وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تجاهل الصحة العقلية للاجئين السوريين الصغار سيضر بنا جميعاً

Translation- Eastern Ghouta
طفلان سوريان ينظران إلى أحد المباني المتضررة بهجوم صاروخي تم شنه على بلدة عربين المحاصرة في منطقة الغوطة الشرقية بدمشق. المصدر: AFP.

نشر موقع “The Conversation” مقالة مهمة سلّطت الضوء على إشكاليات تجاهل الصحة العقلية للاجئين السوريين الأطفال. ويستعرض محمد زاهر سحلول، الأستاذ المساعد المختص في الشؤون السريرية بجامعة إيلينوي الأمريكية، في مقالته التحديات الكبيرة التي لا بد من مواجهتها لتمكين الأطفال السوريين من التمتع بمستقبلٍ أفضل، لا سيما أمراض الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة النفسية ومتلازمة الدمار البشري. ويضيف سحلول: “طُلِب من أحد التلاميذ السوريين المقيمين شرقي حلب أن يقوم برسم إحدى اللوحات في ذروة القصف الذي قام به نظام الأسد في عام 2015 على منطقته. وبصورةٍ مغايرة للحالة الطبيعية، لم يقم هذا الطفل، الذي لم يتجاوز عمره سبعة أعوام، برسم أطفالٍ يلعبون، ولا حتى سماءً زرقاء أو شمساً مبتسمة”.

وبحسب ما يشير له سحلول، فإن ما رسمه هذا التلميذ – واسمه أحمد – “كان طائراتٍ مروحية تتساقط منها البراميل المتفجرة ومنازل تحترق بالنار وأطفال قتلى غارقين في دمائهم. كانت البسمة ترتسم على وجوه الأطفال القتلى في لوحته، فيما كان الأطفال الأحياء غارقين في دموعهم”. ويرى الكاتب أن هذا الطفل الصغير لم يجد أمامه سوى القلم والورق للتعبير عن ذكرياتٍ مؤلمة لطفولةٍ ضاعت تفاصيلها على وقع الصراع الدائر في سوريا.

ويشير سحلول إلى وجود ملايين اللاجئين والنازحين السوريين المشابهين لأحمد في سوريا والدول المجاورة لها وعلى طول الطريق الواصل إلى أوروبا. وبحسب سحلول، فقد عانى هؤلاء ما عانوه أثناء الصراع الدائر في سوريا، كما أنّ معاناتهم ستتواصل في حال لم تتح الفرصة أمامهم للتعبير عن صدماتهم النفسية. وبالطبع، فإن عدم حصول هؤلاء على أيّ دعمٍ أو علاجٍ لتخطي كوابيس الحرب وما واجهوه من خسائر وتشريد قسري لا يقل أهميّةً عن التعبير عن الصدمات النفسية.

ويؤمن سحلول بأن عدم تسليط الأخبار الضوء على سوريا لا يعني انتهاء الحرب الدائرة فيها بأي حالٍ من الأحوال. وشهدت الأشهر الأولى من عام 2017 تسجيل 250 ألف من اللاجئين الجدد، ليصل بذلك عدد اللاجئين السوريين إلى ما يزيد عن 5.1 مليون لاجئ. كما توفي 15 لاجئاً سورياً بينهم ثلاثة أطفال متجمدين من البرد شمال لبنان أثناء محاولة عبور الحدود إلى لبنان من الجارة سوريا. يأتي ذلك في الوقت الذي فرضت فيه جميع الدول المحاذية لسوريا قيوداً على الهجرة إليها، وقد ترافق ذلك مع إغلاق هذه الدول لحدودها بصفةٍ رئيسية في وجه اللاجئين.

والآن وبعد مرور 7 سنوات على الأزمة السورية المريرة، لم يتم قياس الحجم والتأثير الدقيق للاضطرابات النفسية وتحديات الصحة العقلية واضطرابات ما بعد الصدمة النفسية على الأطفال والراشدين على حدٍّ سواء. وبحسب ما يراه سحلول، فإن هيئات الدعم المحلية والدولية ومنظمات الإغاثة والحكومات لا تركز جهودها على هذه التحديات الخطيرة، على الرغم من معرفتنا بمدى فداحة الخسائر النفسية المترتبة على النزاع الدائر في سوريا.

وتشير الأخصائية السورية – الأمريكية آنا مغربية، وهي أخصائية في مجال رعاية الحالات الحرجة وتساعد زملائها المقيمين في محافظة إدلب السورية عن طريق التطبيب عن بعد، إلى ظهور اتجاه جديد من الأزمات النفسية التي تعصف بحياة النساء والأطفال. فبين اليوم والآخر، تعترف حفنةٌ من النساء والمراهقين بذهابهم إلى إحدى المستشفيات المحلية بعد تناولهم للمبيدات الحشرية بهدف الانتحار. وتعرف المبيدات الحشرية محلياً باسم “حبوب الغاز”، حيث يؤدي تناولها إلى فشل العديد من أعضاء الجسم، وبما يقود إلى الوفاة بطريقةٍ مؤلمة وبطيئة.

