وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل أتاك حديث الملتحين؟

اللحى
رجل عراقي هرب من القتال يستخدم مقصا لتشذيب لحيته بعد وصوله إلى مقر الفرقة التاسعة المدرعة التابعة للجيش العراقي بالقرب من حي الانتصار في الموصل يوم ٧ نوفمبر ٢٠١٦. وكانت القوات العراقية قد استعادت بلدة مفصلية من تنظيم “الدولة الإسلامية”، وذلك في مهمة حاسمة على الجبهة الجنوبية للهجوم الذي تم تنظيمه حينها لاستعادة مدينة الموصل. المصدر: Odd ANDERSEN / AFP.

حكيم مرزوقي

اللحية – وما أدراك ما اللحية – هذه النعمة أو النقمة، تنبت أسفل وجوه الرجال فتغيّر من رؤوسهم ونفوسهم، سلبا أم إيجابا، وتأتي – سابلة كانت أم شعثاء، سوداء أم شقراء – إعلانا عن فكر أو طريقة حياة أخذت وقتا في إعدادها… حتى لم تجد الوقت ولا الرغبة في حفّ أو تشذيب أو حلاقة ما طال من شعر الذقون التي قد نجلّها وتجلّنا أو… نضحك منها وعليها.

يطول الشعر أسفل الرأس لدى الذكور بفعل الطبيعة التي تطيل الأظافر أيضا وتأتي الأمواس والمقصّات للجمها وإيقافها عند حدّها وفق ما تسمح به الذائقة والعادة والإمكانيات.

تطول اللحية بشحّ بطيء أو غزارة حسب المنطق البيولوجي وقوانين الوراثة ويتدخّل الإنسان لإلباسها اليافطات المناسبة في كل زمان ومكان حسب أهوائه ومراميه وحاجاته، فثمّة من يريد أن يدفئ وجهه البارد في بلاد الصقيع وثمّة من وجد أسلافه وأبناء عرقه وعشيرته على نفس الهيئة فاحترمها واستكان لها وثمّة من لم يجد ثمن موسى حلاقة كالمعوزين والمشرّدين وثمّة من لم يجد الوقت الكافي كالبحّارة والصيّادين وأبناء السبيل وثمّة من أعلنها علامة تميّزه عن العامّة والدهماء كالمفكّرين والأسياد ورجال الدين الذين يعدّونها ضربا من ضروب الوقار والحكمة.

هي لغة بصريّة إذن، (تتلى) أمام الآخرين وتسعى لفرز طبقيّ وفئويّ واضح بحقّ أو بغير حقّ، ولها سلطتها المعنويّة ومكانتها الماديّة والروحيّة التي يتبرّك بها أتباعها ومريدوها والمؤمنون بها، حتى دخلت النسيج الاجتماعي عبر الأمثال الشعبية والثقافة الشفهيّة التي تمجّد اللحى أو تسخر منها كقولهم :(فلان قاعد بحضننا وينتف بذقننا) في إشارة إلى من يتطاول على الكريم وصاحب الفضل.

أحببنا لحى كثيرة في هذا التاريخ الذي لا أتخيّله إلاّ حليق الذقن ومتجدّدا كل صباح. من هذه اللحى تلك التي كانت للفلاسفة القدامى عبر منحوتات وصور تخيّليّة كأفلاطون وسقراط وابن خلدون وابن رشد وكارل ماركس. احترمنا لحى وقورة لرجال الدين والدنيا كجمال الدين الافغاني والطهطاوي وعبد القادر الجزائري والكثير من المطارنة وشيوخ عقل الموحّدين في الشرق العربي وغيرهم من الذين حافظوا على نقاء لحاهم احتراما والتزاما برسائلهم السمحة في المحبة والسلام. لكنّنا وجدنا أنفسنا في السنوات الأخيرة أمام أناس قد نبتوا من لحى الحقد والكراهية فقطّبوا وجوههم في وجه المستقبل وتجهّموا وسط كتل من الشعر المغبرّ، مطالبين بالعودة إلى كهوف الماضي وكأنّ الشمس قد أعمت عيونهم فكرهوها وخيّروا عليها ظلام القبور ورطوبتها.

يريدون الانقضاض على ما كل هو بهيج ومفرح، فامتطوا المطالب المشروعة وأرادوا تحويلها نحو وجهتهم المتجهة أبدا نحو الوراء، يسعون لإفساد فرحة الحالمين في بلاد عربية كثيرة ولا برنامج لديهم إلاّ اللحى البشعة الملطّخة بدماء الأبرياء.

ما عسى أن نقول لسلفيّ أمرد في عصر راجت فيه تجارة اللحى المستعارة والشعارات المستعارة، غير ما قاله ابن الرومي (شاعر البصرة التي أحرقتها ثورة الزنج) في أحد الملتحين:

إن تطل عليك لحية أو تعرض….. فالمخالي معروفة للحمير

علّق الله في عذاريك مخلاة…. لكنها بدون شعير.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.