وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

السلطان العثماني حاكم إلهي في دائرة العدل

السلطان العثماني حاكم إلهي
صورة تم التقاطها يوم ٢٩ أكتوبر ٢٠٠٣ في العاصمة التركية أنقرة لفرقة “مهتر” العسكرية الرمزية. وتختص هذه الفرقة بتقديم العروض العسكرية التي ترمز للإمبراطورية العثمانية. وكانت تركيا تحتفل في ذلك الحين بالذكري الثمانين لتأسيسها كجمهورية. بيد أن الاحتفالات شابها حالة التوتر المتجددة بين الصفوة العلمانية الحاكمة والحركة الإسلامية المتنامية في تركيا وذلك على هامش حظر ارتداء النساء للحجاب في المناطق العامة. المصدر: AFP PHOTO/ TARIK TINAZAY.

تلخّص مفهوم العدل العثماني في شخص السلطان كحاكم إلهي

يوسف شرقاوي

لم يكن في العصر العثماني أيّ مكان لشأن لا يصبّ في مصلحة السلطان، حتى أنّ فلسفة العثمانيين برمّتها تمثّلت فيما يُعرف بدائرة العدالة أو الدائرة العدلية على مدى أربعة قرون متتالية. ولعب فهم العدالة دوراً مهماً للغاية في الإمبراطورية العثمانية سواء من حيث أيديولوجية الدولة أو إدارة الجماعات المختلفة داخل حدودها، ونظام العدل يعمل على النحو التالي:

“وحده الحاكم العادل يمكنه حماية مملكته. يمكن للأشخاص المحميين الإنتاج ودفع ضرائبهم. يمكن لدولة مليئة بالخزينة أن تخلق جيشاً قوياً للدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية. فقط حاكم بجيش قوي يمكن أن يكون قوياً ويحقق العدالة”.

ويمكن تلخيص هذا المبدأ بأنه “لا عدالة من دون سلطان”.

كما هو الأمر مع الحكّام المسلمين، اعتبر السلاطين العثمانيون أيضاً أتباعَهم “رعيّة”، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ولذلك فقد كانوا يكررون في فرماناتهم أنّ الله قد عهد لهم بالرعيّة كأمانة. بذلك كان السلطان العثماني حاكماً إلهياً، يأخذ أمره من عند الله ويطبّق الشريعة. وكان ملزماً بذلك باعتباره إمام أو خليفة المسلمين، أن يقود الرعيّة حسب الشريعة وأحكام الله. وفيما لو عدنا إلى المؤلفات الهندية – الفارسية القديمة حول “مرآة الأمراء”، لوجدنا أنّ الحاكم يُقارن بالراعي بينما تُشبّه الرعيّة بالقطيع. فالإله يعهد للراعي بالرعيّة ليحميها ويقودها في الطريق الصحيح، ويكون من واجب الرعيّة أن تطيع الحاكم.

كان مفهوم الراعي والقطيع وأسلوب الحكم الإلهي سائداً في الحقبة العثمانية، حيث يذكر المؤرخ والكاتب العثماني “طورسون بك” في النصف الثاني من القرن الخامس العشر: “إنّ الحكومة التي تعتمد على العقل فقط، تُسمّى بـ “اليسق السلطاني”. أما الحكومة التي تعتمد على الأسس التي تؤسس للسعادة في الدنيا والآخرة تسمّى بالسياسة الدينية أو الشريعة. لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشريعة، إلّا أنّ الملك فقط يمكن له أن يطبّق هذه السياسة بما لديه من سلطة. فالناس لا يمكنهم أن يعيشوا في انسجام دون سلطان، بل من الممكن أن يتشتتوا بدونه إلى الأبد. والله قد أعطى السلطة لواحدٍ فقط، كي يحفظ النظام كما يجب، وعلينا نحن طاعته”. وطورسون بك في هذا الكلام يساوي الدولة مع السلطة المطلقة لحاكمها، ويعتبر أنّ العدالة المتمثّلة في شخصه هي الجوهرية لاستمرارها، وفي شخص السلطان يتمثّل القانون والعدل والتوازن.

نلحظ ذلك أيضاً في “القانون نامه” الذي كتبه النيشانجي لمحمد الفاتح حوالي سنة ١٤٧٦، حيث يقول الأمر الخطّي للسلطان الفاتح الذي يصدق هذا العمل: “لقد انتظمت أمور الدولة إلى هذا الحد، وليسع أولادي الذين يأتون من بعدي إلى تطويرها”. السلطان إذن مركز الحكم، ومصدر كل السلطات، وتعود إليه حسب المبدأ الأساسي للقانون العثماني الأرض والرعيّة. بعبارة أخرى، فقد كان لا يحقّ لأحد، ولا يمكن لأحد بأيّ شكلٍ من الأشكال أن يمارس أيّة سلطة على الرعية والأرض دون إذن خاص من السلطان. وقد كان هذا المبدأ يوفر للسلطان السيادة المطلقة في الدولة ويسمح له بالتخلص من كل أشكال السيادة القانونية في الولايات. كما كان يسمح له بممارسة الرقابة على الأوقاف والملكيات الخاصة. وهكذا فقد كان المبدأ في الحقيقة حجر الزاوية للنظام الأوتوقراطي المركزي العثماني، وكذلك لنظام الحكم الثيوقراطي.

في أعقاب هزيمة كارلوفيتز سنة ١٦٩٩، يذكر بعض الباحثين إنّ دائرة العدالة تلخّصت في شكلها الأخير بمفهومها العثماني، تحت قلم نعيمي، مؤرخ السلطان في ذلك الوقت، حيث طُلِب منه إيجاد صيغة فكرية تطلق التعبئة الداخلية والتماسك الشعبي على قاعدة عثمانية أصيلة. فجاءت دائرة العدالة التي كانت تُعلَّق في الدوائر الرسمية على النحو الآتي:

“لا سلطان من دون عسكر

لا عسكر من دون مال

لا مال من دون رعايا

لا عدالة من دون سلطان

التوازن سرّ العدالة

الدنيا حديقة وأسوارها الدولة

ركيزة الدولة الشريعة

لا شريعة من دون سلطان”.

في هذا الإعلان، لا نجد أي ذكر للثقافة والعلم، إنما الكلمات المفاتيح تنحصر في: السلطان، العسكر والمال. أما الدولة والشريعة، فهما تابعتان لتلك الكلمات الثلاث. وهذا دليلٌ كافٍ لا على نمط الحكم الإلهي العثماني، بل أيضاً على التصحّر الفكري والثقافي الذي عاشته المجتمعات خلال الزمن العثماني، الذي كان عسكرياً في بنيته وفلسفته، ومتخلفاً في مفاهيمه ونظام حكمه، لا يبتعد في شيء عن نظام الحكم الثيوقراطي في عصر الظلمات.

 

المصادر:

  1. The Ottoman Empire, The Classical Age 1300 _ 1600, Halil Inalcik, translated by Norman Izakowits and Colin Imber, London, 1973.
  2. Ahmet Altay, Klasik Dönem Osmanlı Siyasetname Geleneğine Bir Bakış.
  3. Osmanlı Toplum Yapısının Evrimi.
  4. دور المثقف في التحولات التاريخية، مجموعة مؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.