وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الشعر والغناء كأدوات لدفع عجلة التغيير في مصر

Ahmed Fouad Negm
Tالشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم يحشد الحاضرين خلال لقاءٍ جماهيري نظمته حركة المعارضة “كتاب وفنانون من أجل التغيير” في ساحة رئيسية بالقاهرة يوم ٢ أغسطس ٢٠٠٥. المصدر: AFP/ CRIS BOURONCLE.

بصورةٍ مشابهة للحركة الفكرية والفلسفية التي هيمنت على عالم الأفكار في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، يرى البعض أن عجلة التغيير في العالم العربي لم تطوى وإن النهضة العربية ما تزال حيّة وتنبعث من رحم الشعر والغناء العربي.

في المدونة التالية، يسلّط يوسف شرقاوي الضوء على ما لعبه الشعر والغناء من دورٍ حيوي في دفع عجلة التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر على امتداد القرن الماضي.

يوسف شرقاوي

مَن الذي يطرح الثورة؟ من أيّ رحمٍ تولَد؟ إنّ أكثر مَن يعرف الإجابة عن هذا السؤال هم المصريّون، أصحاب الثورات الكثيرة في العصر الحديث، بدءاً من ثورة عرابي عام ١٨٨١، إلى ثورة ١٩١٩، من ثم ثورة ١٩٥٢، وثورة ١٩٧٢، وصولاً إلى ثورة يناير ٢٠١١.

كان الشعر – بنوعيه: العامي والفصيح – سواء غُنِّيَ أم لا، عنصراً أساسياً مقروناً بالثورة على الدوام، وربما كان في بعض الأحيان هو المحرّك الأول للثورة، فالشاعر – كما يصفه الشاعر المصري “أمل دنقل” – هو “ثورة في حدّ ذاته، والشعر ثورة دائمة. متابعة الناس للشعر تخلّف داخلهم ثورة”.

ويضيف أمير شعراء الرفض، “أمل” – المُلقَّب بمن استطاع أن يحفظ ضمير الشعب – أنه “ما دام الواقع موجوداً فستظلّ الثورة مستمرّة، وستنجب شعراءها وكتّابها ومقاتليها”.

كانت كلّ ثورة من الثورات المصريّة تلتهب بالشعر/ الكلمة، التي بدورها تصير فعلاً، فليس عجيباً إذن أن نرى في يناير ٢٠١١ مقطعاً من قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” لأمل دنقل مرسومة على الجدران بفن الغرافيت: “فخلف كل قيصرٍ يموت، قيصرٌ جديد”. القصيدة التي مطلعُها:

“المجدُ للشيطان، معبود الرياح
مَن قال “لا” في وَجْه مَن قال “نعمْ”
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال “لا” فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ”.

يشهد ميدان التحرير على ذلك التوأم بين الكلمة والفعل، الكلمة والصرخة، ولا تخلو شوارع القاهرة من تلك الحماسة الموجودة منذ ثورة “عرابي”، وشعر “محمد سامي البارودي”، إلى أزجال “بيرم التونسي” في ١٩١٩، ومنها:

“يا مصري ليه ترخي دراعك والكون ساعك
ونيل جميل حلو بتاعك يشفي اللهاليب
خلق الهك مقدونيا على سردينيا
والكل زايطين في الدنيا ليه انت كئيب”.

من ثم إلى صرخات “صلاح جاهين” وقد غنّى “عبد الحليم حافظ” بعض قصائده مثل: إحنا الشعب. وهناك “فؤاد حداد” في ١٩٥٢، وإلى أن نصل ل “أحمد فؤاد نجم” (١٩٢٩ _ ٢٠١٣) في مطلع السبعينات. ولا شكّ أنّ اسم “الشيخ إمام عيسى” (١٩١٨ _ ١٩٩٥) يُذكَر فور ذكر “نجم”، فقد كانا توءم الكلمة/ الصوت، وكلاهما عصيٌّ على الترويض – كما تقول الصحفية فريدة النقاش عنهما.

