وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

في مشكلات الشرعية الفلسطينية

الشرعية الفلسطينية
المشرعون الفلسطينية أثناء تواجدهم في الجلسة الأولى التي يعقدها المجلس التشريعي الفلسطيني الجديد في مدينة غزة يوم ١٨ فبراير ٢٠٠٦. المصدر: MOHAMMED ABED / AFP.

ماجد كيالي

ثمة في الساحة الفلسطينية أربع شرعيات، الأولى وهي “الشرعية الثورية”، المتأتية من “عصر الجماهير” في حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ومصدرها الرأي العام الفلسطيني الذي وجد في انطلاقة الكفاح المسلح، وتضحيات وبطولات الفدائيين، محاولة لترميم روحه، وكيانيته المتخيّلة، وتحقيق آماله. والمشكلة أن تلك “الشرعية” مازالت تعمل، وفق نظام المحاصصة الفصائلية (“الكوتا”)، رغم انتهاء مفاعيلها ومعانيها، ورغم تقادم وأفول معظم الكيانات السياسية المتشكلة منها.

أما الثانية، فهي الشرعية التمثيلية، التي مصدرها الشعب، كما تتجسد في صناديق الانتخابات، وهذه تمت بعد إقامة الكيان الفلسطيني، الناشئ وفق اتفاق أوسلو (1993)، لذلك فهي مثل ذلك الاتفاق شرعية جزئية ومنقوصة، لأنها شرعية متأتية من جزء من الشعب فقط على جزء من الأرض، وفق حقوق مقيدة. وهذه أيضا انتهت إطاراتها الزمنية من الناحية القانونية، وهذا ينطبق على مكانة الرئيس ومكانة المجلس التشريعي إذ انقضى على انتخابهم أكثر من عشرة أعوام؛ علما أن تلك الشرعية فرضت من الخارج، أي أنها لم تأت كنتيجة تطور في الحركة الوطنية الفلسطينية أو في فكرها السياسي.

أيضا، ثمة شرعية ثالثة، وهي المنبثقة من القيادة الفلسطينية ذاتها، إذ تقوم قيادة منظمة التحرير، ورغم أنها غير منتخبة مباشرة من الشعب، بتشكيل هيئات تضفي عليها شرعية معينة، مستغلة مكانتها، ومستقوية بالشرعية الدولية والعربية التي تحظى بها، وهذا ينطبق على رئاسة السلطة، التي تقوم بذات العملية، في ظل حال الفراغ في الشرعيات، وتغييب الأطر التشريعية الفلسطينية (المجلس الوطني والمجلس التشريعي)؛ ما يعني أن لدينا حالة تبدو فيها القيادة الفلسطينية وكأنها تنتخب ناخبيها، أو تحدد الناخبين الذين يجددون بدورهم شرعيتها! ومثال ذلك المجلس المركزي الفلسطيني الذي بات يحل محل المجلس الوطني.

الشرعية الرابعة والأخيرة هي الشرعية الفصائلية، وهذه بدأت تشتغل بعد انحسار مكانة منظمة التحرير كمرجعية لكل الفلسطينيين، وتبعا للانقسام الحاصل في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، بين الحركتين الرئيستين (“فتح” و”حماس”)، وانقسام النظام السياسي بين سلطتي الضفة وغزة. فمع أن هاتين الحركتين تتنازعان على مكانة الشرعية والمرجعية والقيادة عند الفلسطينيين إلا أن كل فصيل فلسطيني، مهما كان حجمه، وشكله، ودوره، يتمسك بنظام المحاصصة، وفوقها يدعي، أيضا، انه يمتلك شرعية، وأنه يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، من القيادة العامة وفتح الانتفاضة إلى جبهات التحرير والنضال والعربية وحزبي الشعب وفدا!

فوق كل ذلك لدينا في الساحة الفلسطينية نظامين سياسيين، واحد يتمثل في منظمة التحرير، أو ما تبقى منها، وهذا يفترض فيه انه يمثل كل الشعب الفلسطيني، وانه يرمز الى وحدة قضية الفلسطينيين. والثاني يتمثل في السلطة القائمة في الأراضي المحتلة (1967)، وهي خاصة بفلسطينيي الضفة وغزة. المشكلة في النظام الأول انه مازال يعمل رغم تهميش المنظمة، وعدم تجديد هيئتها التشريعية، وهي المجلس الوطني، الذي لم يعقد اجتماعا له، منذ ثلاثة عقود، إلا مرتين، الأولى في 1996 (الدورة 21)، والثانية في العام 2018 (الدورة 23)، في حين الدورة 22 لعام 2009 خصصت فقط لملء الفراغ في اللجنة التنفيذية).  والأهم من كل ذلك أن المنظمة بدلاً من أن تكون مرجعية السلطة باتت السلطة مرجعية لها، سيما أن الأولى باتت تعتمد في مواردها المالية على الثانية، وأن الرئيس يستمد سلطته من مكانته في السلطة أكثر مما يستمدها من مكانته كرئيس للمنظمة. وعموما لنا في مشهد المجلس المركزي الذي قرر وقف التنسيق الأمني (أذار/مارس 2015) مثالا على ذلك إذ بقي هذا القرار حبرا على ورق طوال خمسة أعوام (تم تنفيذه في مايو الماضي ردا على خطة صفقة القرن)، أي كان نصيبه مثل القرار الصادر عن ذات المجلس قبل سبعة أعوام (2009) والقاضي بتنظيم انتخابات تشريعية في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي لم يحصل حتى الآن.

أما النظام الثاني، والمتمثل بالسلطة في الضفة والقطاع، فهي انقسمت على ذاتها بين الضفة وغزة، بسبب الخلاف والتصارع بين حركتي “فتح” و”حماس”. والمشكلة أن هذه السلطة تشتغل وفقاً للقيود أو المعايير الإسرائيلية، لاسيما المحددة في اتفاق أوسلو، وضمنها اتفاقية التنسيق الأمني، والاتفاق الاقتصادي، علما أن السيادة مازالت في يد إسرائيل، على الأرض والمياه والكهرباء والعملة والتبادلات التجارية والمالية والمعابر والأجواء والمياه الإقليميتين؛ وحتى رئيس السلطة يحتاج الى تنسيق في تحركاته في الداخل، كما من وإلى الخارج.

بيد أن معضلة الشرعية عند الفلسطينيين لا تتوقف على ذلك إذ أن ما يفاقم مشكلتها أنها مرتبطة، أصلا، بأفول المشروع الوطني الفلسطيني، وإخفاق الخيارات السياسية التي أخذتها حركتهم الوطنية على عاتقها، مع تزايد شعورهم بالضياع، والافتقاد الى مرجعية في كل ما يتعلق بأوضاع مجتمعاتهم، في الأراضي المحتلة (48 و67) وفي بلدان اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر، وبلدان الشتات.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن ثمة معضلة في الشرعية الفلسطينية، في معناها ومبناها، وأن القيادة الفلسطينية، أو الطبقة السياسية السائدة، منذ حوالي نصف قرن، لا تشتغل على أساس أنها تدرك مخاطر هذه المعضلة، وضمنه المخاطر المتأتية من تآكل الشرعيات الفلسطينية، الثورية والتمثيلية والفصائلية، بانتهاء زمن الكفاح المسلح وأفول الزمن الفصائلي، وتحول حركة التحرر إلى سلطة، ومع عدم تجديد المجلسين الوطني والتشريعي.

السؤال الآن، هل تفتح، أو هل تمهد، الانتخابات التشريعية لولاية شرعية القيادة؟ إم إننا سنبقى مع شرعيات مهزوزة ومتآكلة؟

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.