وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التوجهات الإستراتيجية الروسية في سورية

التوجهات الإستراتيجية الروسية
صورة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه بالرئيس السوري بشار الأسد في الكرملين في موسكو في 13 سبتمبر 2021. Mikhail KLIMENTYEV / SPUTNIK / AFP

غازي دحمان: كاتب ومحلل سياسي، مختص بالشأن السوري والشرق أوسطي.

تتعامل روسيا مع الحالة السورية بوصفها فرصة جيو استراتيجية نتجت عن المتغيرات الحاصلة في النظام الدولي، وجراء السياسات التي اتبعتها النخب الروسية الجديدة في البحث عن دور لروسيا في النظام الدولي، وتشكّل سوريا في هذا السياق مؤشراً على فعالية روسيا وموقعها في سلم القوّة العالمي.

وتشكّل قاعدة طرطوس أبرز ملامح النفوذ الروسي الخارجي، حيث تمنحها سيطرة وتأثير على منطقة واسعة تمتد إلى أوروبا، من خلال قدرة قاذفاتها الإستراتيجية على التحرك والرصد، بالإضافة إلى تأثيراتها على الجناح الجنوبي لحلف النات و، حيث يمنحها قربها من قواعد الحلف في تركيا هامش مناورة جيد يوازن قوّة الناتو الذي يسعى لإطباق السيطرة على روسيا من الغرب، عبر دول أوروبا الشرقية، ومن جنوبها عبر إحداث تغييرات في دول أسيا الوسطى.

تحاول روسيا إدارة توازنات معقدة في الأزمة السورية، من خلا إعادة تأهيل النظام السوري دولياً، وإضعاف تأثيرات القرارات الدولية، وخاصة قرار مجلس الأمن 2254 وتشكيل سياق جديد لعملية السلام السورية، بين النظام والمعارضة، يضمن بقاء النظام مع إحداث بعض الإصلاحات التي تسمح بدخول المعارضة إلى بنية النظام من دون التأثير على قوّة النظام التقريرية، وذلك بسبب عدم ثقتها بالمعارضة، حيث اعتبرتها منذ بداية الأزمة صناعة غربية، ومن شأن استلامها السلطة وضع مصالح روسيا، وخاصة في قاعدة طرطوس في خطر، وبالتالي المغامرة بالأصول العسكرية والاستثمارات الروسية في سورية.

غير أن روسيا، بنفس الوقت، تسعى لإيجاد مخارج تمنحها القدرة على عدم الوقع في المستنقع السوري، وهو هدف طالما سعت له روسيا، التي تدرك ان سورية المعزولة والمدمرة، وبدون عملية إعمار وإعادة تنشيط اقتصادها، الذي تجاوزت خسارة ترليون دولار حسب أخر الإحصائيات، ستصبح عبئاً على روسيا التي لا تملك موارد كافية لانجاز عملية الإعمار بدون مساهمات إقليمية ودولية.

وفي إطار إستراتيجيتها الهادفة إلى دفع المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، إلى إعادة تقييم الموقف من النظام السوري، عملت روسيا على فتح قنوات تفاوض بين النظام وإسرائيل، شملت حتى اللحظة، إعادة رفات جنود إسرائيليين قتلوا في حرب لبنان الأهلية عام 1982، وكذلك الإفراج عن أسرى لدى الطرفين في الآونة الأخيرة، وقد أظهرت روسيا كفاءتها في هذا المسار، وأثبتت أن لديها تأثير على النظام السوري الذي يتهمه المراقبون بالوقع تحت الهيمنة الإيرانية، وبالتالي لا يستطيع التفاوض مع إسرائيل إلا بالحدود التي تقوّي أوراق إيران الإقليمية، وتدعّم ما يسمى “حلف المقاومة” الذي تنخرط فيه إيران و”حزب الله” والنظام السوري”، ويبدو ان روسيا تخطط لتطوير هذه المفاوضات الجزئية إلى مفاوضات سلام شاملة بين النظام السوري وإسرائيل، فقد تسربت أنباء عن اجتماع تم عقده في قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية بين ضباط أمنيين سوريين وإسرائيليين جرت خلاله فحص إمكانية إجراء مفاوضات مستقبلية بين الطرفين.

تقوم التصورات الروسية في هذا المجال، على أن تحقيق سلام سوري إسرائيلي سيعزّز من نفوذ روسيا الإقليمي، ويمنحها تأثيرات إضافية بصفتها طرفاً دولياً فاعلاً ومؤثراً في ملفات المنطقة الأمنية والسياسية، وخاصة في ظل تراجع فعالية الولايات المتحدة الأمريكية في ملفات المنطقة نتيجة تراجع أهمية الشرق الأوسط في حسابات الإدارات الأمريكية.

غير أن روسيا تواجه عدّة معضلات في مشروعها الجيوسياسي الشرق أوسطي، الذي تمثل سورية، وقاعدة طرطوس أبرز أركانه، تتجسد في المشكل اللوجستي، إذ أن طرق الوصول إلى طرطوس تمر عبر مضيق البوسفور، حيث تعبر جميع إمدادات الأسلحة والوقود اللازم لتشغيل طائراتها، والغذاء الذي يحتاجه جنودها في سورية، وتدرك ان تركيا، القادرة على إغلاق المضيق، بدواع سيادية، او في حال استغلال بعض البنود القانونية التي تسمح لها بإغلاق المضيق أمام أي حركة عبور تشكل خطراً على امن المضيق، قد تحاول فعل ذلك في حال الضغط عليها من قبل روسيا في سورية، او ربما في الملفات التي تشترك معها في مناطق أخرى، ومبدئياً، قامت روسيا بتخزين كميات كبيرة من الأسلحة في سورية، غير أن ذلك غير كاف، في ظل عدم امتلاكها أسطول شحن جوي يؤمن لها البديل في حال إغلاق مضيق البوسفور.

ما يعزّز من الهواجس الروسية تجاه تركيا، حالة عدم الثقة بين الطرفين، واحتمال عودة تركيا إلى التنسيق والتوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، وخططه في إعادة تفعيل دور حلف الناتو، وإعادة التقييم التي تجريها إدارته لأهمية العلاقات مع تركيا.

ومن المعضلات الأخرى أيضاً، المساومة على تحقيق السلام في سورية، مقابل الحصول على تنازلات اقتصادية وسياسية من الغرب، وخاصة على صعيد تمويل مشروع الإعمار، وقد برز ذلك جلياً في موضوع إعادة اللاجئين، فرغم الدعوة الروسية المتكررة، ورعايتها لمؤتمر اللاجئين الذي عقد في دمشق أواخر العام الماضي، إلا أن السلوك الروسي أثبت افتقاره إلى الجدية والحزم في هذا الملف، واستثماره في سياق ابتزاز أوروبا والغرب.

تراهن روسيا على إضعاف خيارات الغرب في سورية، ودفعهم إلى تبني تصوراتها في الحل السوري، غير أن قدرة روسيا على تحقيق ذلك تبدو مشكوك بها في ظل تردي الأوضاع الإقتصادية في سورية وانخفاض قدرتها على المساعدة، الأمر الذي قد يدفعها إلى تطوير إستراتيجيتها في المرحلة، بانتظار معرفة توجهات إدارة بايدن تجاه سورية.

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.