وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحقل السياسي الفلسطيني بين الفصائل والمستقلين

الحقل السياسي الفلسطيني
صورة تم التقاطها يوم ٢٠ نوفمبر ٢٠٢١ لفلسطينيون من فصائل فلسطينية مختلفة وهم يعقدون اجتماعاً في مدينة غزة. المصدر: Mahmud hams / AFP.

ماجد كيالي

لا يقتصر الحقل السياسي الفلسطيني على الكيانات السياسية الفصائلية إذ هو يشمل، أيضا، طيفا واسعا من المستقلين، أي الشخصيات الفلسطينية الناشطة سياسية، والتي لا تنتمي إلى فصيل معين، وضمنهم أكاديميون ومثقفون وكتاب وأطباء ومهندسون وفنانون ومعلمون، يمثلون مختلف أطياف المجتمع.

ومعنى ذلك أن هؤلاء الأفراد ينشطون بشكل طوعي، وبناء على وعيهم لدورهم في العملية الوطنية، متوخّين في ذلك المصلحة العامة، أي مصلحة القضية والشعب، بعيدا عن المصالح والعقليات الفصائلية، التنافسية والتناحرية، الضيقة والمضرّة، وفي ذلك تعبير عن حيوية المجتمع الفلسطيني، وفاعليته السياسية.

لنلاحظ أن ثمة جدل بشأن اعتبار القوى والأحزاب السياسية جزءا من المجتمع المدني، مع النقابات والمنظمات والمنتديات والجمعيات، التي تنشط في المجتمع ولأجله، لكن ذلك لا يفترض اعتبار القوى السياسية المهيمنة جزءا من المجتمع المدني، باعتبار أنها باتت تمتلك وسائل السلطة وتمارسها، وتكرس ذاتها لأجلها، وهذا ينطبق على حركتي فتح وحماس، حيث الأولى سلطة في الضفة والثانية سلطة في غزة.

أيضا، لنلاحظ أن ثمة نوع من التعقيد، في الحالة الفلسطينية، إذ عبّرت الفصائل، في بداياتها، عن الحراك السياسي في المجتمع، ولكنها في مرحلة تالية باتت تمتلك وسائل سلطة وهيمنة بكل معنى الكلمة، سواء في المرحلة “اللبنانية“، أو في مرحلة قيام السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ كما ذكرنا.

ويمكن ملاحظة أن تلك الفصائل أضحت، منذ زمن طويل، بمثابة نوع من مجتمع سياسي، على هامش المجتمعات الفلسطينية، بحيث باتت قياداتها بمثابة طبقة سياسية بحد ذاتها. ويمكن تفسير ذلك بدوافع عدة، أهمها:

1) غلبة الطابع العسكري/الميليشياوي في بنية العمل الفلسطيني، على حساب البعد الشعبي، وغلبة الأجهزة على البني الحزبية.

2) عدم اعتماد الفصائل على شعبها من ناحية الموارد، بل إن شرائح واسعة من الفلسطينيين باتت تعتمد على هذه الفصائل، التي أضحت، بمعنى ما، بمثابة “سوق عمل”، بحكم المهمات الخدمية التي أخذتها على عاتقها لتوسيع نفوذها (وهي مهمات سلطوية أيضا). وهذا الوضع أثر سلبا على علاقة الفصائل بمجتمعها، لجهة إضعاف علاقات المشاركة السياسية، حيث العلاقة هي علاقة فوقية ووصائية، وأيضا لجهة مبالغة الفصائل بتغليب مصالحها الفئوية على المصالح الوطنية.

3) تشظّي المجتمع الفلسطيني، وخضوعه لقيودات وظروف متباينة، وغياب حيز جغرافي متعين ومستقل له. ولا شك أن كل ذلك أسهم بإضعاف تطور هذا المجتمع، وحدّ من استقلاليته، وهمّش وجوده، ما جعل قدرته على مساءلة القوى السياسية المهيمنة غير ممكنة، أو جد صعبة ومعقدة.

