وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أمن واستقرار تركيا بين مطرقة نزعة إردوغان السلطوية وسندان المسألة الكردية والجماعات الجهادية

Translation- Turkish flag
رجل يمر بقرب مبانٍ متضررة تم وضع الأعلام التركية عليها في موقع التفجير الذي وقع في حي فيران شيهر بمدينة سانلي أورفا يوم 18 فبراير 2017. المصدر: AFP.

نشر مركز الدراسات الأمنية في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا مقالة معمقة حول الآثار بعيدة المدى التي قد تترتب على أمن واستقرار تركيا نتيجة ما تشهده هذه البلاد من تطوراتٍ أخيرة ومنها تنامي النزعة السلطوية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان واشتعال فتيل المسألة الكردية وما تفرضه الجماعات الجهادية من تهديدات على هذه الدولة. ويحاول فابيان ميرز، الباحث المعروف في فريق الدراسات الأمنية السويسرية والأورو-أطلسية التابع لمركز الدراسات الأمنية في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيوريخ، الإجابة في مقالته على أسباب وقوع مثل هذه التطورات الحاصلة وما يحمله المستقبل لتركيا واستقرارها.

ويبدأ ميرز، مؤلف كتاب “التعامل مع الجهاديين العائدين: تحدٍّ صعب”، مقالته بالإشارة إلى موقع تركيا في نقطة التقاء القارة الأوروبية بنظيرتها الآسيوية من النواحي الجغرافية والسياسية والثقافية. وتعتبر تركيا من الاقتصادات الناشئة ومن الدول الأعضاء في مجموعة العشرين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وحلف “الناتو”، ناهيك عن كونها من الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وبحسب ما يراه صاحب المقالة، فإن الموقع الجغرافي الذي تتمتع به تركيا لا يتيح لها لعب دور أساسي في المنطقة فحسب، بل أنه يفرض أيضاً على أوروبا والغرب إبداء اهتمامٍ استراتيجي باستقرار هذه الدولة. وعلى هذا النحو، تشدّد تركيا بقوّة على ما تحظى به من نفوذ في الحرب الأهلية الدائرة في الجارة سوريا، بالتزامن مع لعبها لدورٍ حاسم في إدارة تدفقات اللاجئين، وفي الحرب العالمية ضد الإرهاب، وفي أمن الجناح الجنوبي الشرقي من حلف الناتو.

وقبل عقدٍ من الزمن، بدا وكأنّ حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب إردوغان، رئيس الوزراء التركي حينذاك، وهو حزبٌ محافظ اجتماعياً يجمع بين جذوره المستوحاة من الإسلام السياسي وليبراليته في القضايا الاقتصادية، قد نجح في مصالحة هويةٍ مسلمة سنية صريحة مع المؤسسات البرلمانية والمبادئ الديمقراطية والمواقف الموالية للغرب. إلا أن حدود هذا النهج باتت واضحة المعالم بحلول صيف عام 2013، وذلك في أعقاب حملة القمع العنيفة التي تم من خلالها مواجهة احتجاجات منتزه “غيزي” ضد ميول إردوغان السلطوية المتنامية وسياساته التي بات ينظر إليها بشكلٍ متزايد على أنها تزحف باتجاه الأسلمة.

ومنذ ذلك الحين، فقد تكثفت النزعة السلطوية لإردوغان بالفعل. وفي خضم التوترات السياسية ومعاناة المجتمع التركي بشكلٍ متزايد من حالة الاستقطاب، فقد واجهت الدولة محاولةً فاشلة لتنفيذ انقلابٍ عسكري في يوليو 2016. وردّت الحكومة بـ”عمليات تطهير” واسعة النطاق كان لها أيضاً أثر على أجزاءٍ كبيرة من القوات الأمنية. وتزامن كل ذلك مع انتشار الإرهاب الجهادي داخل تركيا الذي امتد من الحرب الأهلية السورية. وعلاوةً على ذلك، فقد عاود النزاع الكردي التصاعد بشكلٍ كبير منذ منتصف عام 2015. وبحسب ميرز، فقد ساهمت جميع هذه الأحداث في إحداث تدهورٍ كبير على مستوى الاستقرار والأمن في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية. وعلى ذلك، يقوم ميرز في الأقسام المقبلة من المقالة بإلقاء نظرة عن كثب على العوامل الكامنة وراء هذا التطور، بالتزامن مع التركيز بشكلٍ خاص على آثار هذا التطور على الوضع الأمني داخل تركيا.