وباعتباره أحد الأطباء الذين أمضوا السنوات الست الأخيرة في تقديم الإغاثة الطبية في سوريا، فإن سحلول على قناعة بأن العالم مطالبٌ بإظهار المزيد من الاهتمام لمستقبل سوريا عبر مساعدة أطفالها الذين يعانون من الاضطرابات النفسية. وبحسب الكاتب، فإن عدم التعامل مع هذا التحدي سيقودنا إلى مواجهة عواقب وخيمة لا يمكن التنبؤ بها خلال السنوات المقبلة.

الصحة العقلية ليست أولوية

Translation- Syrian children
أطفالٌ سوريون فقدوا آباءهم أثناء القتال الدائر في سوريا وهم يلعبون في ملجأ أيتام بالقرب من بلدة سرمدة المجاورة للحدود السورية – التركية. المصدر: AFP.

نزح ما يزيد عن 220 ألف مدني في شمال سوريا إلى محافظة إدلب خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك في أعقاب الحملة الممنهجة التي شنتها قوات الأسد والطائرات الروسية على المنطقة. ويعيش في إدلب 2.5 مليون شخص، علماً بأن نصفهم مشردين داخلياً من المدن السورية الأخرى.

أما في المناطق الجنوبية من سوريا، فقد 17 مريضاً بينهم أطفال حياتهم وهم ينتظرون إجلائهم من الغوطة المحاصرة. ويقبع الآن ما يزيد عن 400 ألف مدني تحت حصار حكومتهم للسنة السادسة على التوالي في تلك المنطقة. وواصل النظام قصف مناطق المدنيين تارةً بالقنابل التقليدية وتارةً أخرى بقنابل الكلور. وفي كل يوم يتم تسجيل لائحةٍ جديدة من المدنيين والأطفال القتلى الذين لا يهتم بهم أحد سوى الناشطون المحليون. ويساور الكثير من السوريين شعوراً بأن العالم تركهم وشأنهم وبات في غفلةٍ عنهم.

وتعتبر أمراض الإكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، والعنف الشديد وغيرها من الأمراض العقلية الناتجة عن هذه الفظائع جروحاً غائرة لا يمكن اكتشافها في مرحلةٍ مبكرة، ناهيك عن إمكانية معالجتها بكفاءة في سوريا وخارجها. وكلّما طال عدم علاج هذه الأمراض، كلّما تضاعفت آثارها. ويبقى المرض العقلي تابوهاً في جميع أنحاء العالم، وبشكلٍ خاص في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط التي يخشى فيها المرضى وعائلاتهم طلب العلاج خوفاً من وصفهم بالمجانين.

وغالباً ما تقوم المجتمعات بنبذ هؤلاء الأشخاص ليعانوا طيلة حياتهم دون الحصول على أدنى مستوى من المساعدة. وتعمل في سوريا مستشفى واحدة متخصصة في الصحة العقلية، حيث يتم فيها علاج الأشخاص الذين يعانون من اضطراباتٍ نفسية حادة.

وقبل ظهور الأزمة، كانت المشافي النفسية أشبه بالسجون من المستشفيات الحقيقية. ولم يكن هناك سوى مستشفيان عامان متخصصان بالأمراض النفسية. وتقع إحدى هاتين المستشفيين في منطقةٍ ريفية خارج العاصمة دمشق، إلا أنها تعمل الآن بقدرةٍ محدودة نتيجة المخاوف الأمنية. في المقابل، فقد تم إغلاق المستشفى الثانية التي كانت موجودة في حلب.

وفي الدول المجاورة المماثلة للأردن وتركيا ولبنان والتي تستضيف 5 ملايين لاجئاً سورياً، غالباً ما يسيطر القطاع الخاص على خدمات الدعم الاجتماعي والرعاية النفسية. ويزداد الطين بلّة عند إدراك النقص الحاد في الأطباء النفسيين والإخصائيين النفسيين والاجتماعيين.

وقام م.ك. حمزة، وهو طبيبٌ نفسي سوري – أمريكي تطوّع في البعثات الطبية المتعددة التي تم إرسالها إلى لبنان والأردن وتركيا واليونان، بوصف متلازمة جديدة لمحاكاة الاضطراب النفسي الحاد الذي يعاني منه الأطفال السوريون. وأطلق حمزة في عام 2016 على هذه المتلازمة اسم “متلازمة الدمار البشري”. وبحسب التقارير نفسها، فإن ما يزيد عن 45% من الأطفال اللاجئين السوريين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، كما يعاني العديد منهم من مشاكل الصحة العقلية الأخرى المماثلة للاكتئاب والقلق.

