وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

“الرجل الذي باع ظهره”.. لكمة أنثوية بقفاز حريري

الرجل الذي باع ظهره
صورة تم التقاطها للمخرجة والكاتبة التونسية كوثر بن هنية والممثل السوري يحيى مهايني أمام بوستر فيلم “الرجل الذي باع ظهره”، وذلك بعد أول عرض للفيلم في العاصمة تونس يوم ٣٠ مارس ٢٠٢١. الفيلم التونسي، الذي يعد أول فيلم يترشح لجوائز الأوسكار، تم ترشيحه ضمن قائمة أفضل الأفلام بلغة أجنبية في النسخة الثالثة والتسعين من جوائز الأوسكار التي جرت فعالياتها في هوليوود يوم ٢٥ أبريل. ويشارك في بطولة الفيلم الممثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي إلى جانب السوري يحيى مهايني والممثل البلجيكي كون دو باو. ويروي الفيلم قصة لاجئ سوري سمح لفنان مختص برسم الوشوم باستخدام ظهره كوسيلة للوصول إلى أوروبا. المصدر: FETHI BELAID / AFP.

حكيم مرزوقي

فيلم “الرجل الذي باع ظهره” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، مازال يُعرض في دور عرض محلية وأجنبية بنجاح لافت، وذلك لما يوفره من كل أسباب النجاح النخبوي والجماهيري، بالإضافة إلى “ذكائه الإنتاجي” وطرقه لفكرة طازجة، طريفة وموجعة لا تزال تشغل العالم وتحرك الوجدان الإنساني.

الفيلم الذي ترشّح إلى الأوسكار، سافر إلى أكثر من عشرين بلدا أوروبيا وأميركيا، وحصد العديد من الجوائز، ونال التكريمات، تتداخل في قصته أكثر من قضية راهنة، مثيرة وعلى غاية من الحساسية دون فبركة أو افتعال أو بحث عن سرديات غرائبية، رغم فرادة الحكاية، لكنها تبقي على ألمعيتها من زاوية أن السينما لا يهتم للعادي واليومي والمستهلك إلا في حدود ملامسته للمدهش والملحمي وغير المتوقع.

سام علي، شابٌ سوري ينزح نحو بيروت هربا من الحروب والصراعات الدائرة في بلده في انتظار تمكنه من الهجرة إلى أوروبا للالتحاق بحبيبته البلجيكية.. إلى هنا، تبدو الحكاية أكثر من متوقعة بل ونكاد نشاهدها كل مساء بالعشرات على نشرات الأخبار، وذلك ضمن مشهد يومي يصبح فيه المكوث في سوريا ضربا من الغرابة والمغامرة غير محمودة العواقب.

يبقى التساؤل العارض هو أن مؤلفة ومخرجة الفيلم التونسية قد اختارت شابا سوريا عالي التذوق الفني والثقافي ومقبلا على حضور المعارض التشكيلية، وفي رأسه حلم رومانسي يتعلق بالالتحاق بحبيبته. ولم تختر كوثر بن هنية، شابا مغامرا من بلدها يقبل بركوب المخاطر في المراكب المتهالكة في سبيل الوصول إلى الضفة الأخرى بأي ثمن، وذلك ضمن دراما يومية تحدث في الضفاف الجنوبية للمتوسط وقد استهلكها السينمائيون التونسيون فيما يعرف بأفلام “الحرقة” أي الهجرة السرية.

الشاب السوري سام علي، ذو الوسامة الظاهرة والبنية الجسدية القوية والمتماسكة يقبل بعرض من فنان شهير يدعى “جيفري جودفرا” يلتقي به في أحد المعارض الفنية عن الفن المعاصر، ليرسم وشماً لتأشيرة شنغن الأوروبية على ظهره مشكلاً لوحة فنية حية، مقابل حصوله على تأشيرة للسفر إلى أوروبا.