منعطف سلطوي

بعد صعود حزب العدالة والتنمية والمشارك في تأسيسه إردوغان إلى سدّة الحكم عبر الانتخابات الديمقراطية التي جرت في عام 2002، بدأت تركيا بتطبيق سلسلة إصلاحاتٍ قادت إلى إحداث نمو اقتصادي كبير وترسيخ المبادئ الديمقراطية، وذلك بالتزامن مع وجود موقفٍ موالٍ للغرب في الدولة. وبدأت المفاوضات الرسمية لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2005 بين أنقرة وبروكسل.

وبحسب ما يراه صاحب المقالة، فإن التصدعات التي شهدتها هذه الصورة الجديدة لتركيا ظهرت للمرة الأولى في عام 2008، حيث كشف حينها ما تم تنفيذه من موجات اعتقالٍ ومحاكماتٍ للمعارضين السياسيين أثناء مواجهة نزاعات السلطة الداخلية عن انجراف إردوغان نحو الاستبداد والنزعة السلطوية. بيد أن نقطة التحوّل الحقيقية كانت في صيف عام 2013 حين ردّت الحكومة بعنف على احتجاجات منتزه “غيزي”. وركزّت هذه التظاهرات بصورةٍ أولية على حماية المساحات الخضراء الموجودة في إسطنبول من المشاريع الإنشائية، إلا أنها حجمها سرعان ما تطور بشكلٍ كبير لتتحوّل بشكلٍ متزايد ضد شخص إردوغان نفسه وضد توجهاته السلطوية، فضلاً عمّا انتهجه إردوغان من سياسة أسلمةٍ تدريجية. وتم توجيه التحذيرات للحكومة التركية بسبب ما تقوم به من قمعٍ للاحتجاجات، بما في ذلك التحذيرات الصادرة عن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. وعلى إثر ذلك، فقد قامت بروكسل قامت بتعليق محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

ومنذ ذلك الحين، باتت توجهات حكومة إردوغان وحزب العدالة والتنمية الرامية إلى تقويض المعايير الديمقراطية وإسقاط المبادئ العلمانية المكفولة في الدستور التركي ذات طبيعةٍ ممنهجة. وقامت حكومة إردوغان، من بين أمورٍ أخرى، بزيادة الضغط على الجهات الفاعلة في المجتمع المدني ووسائل الإعلام، حيث حدّت بصورةٍ دورية من القدرة على الوصول إلى العديد من وسائل الإعلام الاجتماعي، بالتزامن مع إقرار قوانين زادت من تآكل الآليات الدستورية بهدف السيطرة على السلطة التنفيذية وأيضاً على المبادئ العلمانية. ودفعت هذه التطورات الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا للإشارة في قرارٍ صدر في يونيو 2016 للإشارة إلى أن التطورات الأخيرة التي شهدتها في تركيا والتي حدّت من حرية وسائل الإعلام والتعبير، وقوّضت حكم القانون، وما يوازيها من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان أثارت تساؤلاتٍ جدية حول عمل المؤسسات الديمقراطية للدولة.

