وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

سوريا: بلادٌ من النساء!

الشرطيات العاملات في محافظة الجزيرة
صورة تم التقاطها يوم ٧ مايو ٢٠١٦ لشرطية مرور من أكراد سوريا في مدينة القامشلي الموجودة شمال شرق البلاد. وبحسب جندا أوسي، وهي شرطية مرور كردية، فإنّ نسبة الشرطيات العاملات في محافظة الجزيرة، وفي بلدتي عفرين وكوباني، تصل إلى حوالي ٣٠٪ من إجمالي العاملين في شرطة المرور، ومن هؤلاء نساء عازبات ومتزوجات. المصدر: DELIL SOULEIMAN/ AFP.

غسان عقله

نشرت صحيفة “البعث” الرسمية السورية العام الماضي دراسةً إحصائية أظهرت أن نسب العنوسة في سوريا بلغت حاجز الـ 70%، فيما وصلت نسبة الزواج من امرأة ثانية إلى 40%. وفي الوقت الذي وُصِفت فيه أرقام الإحصائية بالـ “صادمة” وانتشرت بشكلٍ فيروسيّ في المواقع الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، اعتبر كثيرٌ من المتابعين أنّها لا تعكس حقيقة التحوّل الذي أصاب المجتمع السوري. فهذا المجتمع أمسى، بشكلٍ لا تُخطئه العين، “مجتمعاً أنثويّاً” بامتياز!

وقبل الخوض بمزيد من التفاصيل، لعلّ التوقّف قليلاً عند مفهوم العنوسة يلقي مزيداً من الوضوح على مشكلاتها ونتائجها في سوريا على الأمدين المتوسط والطويل. العنوسة مصطلح عام يستخدم للإشارة إلى كل من تجاوز سن الزواج المتعارف عليه ضمن مجتمعه الذي يعيش فيه، ذكراً كان أم أنثى، لكنّه متداول بصورة أكبر لوصف الإناث. وعمر العنوسة يختلف باختلاف عادات وأعراف المجتمع، كما يختلف تقديره بين سكان الريف والمدن. وإن كان الحديث عن عنوسة الرجال لا يقل أهميّةً عن الإناث وبالذات في الحالة السورية، إلا أن المقام لا يتسع هنا للإحاطة بكلا الجانبين. لذا سيقتصر الحديث على تناول الجانب الأنثوي.

قد يكون من نافل القول إن السبب الرئيسي لارتفاع نسب العنوسة الحاصلة يكمن في الحرب السورية وتداعياتها الاقتصادية وتغيراتها الديموغرافية. فبعد مضي نحو عشر سنوات على اشتعال فتيل الحرب الأهلية في البلاد فُقد مئات آلاف الشباب (بين سنيّ الـ 20 و40 عاماً) بين قتيلٍ ومهاجرٍ ومعتقل. وبذلك، فقدت كثير من البلدات والقرى، خصوصاً في بعض المناطق الموالية للنظام، معظم رجالها وشبابها، لتنتهي إلى مناطق خالصة من النساء الأرامل والعوانس. ينطبق ذلك (وإن بنسب مختلفة) على مجمل الجغرافية السورية حيث الحضور النسائي طاغٍ في جميع المواقع سواء العمل أو الجامعات أو سواها. ولعلّ ارتفاع نسبة الزواج من امرأة ثانية إلى 40% (وهي نسبة غير مسبوقة) يعكس حقيقة اختلال التوازن بين أعداد الإناث والذكور. وهي ردة فعل طبيعية للمجتمع شجّعت عليها بعض الأوساط الدينية، رغم اشتراط المحكمة الشرعية على المقبل من الزواج من ثانية إثبات أن دخله الشهري لا يقل عن نصف مليون ليرة (حوالي 170$).

من المؤكّد أن الخلل العددي بين الإناث والذكور لن يعاد التوازن له سريعاً، وستمضي ربما عقود قبل الحديث عن نسبٍ متقاربة بين الجنسين في سوريا. وهذا الأمر سيحمل في طيّاته آثاراً سلبية عميقة جداً على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، وسيتسبب على المدى البعيد بتغيير بنية المجتمع السوري نفسها من مجتمعٍ وصف طوال العقود الماضية بـ “الفتي” إلى “مجتمعٍ هرم”. كلّ هذا وسواه يضاعف من مسؤولية المرأة السورية، ويتركها وحيدةً تواجه مصيراً مجهولاً، وهي تفتقد لكثير من المؤهلات التي تمكنها من سد الفراغ الذكوري الحاصل. كما أنّ كثيراً من التجمّعات السورية لا زالت محكومة بأعراف وتقاليد “ذكوريّة” تمنع المرأة من القيام بما تعتبره “وظائف الرجل”. وهذا سيزيد من حدّة الأزمة – بالذات على صعيد الاقتصاد وتزايد نسب الفقر – ويجعل المرأة تدفع ثمناً باهظاً لها.

ورغم مؤشرات خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية الواضحة، وانعكاسها على تفاصيل الحياة اليومية بصورةٍ فجّة، يبقى لافتاً غياب أي تدخّل  للدولة السورية لمواجهتها أو لاستيعاب نتائجها. فتدخّلٌ على هذا المستوى يتطلب تجييش موارد مالية وبشرية ضخمة قد لا تكون متوفرة لدى الحكومة السورية – سيّما وأن سوريا تعاني من أزمة اقتصادية غير مسبوقة. وحتى وإن توافرت هذه الموارد، فلا شك أن آلة الحرب لها الأولوية بابتلاعها دون سواها!

ويبقى السؤال عالقاً عن مآلات المجتمع السوري وقد أصبح “مجتمعاً أنثويّاً” في ظل غياب دور الدولة الاجتماعي، وانعدام أي بارقة أمل للخروج من متاهة هذه الظاهرة على المستويين المتوسط والبعيد!

ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.

user placeholder
written by
Mattia Yaghmai
المزيد Mattia Yaghmai articles