منذ كوّن الاثنان شراكتهما بذلت السلطات جهدَها لضمّهما إلى صفوفها، يروي “الشيخ إمام” الحكاية بصوته: “بعثوا لنا بمندوب من وزارة الثقافة (أي له ولأحمد فؤاد نجم) ليتفاهم معنا في أن يأخذوننا إلى أجهزة الإعلام لنقدّم أعمالاً للإذاعة والتلفزة، أنا من جانبي كنتُ رافضاً رفضاً قاطعاً التعامل، فأصرّ نجم على أننا لا بد أن نتعامل مع الإعلام حيث أننا سنوصل كلمتنا”.

لم تستطع السلطات شراءهما بالمال، امتنعا عن العمل بعد عرض رشوة عليهما، فضمّتهما الصفوف اليساريّة إليها بعد ذلك، وكانا داعمَين للحركة الطلابيّة التي بدأت حراكها عام ١٩٧٢ ضدّ سياسة “أنور السادات“.

يروي أحد قادة تلك الحركة أنّ “الشيخ إمام” – الذي كان ضريراً – رفض أن يبقى خارج الجامعة بعد أن وجدوا أبوابها مغلقة، فطلب أن يدخلوه بأي طريقة، فرفعوه عبر السور.

بدأ الاعتصام في كليّة الهندسة في جامعة القاهرة، كان معظم الحاضرين قد أتوا لمشاهدة “إمام” و “نجم” الذي بدأ يلقي قصائده. بعد أن اقتحمت القوّات الجامعة بالقوة، خرج الطلبة إلى ميدان التحرير، اعتُقِل أغلبهم، وعلى رأسهم ثنائي الكلمة/ الصوت.

في المعتقل كُتِبَت أغانٍ جديدة، مثل: “أنا رحت القلعة وشفت ياسين، حواليه العكسر والزنازين”، التي ما تزال في الذاكرة الشعبيّة المصريّة، وقبلها: “رجعوا التلامذة يا عمِّ حمزة للجدِّ تاني

يا مصر إنتِ اللي باقية
وإنتِ قطف الأماني”.

كذلك، لا يُغيَّب الأدباء المصريين عن المشهد. كانت مصر آنذاك رقبةً واحدة تواجه سيّافَها، طلاباً وعمالاً وغلابة ومثقفين، لذا كتب بعض كبار الأدباء بياناتٍ تؤيد اعتصام الطلاب وتطالب بالإفراج عنهم، ومنهم: نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، حسين فوزي، ثروت أباظة، وغيرهم. وقد أُفرِجَ عن الطلاب بعدها.

من الشعراء الذين شاركوا داخل السجن في تلك المرحلة أيضاً: زين العابدين فؤاد، محمد سيف، نجيب شهاب الدين، فؤاد قاعود، وغيرهم كثيرون.

“لازم الثورة يكون لها فنها، لها صوتها”. يقول “شوقي الكردي”، أحد قادة الحركة الطلابية في السبعينات، وقد شارك “إمام” و “نجم” سجنهما.

ما تزال الشوارع المصرية خير شهيد على ألق تلك المرحلة من بلد الثورات الممتدّة أكثر من قرنٍ قبل اليوم. فما دام الواقع موجوداً يؤكّد المصريّون – شعراء ومواطنين – أنّ الثورة ستظلّ مستمرّة، وما زال السؤال يتردد في الحناجر منذ السبعينات: “مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟”.

سيبقى الجواب واحداً: لا أحد.

ذلك هو الشعر كما يعرّفه “دنقل”. إنه إعادة اكتشاف العالم المحيط بك – كثيراً ما كان هذا العالم سجناً عند المصريين – ثمّ إعادة بنائه كما يجب أن يكون. لأنّ القصور التي شُيِّدَت على المزارع، هي لا بدّ بُنيَت من كدّ الغلابة وعرق أيديهم، كما يصدح “الشيخ إمام”، بعينين مغمضتين.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.