وبحسب ما يراه ميرز، فإن هذه التطورات تزيد بشكلٍ كبير من حالة الاستقطاب التي يعيشها الشعب التركي. ويحظى إردوغان بدعم الطبقات الريفية المتدينة التي غالباً ما تعاني من مستوياتٍ أعلى من الفقر، في حين تقوم المراكز الحضرية الساحلية التي تعتبر بصفةٍ عامة أكثر علمانية، وإلى جانبها أغلبية الأكراد، بمعارضة سياساته بشكلٍ قوي. وأتاح دعم المناطق الريفية لحزب العدالة والتنمية وإردوغان فوز الحزب وزعيمه في الانتخابات الحاسمة، وإن كان ذلك في بعض الأحيان بهوامش بسيطة. ويندرج في هذا الإطار الفوز بالانتخابات البرلمانية في عام 2011، والانتخابات المبكرة التي جرت بعد انتخابات عام 2015، بالإضافة إلى الاستفتاء المثير للجدل على الدستور في عام 2017.

كما كانت هناك صراعات متكررة على السلطة بين مختلف مجموعات المصالح داخل الدولة التركية – بما في ذلك ذاك الصراع الدائر بين حزب العدالة والتنمية وحليفته السابقة حركة غولن الإسلامية، التي كانت تحظى بجذورٍ راسخة في الأنظمة القضاية والتعليمية في تركيا. وردّ حزب العدالة والتنمية بفصل واعتقال معارضيه السياسيين، سواءً أكان ذلك داخل هياكل الدولة أو خارجها.

محاولة الانقلاب وعواقبها

Translation- Recep Tayyip Erdogan
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يعقد مؤتمراً صحفياً في المقاطعة الرئاسية بالعاصمة التركية أنقرة. المصدر: AFP.

وفي هذا المناخ المحلي الذي تميّز بالصراعات الداخلية على السلطة وحالة الاستقطاب المتنامية في المجتمع، وقعت محاولة الانقلاب في ليلة 15 يوليو 2016. وألقت الحكومة باللوم على حركة غولن في محاولة الانقلاب. وردّ حزب العدالة والتنمية الحاكم وإردوغان بحملة اعتقالاتٍ جماعية لمن اشتبه بتعاطفهم مع حركة غولن في الإدارة العامة، والنظام القضائي، وداخل الجيش والقوات الأمنية. وفي غضون بضعة أيام، تم إما تعليق عمل أو اعتقال عشرات الآلاف من موظفي الدولة – علماً بأن معظمهم كانوا من الجنود، وضباط الشرطة، والقضاة، والمدعين العامين في الدولة. ومن بين الذين تم اعتقالهم وتسريحهم من الخدمة أيضاً ما يزيد عن 160 من الأميرالات والجنرالات – وهو ما يصل إلى قرابة نصف عدد الضباط العاملين من أصحاب هذه الرتب العسكرية. وبالإضافة إلى ذلك، وبموجب شروط حالة الطوارئ التي تم الإعلان عنها حديثاً، فقد تمت إقالة حوالي 120 ألف شخص من وظائفهم، بالتزامن مع اعتقال حوالي 40 ألف شخص بحلول إبريل من عام 2017. ويشير المراقبون إلى أن الحكومة استخدمت أيضاً محاولة الانقلاب لتمرير إجراءات أكثر صرامة في مواجهة المعارضين السياسيين ومنتقدي الحكومة الذين لم يشاركوا في محاولة الانقلاب التي تم إفشالها.

وإلى جانب ما أفرزته محاولة الإنقلاب من آثارٍ مزعزعة وتأثيرها على تشديد النهج القمعي الذي تنتهجه الحكومة، فإن “موجات التطهير” داخل صفوف القوات الأمنية تحظى بأهميةٍ خاصة بالنسبة للوضع الأمني في تركيا، خاصةً وأنها تعيق قدرة الدولة التركية على التعامل بصورةٍ ملائمة مع تحديات السياسة الأمنية الأخرى التي تواجهها الدولة. وفي هذا الصدد، فقد بات الإرهاب الجهادي القادم من الحرب الدائرة في سوريا ومن النزاع الكردي، والذي تصاعد مرة أخرى ليتحوّل إلى حالة قتالٍ مفتوح، من الأمور المثيرة للقلق بشكلٍ خاص.

