وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العشّاق العذريون والطهارة الكاذبة

العشّاق العذريون
وافدان يعيشان في الرياض أثناء التقاطهما يوم ٢٩ أغسطس ٢٠٢٠ لصورة سيلفي وإلى جانبهم ألواح التزلج على الرمال وذلك قبل التزلج في صحراء سعيد على بعد ١١٠ كيلومترا شرقي العاصمة السعودية. المصدر: FAYEZ NURELDINE/ AFP.

يوسف شرقاوي

لعاطفة الحب، كغيرها من المشاعر الإنسانيّة، بُعدان رئيسيّان: الامتداد في الزمان (أي دوام الحالة العاطفية واستمرارها عبر فترة معينة من الزمن)، والاشتداد، وهو يدل على مدى عنف الحالة العاطفية وحدّتها في لحظة ما من الزمن. وقد اتُّفِق، أنّ الرغبة إلى واحد من هذين البُعدين عند الإنسان، واستحالة توفيقه بينهما، هي مفارقة، أطلق عليها صادق جلال العظم: مفارقة الحب الكبرى.

والإنسان الذي يكون في بحثٍ دائم عن الاشتداد هو دون جوان، أو يتمتّع بصفات الشخصيّة الدونجوانية، ومنها التقلّب السريع والاستجابة المباشرة للمثيرات العاطفية. كما أنّ دون جوان ينفض يده عن شريعة الامتداد ويعارض جميع قيمها ومعاييرها ويرفض كبتها وقمعها لسورة العشق، ويهزأ من مؤسساتها الاجتماعية وخاصة الزواج والروابط العاطفية الدائمة، وهو اختار التنازل عن كل ما يمت لبُعد الامتداد بصلة، لكن تبقى نزعة الثبات والبقاء ماثلتَين في نفسه، ولذلك يظل في حالة حرمان شبه تام وكبت مستمر وصدٍّ دائب في سبيل تحقيق نزعات وميول أخرى.

هل ينطبق الأمر على العشاق العذريين الذين اتخذناهم مثلاً أعلى لنا لزمنٍ طويل؟

درج الكتّاب العرب قديماً وحديثاً على تفسير ظاهرة الحب العذري بنسبته إلى قبيلة “عِذرة” التي اشتُهر عنها نمط معين من الحب، والتي قالوا في وصف قومها: “إذا أحبّوا ماتوا”. يقول الدكتور يوسف خليف في كتابه “الحب المثالي عند العرب”: إنّ الحب العذري ظاهرة روحية يتعلق العاشق بواسطتها بمحبوبة واحدة يرى فيها مثله الأعلى الذي يحقق له متعة الروح ورضا النفس واستقرار العاطفة، ويصفه على أنه مأساة تدور أحداثها بين عاشقين تسيطر على حبّهما العفة والإخلاص والتوحيد والحرمان والطهارة، وأنه انتصارٌ للروح على الجسد، وهزيمة النفس الأمّارة بالسوء، أما المثالية الخلقية التي يؤمن بها العاشق العذري وأمنيته القصوى هي الحصول على الرباط المقدس بينه وبين حبيبته.

الشعراء العذريون كثر، منهم قيس وليلى، وقيس ولبنى، وكثير وعزة، وعروة وعفراء، وجميل وبثينة.
بدأ الحب بين جميل وبثينة بشجار في وادي بغيض، كما يقول جميل:

“وأوّل ما قاد المودّة بيننا، بوادي بغيضٍ يا بُثَيْنَ سُبابُ”.

وهام واحدهما بالآخر. فلم يكتم جميل حبه، وشبّب ببثينة وتغزل بها، رغم معرفته أنّ هذا يمنع أن تكون له. فإذا كان في الحقيقة يريد الرباط المقدس لماذا لم يقدم على خطبتها تماشياً مع أعراف القبيلة؟

اشتهر جميل ببثينة واشتهرت به ومُنِعا من الزواج، ولم يعد باستطاعتهما اللقاء إلا خلسة.

لقد فعل “جميل” كل ما بوسعه لعرقلة الوصول إلى الرباط المقدس مع بثينة، وهي بدورها سلكت سلوكاً مشابهاً حين كانت تعتز بهيامه بين أترابها، وينطبق الأمر على أغلب العذريين، وأشهرهم قيس، مجنون ليلى.

ثم تزوجت بثينة غير جميل وقيل في زوجها إنه كان دميماً أعور، ولم تعش معه طول حياتها.

رغم كل ما كُتِب عن عفة الحب العذري وطهارته، إلا أنّ العاشق العذري كان يزور عشيقته المتزوجة في بيتها ويقضي الليالي مختبئاً عندها، رغم زوجها وأهلها، وفي القصص كان الزوج يبان الشخصية الشريرة، رغم أنه الضحية.
ورغم كل ما قالته الأوساط التقليدية حول الوفاء التام والإخلاص المتفاني الذي يتّسم به الحب العذري، إلا أنّ هناك الكثير من المبالغة.