الورطة الفنية والدرامية تبدأ من هذا العرض الذي قد يبدو غير مستهجن في بداية القصة، وسبق أن شاهد جمهور الفن التشكيلي أجسادا موشومة كثيرة ومن مختلف الثقافات بل أنّ عادة تأجير الظهور البشرية المتحركة واستعمالها مثل الجدران المخصصة للملصقات التجارية، رائجة في دمشق من خلال شركات الإعلانات، لكن أن يكون ذلك مقابل الحصول على تأشيرة عبور إلى أوروبا فالمسألة تطرح أكثر من سؤال.

وبالفعل، يتيح الوشم للشاب الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي لفترة محددة، مقابل ساعات يقضيها جالساً في المتاحف لعرض ظهره، وسرعان ما تحول ذلك لكابوس، وأدرك متأخراً أنه فقد حريته من جديد وأصبح يعامل وكأنه سلعة بسبب القرار الذي اتخذه.

هل يشبه الأمر سوق الدعارة وبيع الأجساد البشرية أم أنه أبعد من ذلك بكثير وأكثر تعقيدا من بعده الأول وتلك الابتسامات والضحكات التي قد تعلو من هنا وهناك في قاعات العرض سواء كانت من الأوروبيين أو العرب في بلدانهم.

هل أن ركوب الموت في أمواج الهجرة السرية التي غالبا ما تنتهي بالمآسي، أسهل وأكثر حفظا لماء الوجه من هذه المغامرة الاستعراضية القاسية التي تشبه فيما تشبه “مغامرة المملوك جابر” التي سبق أن كتبها مواطنه السوري في مسرحيته الشهيرة؟

ويلم يغفل الفيلم أن يشير كيف حققت اللوحة التي وشمت على ظهر الشاب “سام” شهرة واسعة، وكيف أثارت فضول تجّار التحف الفنية، ليصل ثمنها إلى مبالغ خيالية، في مزادات سوق الفن، وسط سخط متزايد لناشطي حقوق الإنسان.. ولكن من المذنب بل وما هو الحل؟ هل كان على الشاب السوري أن يعدل عن القبول بالفكرة ليلتهمه الفقر والتهميش في بيروت أم يقبل بهذا القدر الأحمق وسط صمت دولي لم تغير من واقعه مختلف الاستغاثات والنداءات الدولية؟

“الرجل الذي باع ظهره” (أو جلده وفق الترجمة الفرنسية للعنوان) فيلم لا يجلد الذات كما يقول ويدعي منتقدوه، لكنه شاهد على واقع إنساني أشد مرارة ـ ربما ـ من معسكرات اللجوء في مناطق متفرقة من أوروبا. وهو بمثابة اللكمة التي سددتها كوثر بن هنية إلى الأوساط الفنية والمالية في أوروبا.. ولكن بقفاز حريري.

هذا الشريط هو عمل روائي طويل من إنتاج مشترك بين تونس (شركة «تيلي فيلم» و “تانيت فيلم“) وفرنسا وألمانيا وبلجيكا والسويد، ويجمع أسماء سينمائية عالمية بارزة من بينها كل من يحيى المهايني (سوري مقيم بكندا) والفرنسية ديا ليان والبلجيكي كوين دي باو والإيطالية مونيكا بيلوتشي.

تميز الفيلم بجماليات عالية في الصورة والتقطيع والأداء التمثيلي المدهش الذي مكنه من منافسة الكبار في سابقة سينمائية عربية لافتة.

قالت المخرجة كوثر بن هنية عبر صفحتها على موقع فيسبوك “نعم لقد فعلناها، وصلنا للقائمة المختصرة لأوسكار 2021، شكرا لكل من أحب الرجل الذي باع ظهره”.. وقد يتردد هنا سؤال خبيث: هل أن المخرجة، وبهذا الانتاج المشترك، قد ما فعلت ما فعلته صاحبة الغاليري وشركاؤها حين استثمرت ظهر “سام علي” لجني الشهرة والمال؟

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.