تركيا وتنظيم “الدولة الإسلامية”

يرتبط أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها تركيا حالياً على مستوى السياسة الأمنية بالميليشيات الجهادية التي تقاتل في الحرب الدائرة في سوريا. وتم توجيه اتهامات واسعة، بصورةٍ خاصة حتى منتصف عام 2015، بدعم تركيا للميليشيات الجهادية الموجودة في سوريا إما بطريقةٍ سلبية أو بطريقةٍ نشطة كما كان عليه الحال في بعض الحالات المحدّدة، وتتضمن هذه الاتهامات دعم تنظيم “الدولة الإسلامية“. وتراوحت الاتهامات بين توفير الإذن الضمني بتمرير ما يتم تقديمه من تعزيزاتٍ على مستوى الأفراد والعتاد عبر الحدود وشراء النفط الذي يستخرجه تنظيم “الدولة الإسلامية” للحصول على إمدادات أكثر فاعلية من الأسلحة والمواد.

ومن الصعب في الوقت الحالي تقييم مدى صحة هذه الاتهامات بصورةٍ مستقلة. ومع ذلك، قد يعود الدعم التركي للمليشيات الجهادية بشكلٍ أو بآخر إلى ضرورات أنقرة الاستراتيجية في سوريا. وبحسب ميرز، فقد كان هناك تقارباً لا يمكن نكرانه منذ عام 2013 فصاعداً بين مصالح تركيا في سوريا وتلك الخاصة بالميليشيات الجهادية. ويرى ميرز أن ذلك حصل على الأقل في بعض المناطق، وبشكلٍ خاص في المراحل الأولى من الحرب الأهلية السورية. وعلى سبيل المثال، فقد خاض تنظيم “الدولة الإسلامية” قتالاً مريراً في مواجهة الأكراد السوريين شمالي سوريا بالقرب من الحدود التركية. وفي خضم الفوضى التي تتسم بها الحرب الأهلية، فقد تمكّن الأكراد السوريون من السيطرة سريعاً على المناطق التي يشكلون فيها الأغلبية، معلنين عن فرض منطقة حكم ذاتي على الأرض في منطقة روجافا وعلى طول الحدود التركية (يرجى الإطلاع على الخريطة). وتنظر أنقرة إلى أقوى الميليشيات الكردية السورية وهي وحدات حماية الشعب “YPG” ووحدات حماية المرأة “YPJ”، باعتبارها امتداداتٍ لحزب العمال الكردستاني، وعلى هذا النحو فهي تعتبر جماعات إرهابية. لذلك، وعلى أساس الاعتبارات المرتبطة بالقضية الكردية في تركيا، فقد كان على رأس أولويات تركيا إضعاف أكراد سوريا قدر الإمكان. ومنذ عام 2013 فصاعداً، استطاعت الجماعات الجهادية، ومن ضمنها تنظيم “الدولة الإسلامية”، بناء نفسها كقوة موازية لنظام بشار الأسد في معادلة الصراع السوري الدائر، والذي اتخذت تركيا موقفاً واضحاً منه منذ بداية الانتفاضة في عام 2011.

التحوّل: مسار التغيرات في تركيا

في البداية، جادلت السلطات التركية بأن المخاوف المرتبطة بالهجمات الانتقامية حالت دون اتخاذ موقفٍ أكثر صرامة تجاه تنظيم “الدولة الإسلامية”. وبصرف النظر عمّا إذا كانت الاتهامات الموجهة بتبني تركيا لسياسة عدم التدخل أو حتى التعاون مع الجهاديين أمراً صحيحاً أم لا، ينبغي علينا الإشارة إلى أن موقف تركيا تجاه تنظيم “الدولة الإسلامية” تصاعد بشكلٍ كبير منذ منتصف عام 2015. وقد يكون من الأسباب التي أدت إلى هذا التحوّل في الموقف التركي ما فرضته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من ضغوط على أنقرة لاتخاذ سياسة أكثر عدائية في التعامل مع تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وفي نهاية يوليو 2015، شنّت السلطات التركية غاراتٍ واسعة النطاق، ومن ضمنها تلك الغارات الموجهة ضد الشبكات الجهادية العاملة على أراضيها. ومنذ أواخر يوليو 2017، تم منح الولايات المتحدة الأمريكية الإذن باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية في إطار حملتها ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو الأمر الذي رفضته تركيا في البداية رغم أنها عضوٌ في التحالف الدولي ضد التنظيم منذ سبتمبر 2014. وعلاوةً على ذلك، فقد قامت تركيا في أغسطس 2016 بتنظيم تدخل عسكري شمالي سوريا – بصورةٍ رسمية لدحر تنظيم “الدولة الإسلامية” من المناطق التي يسيطر عليها على طول الحدود التركية. ومع ذلك، فقد أتاح ذلك التدخّل لتركيا، في الوقت نفسه، منع الأكراد السوريين من تكوين رابطٍ جغرافي بين المناطق التي تخضع لسيطرتها شمالي سوريا، وبالتالي إضعاف موقفهم في سوريا. (يرجى الإطلاع على الخريطة).