4) غياب الوطن المتعيّن، وتنامي شعور الحرمان من الهوية، وضعف التطور السياسي، وحال التهميش في بلدان اللجوء والشتات، إذ كل ذلك جعل ارتباط الفلسطينيين بمؤسساتهم السياسية ارتباطا عاطفيا وعفويا ورمزيا وتبعيا، أكثر من كونه ارتباطا تفاعليا؛ وهذا له علاقة ايضا بسيادة العلاقات البطركية وتدني مستوى الديمقراطية في العلاقات الداخلية لبني الساحة الفلسطينية.

5) ثمة استحالة على أي اتجاه فلسطيني الظهور والتنامي بدون نيل شرعية رسمية عربية، بسبب المداخلات والضغوط الخارجية، الناجمة عن اعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية (في واقع سلطوي قطري!)، ووجود تجمعات فلسطينية في بلدان اللجوء، والارتباطات والتوظيفات الإقليمية والدولية للقضية الفلسطينية.

6) انكفاء النخب والكفاءات الفلسطينية، من مثقفين وأكاديميين وفنانين ورجال أعمال، عن الانتساب إلى الفصائل، كونها لم تجد في الحقل السياسي الراكد مجالا جذابا، تعبر من خلاله عن دورها وعن طموحاتها؛ بحكم ضعف الحراك الداخلي في الفصائل، وسيادة الأبوات والبني البطركية فيها، وافتقادها للعلاقات الديمقراطية وللتجديد ولروح الإبداع؛ خاصة أن معظم الفصائل مازالت حكرا على طبقتها السياسية المؤسسة، ناهيك عن افتقادها للرؤى السياسية، وتراجع مكانتها في المجتمع، وأفول دورها النضالي.

ولعل كل هذه العوامل تفسّر انصراف الفلسطينيين عن مساءلة قياداتهم، في الخيارات التي أخذتهم إليها، من الثورة إلى التسوية، ومن التحرير إلى حل الدولتين، ومن الانتفاضة إلى المفاوضة، ومن المنظمة إلى كيان السلطة. كما تفسر استمرار عديد من الفصائل، برغم عدم وجود أي دور لها لا في المجتمع ولا على صعيد مواجهة إسرائيل، كونها لا تستمد شرعيتها أصلا من هذين البعدين!

كل ما تقدم يفسر افتقاد الساحة الفلسطينية لمراكز أو مؤسسات بحث ودراسات وإعلام، كمركز الأبحاث والتخطيط والإعلام الموحد ومؤسسة السينما. ولا مجلة كشؤون فلسطينية، ولا شخصيات أكاديمية ومثقفة كإدوارد سعيد ومحمود درويش وهشام شرابي، وميخائيل حنا (أبو عمر) وفايز صايغ ووليد الخالدي ويوسف صايغ وغسان كنفاني وشفيق الحوت وإبراهيم أبو لغد وأنيس صايغ، ويزيد صايغ ورشيد الخالدي، على سبيل المثال ولا الحصر. وحتى أن الفصائل السائدة لم تعد تنجب تلك الكوكبة من المثقفين، من الشعراء والروائيين والكتاب السياسيين والإعلاميين والفنانين، كتلك التي كانت أنجبتها في حقبة السبعينيات.

وفي الواقع فإن الفصائل الفلسطينية، بعد أن عجزت عن انجاز مهمة التحرير، أو مهمة دحر الاحتلال من الضفة والقطاع، انشغلت بالتحول إلى نوع من سلطة. وهذه السلطة، كأي سلطة عربية، وعالمثالثية، فرضت وصايتها على مجتمعها وهمّشت نخبه وطبقته الوسطى، وبالغت بالجوانب العسكرية والأمنية، واستعانت بالعامل الخارجي، واتكأت على الشعارات العامة، باعتبار ذلك كله من أدوات الشرعية والهيمنة وتعويم الدور.

التحدي الآن، لا يتعلق فقط باستنهاض حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وانما يتعلق باستنهاض المجتمع المدني الفلسطيني، وتعزيز فاعليته، وتأكيد دوره، على رغم التحول إلى سلطة، بل ووجود سلطتين في الضفة وغزة، إذ من دون ذلك، أي من دون استنهاض المجتمع المدني الفلسطيني سيبقى الفلسطينيون في حال من التهميش والضياع وغياب الفاعلية.

 

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.