستعدة لـ”الانخراط مجدداً في المفاوضات.” هذه الرسالة الروتينية ليست سوى مادةً تستحق النشر، ذلك أنها منفصلة عن الواقع وتعكس نقصاً في الإبداع حول كيف يمكن للفلسطينيين الابتعاد عن قوالب السياسة السابقة والفاشلة.

فبعد أربع سنوتٍ مدمرة وسامة من إدارة دونالد ترمب وفي ضوء العبر المستفادة من الإخفاقات السابقة، تغيّر كل شيء، وهو ما يتوجب إسقاطه أيضاً على الاستراتيجية الفلسطينية.

أولاً وقبل كل شيء، يتوجب على الفصائل الفلسطينية استعادة ثقة الجمهور بإجراء الانتخابات. وهنا، لا ينبغي أن يتمحور السؤال حول ماذا لو، بل متى، إذ تقع على عاتق جميع الفصائل الفلسطينية مسؤولية البناء السريع والحاسم على بعض التطورات الإيجابية والواعدة المتعلقة بإنهاء الانقسام. من الناحية المثالية، يجب أن تتعامل إدارة بايدن مع قيادةٍ فلسطينية موحدة لا يضعفها الانقسام والصراع الداخلي.

لا يخلو هذا النهج من التعقيدات أو الثمن، لكن هذه الصعوبات ليست مستعصية على الحل في حال كان هناك إرادة سياسية كافية للانتقال من نهج فلسطيني يكفي للبقاء على قيد الحياة إلى نهجٍ مفعم بالحيوية والتمكين وقادرٍ على وضع أجندة فلسطينية للتغيير والسلام.

سيؤدي التعامل مع إدارة بايدن إلى تمكين القيادة الفلسطينية الموحدة من مواجهة رد الفعل الأمريكي والإسرائيلي المتوقع، لا سيما في ظل الدعم الدولي الواسع النطاق لجهود الوحدة.

كما تحتاج القيادة السياسية الفلسطينية إلى إعادة تصور نهجها السياسي وخلق ديناميكية جديدة للمشاركة الدولية على أساس الأولويات والاحتياجات الوطنية الفلسطينية. يملك الفلسطينيون الخيارات إذا ما اختاروا تجربتها.

أما فيما يتعلق بالمسار الفلسطيني- الأمريكي، فينبغي على القيادة الفلسطينية تغيير الحوار بالكامل. أولاً، ينبغي عليهم إشراك إدارة بايدن في بناء علاقة ثنائية مستقلة عن “عملية السلام” غير الموجودة حالياً مع إسرائيل. فلا ينبغي أن تكون فلسطين مجرد ملحق للعلاقات الإسرائيلية بالنسبة للحكومة الأمريكية. وهذا يعني بناء علاقة تقوم على الاحترام والمنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة والقيم المشتركة.

ولتكون العلاقات الأمريكية الفلسطينية بناءة وحقيقية، يتوجب على إدارة بايدن القادمة التمييز بين ما هو واضح وما هو على مرأى من الجميع. فمن ناحية، يُصنع السلام بين الأعداء وليس بين الأصدقاء. وفي ظل استمرار إسرائيل في استعمار فلسطين واضطهاد الشعب الفلسطيني، لن ينظر أي فلسطيني تتملكه القليل من الكرامة إلى إسرائيل من منظور ودي. وعليه، فإن التوقع، بل المطالب، بالتظاهر بأن العلاقات بين فلسطين وإسرائيل “طبيعية” غير واقعي وقمعي. في واقع الأمر، يعدّ هذا امتداداً للعقلية الاستعمارية التي تتطلب من المُستَعمَر أن ينظر بعين الشكر والاحترام تجاه جلاديه. وعليه أيضاً، ينبغي عدم استقبال المطالب ضيقة الأفق والمُهينة لتغيير المناهج الفلسطينية أو تغيير القوانين الفلسطينية لتتوافق مع تعريف إسرائيل للمقبول بصدرٍ رحب.

كما ينبغي على الفلسطينيين أيضاً الإصرار على أن إدارة بايدن تؤيد حقيقة أن الطريق الوحيد المقبول والطبيعي نحو تحقيق السلام هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة ومتصلة. فالطريق نحو هذا الهدف هو القانون الدولي، وليس الإملاءات الإسرائيلية، مما يعني رفض ومواجهة أجندة إسرائيل المتمثلة في تجاوز الحدود الإقليمية والاستيلاء على الأراضي وإنكار حقوق الفلسطينيين.

وأخيراً، يجب ألا يقتصر الانخراط الفلسطيني في الولايات المتحدة على البيت الأبيض والكونغرس، حيث أظهرت السنوات الأربع الماضية لجميع المراقبين أن التغيير في الولايات المتحدة يحدث من الأسفل إلى الأعلى. فقد بات الناخبون الأمريكيون أصغر سناً وأكثر تنوعاً وأكثر تأييداً للفلسطينيين. ففلسطين قضية شاملة يدعمها دعاة العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والعدالة البيئية، من بين قضايا أخرى. وعليه، يجب على الفلسطينيين ألا يخجلوا من إشراك هؤلاء الحلفاء، بدلاً من ذلك، يجب عليهم الابتعاد عن النهج القديم الذي أدار العلاقات مع الولايات المتحدة بالطريقة التي تُدار بها العلاقات مع الأنظمة غير الديمقراطية. فقد أثبت هذا النهج فشله الذريع، بل حان الوقت لتعدّل القيادة الفلسطينية مسارها.

وفي نهاية المطاف، تعتمد الطريقة التي ستتعامل بها إدارة بايدن القادمة مع القضية الفلسطينية على الاستراتيجية الفلسطينية بقدر ما ستعتمد على الديناميكيات الأمريكية الداخلية والمصالح الأمريكية. وفي الوقت الراهن، لا تؤدي عدم قدرة القيادة الفلسطينية على تعديل وإعادة صياغة نهجها في العلاقات مع الولايات المتحدة سوى لاستياءٍ عميق وإحباطٍ في أوساط الفلسطينيين.