Translation- Turkish operation in Syria
العمليات العسكرية التركية في سوريا (مناطق السيطرة بحلول يناير 2017). المصدر: IHS.

تنظيم “الدولة الإسلامية” يوجه ضربة معاكسة

منذ صيف عام 2015 فصاعداً، قام تنظيم “الدولة الإسلامية” بالرد على موقف أنقرة الأكثر صرامة عبر زيادة عدد الهجمات داخل تركيا. وبصورةٍ مغايرة لعمليات التنظيم داخل الدولة، فإن هذه الموجة من الهجمات لم تكن موجهة بصورةٍ أساسية في أهدافٍ كردية أو مرتبطة بالأكراد، بل أنها استهدفت الدولة التركية والمجتمع التركي بشكلٍ مباشر وممنهج. وفي أكتوبر من عام 2015، تم تفجير قنبلة في أنقرة. وفي يناير ومارس من عام 2016، تعرّضت إسطنبول لهجمات انتحارية، وفي يونيو من نفس العام، تمت مهاجمة مطار أتاتورك في إسطنبول. وفي يناير من عام 2017، كان الهدف الذي تم اختياره أحد الملاهي الليلية الموجودة في إسطنبول. وأدّت هذه الحملة، التي شنها تنظيم “الدولة الإسلامية” وأسفرت عن مقتل وإصابة المئات وتزامنت بشكلٍ جزئي مع عمليات التطهير الواسعة للقوات الأمنية في مرحلة ما بعد محاولة الإنقلاب، إلى تدهورٍ كبير في الوضع الأمني في الدولة.

المسألة الكردية

أدى النزاع الكردي، الذي تفاقم في تركيا على مدى عقودٍ من الزمن، إلى فرض المزيد من الآثار السلبية على الوضع الأمني واستقرار الدولة. ومنذ عام 2013 فصاعداً، شهدت مباحثات السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني إحراز تقدّم أولي. وعلى الرغم مما تم تحقيقه من نجاحاتٍ في هذا المجال، فقد كان السلام هشاً للغاية. وتصاعدت التوترات من جديد عندما قام تنظيم “الدولة الإسلامية” بحصار بلدة كوباني الكردية الحدودية في شتاء عام 2014/2015. ورفضت تركيا السماح بوصول أي إمداداتٍ إلى البلدة خلال المراحل الأولى من الحصار، حيث قام التنظيم بقطع الإمدادات من الجانب السوري عن البلدة الخاضعة حينها لهيمنة مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردي ووحدات حماية المرأة. وأدى ذلك إلى توجيه الأكراد الأتراك اتهاماتٍ صاخبة متزايدة للحكومة التركية بأنها أتاحت لتنظيم “الدولة الإسلامية” العمل في أراضيهم، فضلاً عن استخدام التنظيم كأداةٍ ضد الأكراد، ووصل الأمر إلى درجة توجيه الاتهامات بتقديم دعمٍ فاعل للتنظيم. وفي نهاية المطاف، ظهرت التوترات والاحتجاجات الكردية في تركيا إلى العيان في نهاية عام 2014.