كان جميل يرحل ثم يعود ليتهم بثينة بصلة جديدة، وكانت تتهمه أيضاً بالاتصال بغيرها، ولم يكتم الشك فيها داخل شعره حيث قال:

بثينةُ قالت يا جميل أربتَني، فقلتُ كلانا يا بُثينَ مُريب

وأريبُنا من لا يؤدّي أمانةً، ولا يحفظُ الأسرار حين يغيبُ.

وبسبب قوة عشيرة جميل، كان يعرف أنه سيظل في مأمن من أهل بثينة مهما فعل، حيث لم يتجرؤوا على مجابهته، حتى لو رأوه في بيوتهم.

هل كان بينهما عائق حقيقي يمنع تحقيق الرباط المقدس أم أنّ الحقيقة هي أنه لا جميل ولا بثينة كانا يرغبان بهذا الرباط؟
يتّسم جميل ببعض خصائص الشخصية الدونجوانية، وتمثل عادات القبيلة وأعرافها بالنسبة إليه “شريعة الامتداد” بمؤسساتها المحافظة التي تعمل على الاستقرار، بإخضاع الحب والزواج لاعتبارات أخلاقية وقبلية بعيدة عن سنّة العشق، لذلك نرى العاشقَين غارقَين في صدامٍ مستمر مع المؤسسات القائمة كافةً، رافضين أخلاقها وقيمها ولا يريدان الحب الذي ينزع نحو الدوام ضمن مؤسسة الزواج لأنّ ذلك لا يتحقق إلا على حساب بُعد الاشتداد.

والفرق بين دون جوان والعاشق العذري أنّ الأخير لا ينتقل من محبوبة إلى أخرى وإنما يركز أحاسيسه على محبوبة واحدة، ويؤمل نفسه بالحصول عليها، ولكنه يصطنع في الوقت ذاته جميع العراقيل الممكنة ليحول بينه وبين امتلاك المعشوقة، وتولّد هذه الحالة عنده ألماً وشقاءً، وهو يتمسّك بهما ويبحث بصورة لا شعورية عن عوائق تكون ذريعة ليفترق عن عشيقته كي يلقاها مرة أخرى ويتجدد الحب، وحين تزول العوائق تتوقف الأحداث فجأة ويمتنع الحبيبان عن امتلاك بعضهما البعض متذرّعين بألف حيلة، لتستمر القصة على هذا النحو إلى أن يموت أحدهما ثم يلحقه الآخر.

ومرة كان جميل عند بثينة يشكوها حبّه، فقال: “أرأيتِ ودّي إياك وشغفي بك، أما تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المحبّين. فأجابته مغضبة: يا جميل، أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيداً منه. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو رأيت منك مساعدةً عليه لضربتك بسيفي هذا.”

كان العذريون إذن يتذرعون بالعفة والطهر والحياء ليحققوا غايتهم باستمرار الانفصال، وهم يرغبون في عشقهم وفكرته أكثر من رغبتهم بمعشوقاتهم، كذلك العشيقات يفعلن الأمر نفسه، ولذلك كانوا يفضّلون البعد عن القرب لأنه يؤجج نار العشق، أما في ساعات اللقاء فإنّ العشق يضعف، ولم يطلبوه إلا كمقدمة ضرورية لتحقيق الفراق من جديد، وفي ذلك قال جميل:

“يموتُ الهوى عني إذا ما لقيتُها، ويحيا إذا فارقتُها فيعودُ”.

والعذريون لا يطلبون الفكاك من ألم العشق وإنما يعشقوه، فلا تخلو ظاهرة حبهم من خصائص “السادومازوخية” على صعيد تعذيب النفس والغير، باعتبار العذاب جزءاً من عنف التجربة الشعورية، وتتجلّى الحالة المرضية التي يستعذبها العاشق العذري في توقه للموت باعتباره الحائل المطلق بينه وبين وعشيقته.

فالحب العذري، كما يراه صادق جلال العظم، حب شهواني في أصله ونرجسي في موضوعه ومنحاه، لأنّ اهتمام العاشق ينصب في الواقع على ذاته وأحاسيسه لا على شخص حبيبته، فيبالغ في تصوير قيمة موضوع حبه، وهو شهواني لأنه قائم على منع الرغبة في امتلاك المحبوب، وإنّ العاشق العذري أبعد ما يكون عن التغلّب على شهوته والسيطرة عليها، بل إنه يرعاها ويعمل على اشتداد حدّتها، فالحب العذري إذن لم يرتفع إلى مملكة الروح لأنّ السبيل إليها يمر بمملكة المادة والجسد، والعاشق العذري بنفسيته المريضة يؤجل المرور بمملكة المادة إلى ما لا نهاية، فيكون بذلك قد فقد المملكتين معاً.

 

المصادر:

في الحب والحب العذري، صادق جلال العظم، دار المدى، الطبعة الثامنة، ٢٠٠٧، دمشق.

جميل بثينة، عباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ٢٠١٣، القاهرة.

الحب المثالي عند العرب، يوسف خليف، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٧، القاهرة.

الحب العذري، موسى سليمان، دار الثقافة، ١٩٥٤، بيروت.

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.