جوانب أخرى من الصدمات النفسية

يرى سحلول أن العديد من هؤلاء الشباب يواجهون مخاطر جسيمة مماثلة للإدمان على المخدرات أو التحول إلى البغاء والتطرّف. كما ظهرت تقارير تشير إلى تجارة الأعضاء الإجرامية وعمليات التبنّي غير الشرعية التي تقودها عصاباتٍ دولية تعتاش على حساب الأطفال السوريين الضعفاء.

وفي لبنان، البلد الصغير الذي لا يزيد عدد سكانه عن 5 ملايين نسمة وبات ملجأ ما يزيد عن 1.5 مليون لاجئ سوري، يعتبر “عبد” البالغ من العمر 16 ربيعاً من بين حفنةٍ بسيطة من السوريين الذين يتلقون العلاج والمشورة عبر منظمةٍ محلية غير حكومية تحمل اسم فن الأمل “Art of Hope”. وتساعد هذه المنظمة على التخفيف من اضطرابات ما بعد الصدمة ومن الصدمات النفسية عبر العلاج بالفن والتدريب المهني. وتحاول منظمة “Art of Hope” توفير مستوى من الحياة الطبيعية والكرامة والانتماء لدى الأطفال السوريين، وذلك من خلال ربطهم بنشاطاتٍ مماثلة لورش العمل الفنية والحرفية ومعالجة صدماتهم العاطفية.

وبحسب تارا كنگرلو، التي أسست المنظمة، فقد تم إجبار هذا المراهق على مشاهدة عمليات قطع الرؤوس في بلدته الرقة، كما قام تنظيم “الدولة الإسلامية” ببتر يده. ويعاني “عبد” حالياً من الاكتئاب، والشعور بالذنب ومن الميول العدوانية. وفي إحدى جلسات العلاج، أخبر “عبد” مستشاره النفسي بأنه قد يكون من الأفضل له العودة إلى وطنه لينضم إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” – معرباً عن ندمه وبأن ذنب بتر التنظيم ليده قد يكون ذنبه.

معالجة الصحية العقلية في عصر تنظيم “الدولة الإسلامية”

في ظل الغموض الذي يكتنف عدد الأطفال السوريين المحرومين من الذهاب إلى المدارس في سوريا والدول المضيفة، فإن هذه الجروح غير المرئية لن تتم معالجتها حتى تقوم المنظمات الإنسانية الكبيرة والهيئات التابعة للأمم المتحدة بالتعاون مع المنظمات المحلية والأهلية داخل سوريا وخارجها لمواجهة هذه التحديات. وبحسب سحلول، فإنه من الضروري معالجة تحديات الصحة العقلية والصحة العامة بالتوازي وضع البرامج التعليمية المخصصة للأطفال اللاجئين.

وفي غياب القيادة الملائمة وانعدام الأمن، يرى سحلول أن المجموعات الإرهابية ستملأ الفراغ الحاصل وستصطاد المجندين الضعفاء. ويشير كاتب المقالة إلى أن هذه المجموعات ستقوم بذلك عبر تزويد هؤلاء الأطفال والمراهقين باحتياجاتهم الأساسية، وعلى نحوٍ أكثر أهمية بالشعور بالكرامة والانتماء والهدف.

ويؤمن سحلول بأن معالجة هذه الجروح سيكون استثماراً لا بد وأن يأتي ثماره أثناء مكافحة الإرهاب والحدّ من الصراع والعدوانية. كما لا بد من الإشارة إلى أن غياب العلاج سيضر بالأطفال وبالمجتمع على حدٍّ سواء.

كما تستطيع الدول تطوير خدمات الاستشارة الطبية التي يتم تزويدها عن بعد لسد الفجوة الحاصلة في هذا المجال. وعلى المستوى الشعبي، فإن الدول المستضيفة مطالبةٌ بالمشاركة في تدريب المدربين المحليين وتمكين السوريين من الكشف عن العلامات المبكرة للاكتئاب والقلق والميل نحو الانتحار.

ويختم سحلول مقالته بتأكيد قدرة الأطفال السوريين على الصمود في وجه الصدمات النفسية الهائلة التي تعرضوا لها. ويضيف الكاتب إنهم “يضحكون ويلعبون ويتكيفون بسرعة في مخيمات اللجوء وحتى تحت الحصار. والطفل نفسه الذي رسم لوحة الموت والقنابل سيرسم الزهور والأنهار والفراشات والوجوه السعيدة بعد عددٍ بسيط من جلسات العلاج بالفن. كما من الممكن أن يكبر هذا الطفل ليصبح طبيباً، أو معلماً أو مهندساً أو حتى رئيساً. وعلى ذلك، فإنه من واجبنا توفير تلك الفرصة له”.