إذكاء نار الصراع

قام تنظيم “الدولة الإسلامية” في يوليو من عام 2015 بشن هجمات مدمرة على أحد اجتماعات حزب الشعوب الديمقراطية المناصر للأكراد، ليعقبه هجومٌ مماثل بعد أسابيع قليلة على فعالية نظمها حزبٌ شبابي موالٍ للأكراد. وقامت مجموعاتٌ على صلة بحزب العمال الكردستاني بالرد عبر شن هجمات على القوات الأمنية التركية وذلك لمحاسبتها على خمولها وتواطئها الملموس. وأدت هذه التطورات إلى إطلاق سلسلة من الضربات الجوية التركية لأهداف حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق، وموجاتٍ جديدة من الاعتقالات في تركيا، وهجماتٍ جديدة على حزب العمال الكردستاني والمجموعات الكردية الأخرى، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار محادثات السلام.

وبلغت دورة العنف ذروتها في سلسلة هجماتٍ شنها حزب العمال الكردستاني والمجموعات الكردية الأخرى وفي حملةٍ واسعة النطاق قامت بها القوات الأمنية التركية في جنوب شرقي تركيا، وهي المنطقة التي تقيم فيها غالبية الأقلية الكردية في تركيا. وبحسب الأمم المتحدة والعديد من منظمات حقوق الإنسان، فقد قامت القوات الأمنية التركية أيضاً بمهاجمة المدنيين المقيمين في تلك المنطقة دون تمييز. ويقدّر تقرير منظمة “مجموعة الأزمات الدولية” عدد الأشخاص الذين تم قتلهم أثناء الصدامات التي وقعت بين القوات الأمنية التركية والمجموعات الكردية بين يوليو 2015 ومارس 2017 بحوالي 3300 شخص. وبحسب ميرز، فإن النزاع الكردي المشتعل حديثاً في تركيا بالتزامن مع الحملة الإرهابية التي شنها تنظيم “الدولة الإسلامية” أدى إلى زعزعة استقرار الوضع الأمني في تركيا والتسبب بالمزيد من التدهور.

وبحسب الكاتب، فإنه من الصعوبة بمكان تقدير مدى الدور الذي لعبته الاعتبارات الاستراتيجية لحزب العدالة والتنمية تجاه انتخابات يوليو من عام 2015 في تصاعد حدّة الصراع الكردي. وشهدت هذه الانتخابات خسارة حزب العدالة والتنمية لأغلبيته البرلمانية للمرة الأولى منذ عام 2002، ويعود السبب في ذلك إلى الظهور القوي لحزب الشعوب الديمقراطية المناصر للأكراد. وتم اتهام إردوغان وحزب العدالة والتنمية بإثارة الصراع واستخدامه لإثارة الحماسة القومية ضد الأكراد وحزب الشعوب الديمقراطية بهدف استعادة الأغلبية البرلمانية في الانتخابات المبكرة التي تم الدعوة لها في نوفمبر 2015.

الآفاق المستقبلية

يرى ميرز أن المشهد السياسي المحلي، الذي يتسم بوجود حالة استقطابٍ حادة في المجتمع وبالمناورات السياسية، أضيف إلى مجموعة من العوامل غير المواتية التي كان لها آثاراً ضارة للغاية على استقرار تركيا ووضعها الأمني خلال السنوات الأخيرة، وذلك إلى جانب إشعال فتيل النزاع الكردي والحملة الإرهابية التي قام بها تنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي الوقت الذي بات فيه تنظيم “الدولة الإسلامية” على وشك الهزيمة من الناحية العسكرية، فإن قدرته على دق المسامير في الجسد التركي لم تنكسر بأي حالٍ من الأحوال. وعلاوةً على ذلك، فقد تدخلت تركيا عسكرياً في أكتوبر 2017 في محافظة إدلب السورية (يرجى الإطلاع على الخريطة) بهدفٍ معلن وهو إقامة ممرٍ إنساني. ومع ذلك، يرى المراقبون أن تركيا تسعى أيضاً إلى احتواء التوسع الكردي المحتمل وتطويق منطقة عفرين الخاضعة للسيطرة الكردية. وهناك مؤشراتٌ أخرى تدل على أن تركيا مستعدة إلى حدٍّ ما لقبول وجود المجموعات الجهادية القريبة من القاعدة والتي لديها موطئ قدم قوي في المحافظة. وبصرف النظر عن الدوافع التي تدفعها لتقبل هذا الوجود، فإن تركيا تخاطر بخلق مشكلاتٍ أمنية جادة وجديدة في المستقبل نتيجة تعاملها مع تنظيم “الدولة الإسلامية”. وعلى المدى الطويل، فإن وجود المجموعات الجهادية في إدلب لا يخدم مصالح أي طرف، بما في ذلك مصالح تركيا. ولقد أظهرت الهجمات الإرهابية التي شنها تنظيم “الدولة الإسلامية” بصورةٍ واضحة أن الجهاديين يتمتعون بالقدرة على استهداف تركيا عندما تتغير الظروف.

وعلى الرغم من الجهود التركية الرامية للمحافظة على حالة الضعف التي يعيشها أكراد سوريا قدر الإمكان، إلا أن هؤلاء يسيطرون حالياً على أجزاءٍ كبيرة من المنطقة الحدودية على الجهة السورية. واستطاع الأكراد أن يثبتوا أنفسهم كلاعبٍ رئيسي في أي حلٍّ مستقبلي للنزاع السوري، حيث استفاد هؤلاء مما حصلوا عليه من دعم ودعمٍ سياسي من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. وتجدر الإشارة إلى أن العملية العسكرية التركية في عفرين شمالي سوريا، والتي بدأت في يناير 2018 بهدف دحر قوات وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة من المنطقة، تخلق المزيد من المخاطر الكبيرة للاستقرار والأمن داخل تركيا. وفي الوقت الذي تتماشى فيه العملية مع أولويات السياسة الأمنية لأنقرة – وهي الحيلولة دون تأسيس منطقة كردية مستقلة على حدودها – فإنها قد تقود إلى المزيد من التضامن عبر الحدود بين الأكراد، كما كان عليه الحال أثناء حصار كوباني في 2014/2015، وهو ما يجعل أنقرة تخاطر بالتالي بتأجيج نار النزاع الكردي داخل تركيا.

وعلى هذا النحو، ستواصل الدولة مواجهة تحدياتٍ جادة على مستوى السياسات الأمنية في المستقبل القريب. وفي يوليو من عام 2017، تم إقرار الاستفتاء على الدستور بأغلبيةٍ ضئيلة، وهو ما سيعزز من سلطات إردوغان على حساب السلطة القضائية والبرلمان. ويبقى أن نرى إذا ما كان هذا الإصلاح سيثبت الوضع في تركيا، كما يتوقع مناصروه، أو أنه سيعزّز من النهج السلطوي للحكومة عبر تقويض الفصل بين السلطات، كما يخشى المنتقدون. وترجح أغلبية المراقبين الدوليين في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية السيناريو الأخير، والذي يتوقع أن يساهم هذا التعديل في تعزيز حالة عدم الاستقرار.

ويختم ميرز مقالته بالتالي: “اليوم، تجد تركيا نفسها على مفترق طرق. فهل ستنجح هذه الدولة في لثم جراح الصراع الداخلي وتخلّص نفسها من دوامة الحرب الأهلية السورية؟ في نهاية المطاف، لن تؤدي الإجابة على هذا السؤال إلى تحديد ما سيحصل من الناحية الأمنية فحسب، بل سيكون لها انعكاسات على الاستقرار وعلى تنمية البلد بصورةٍ أساسية. ونظراً لما تحظى به تركيا من أهميةٍ جيو – إستراتيجية، فإن ذلك سيؤثر أيضاً على استقرار وأمن المنطقة بأكملها، وعلى استقرار أوروبا والغرب بصفةٍ عامة”.