وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الغزل ليس بديلاً عن حقوق المرأة

ناشطة شاركت في مظاهرة تم تنظيمها للاحتجاج على التحرّش الجنسي
صورة تم التقاطها يوم ٧ ديسمبر ٢٠١٩ في العاصمة اللبنانية بيروت لناشطة شاركت في مظاهرة تم تنظيمها للاحتجاج على التحرّش الجنسي والاغتصاب والعنف المحلي.

غسان عقله

كلّ الكلام عن المرأة في العالم العربي هو كلام إنشائي رومانسي مفارق لواقعها المعاش، فلا الغزل بها ولا بِرُّها ولا احترامها أو العطف عليها يعكس حقيقة تموضعها ضمن “فئة المستضعفين اجتماعياً”. فالمرأة يتوجب عليها دوماً منازعة حقوقها مع مجتمعٍ ذكوري يصر على أنها “ناقصة عقلٍ ودين”!

في البداية، لا بد من الإشارة أن الحقوق التي تطالب المرأة العربية بتحقيقها (مع من يمثلها من حركات نسوية) لا تتعدى حاجز الحقوق المدنية والاجتماعية كحق إعطاء الجنسية لأبنائها أو المواريث أو الزواج.. وهي جميعاً “حقوق” ترعاها قوانين “الأحوال الشخصية” وتختلف نصوصها باختلاف طوائف ومذاهب كل دولة من الدول العربية. وبالتالي، فإن الحديث هنا لا يدور عن الحقوق التي تضمّنها مثلاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كالكرامة الإنسانية أو المساواة أمام القانون. فهذه الحقوق تكاد تكون غائبة تماماً عن جميع فئات المجتمع، وإن تواجدت فعلى شكل نصوص باهتة داخل طيّات الدساتير العربية التي لا تطبّق. وبالمناسبة، قد يُغني التزام الدول العربية بـ “حقوق الإنسان” بالمعنى الأممي للمفهوم عن مجمل النقاشات والانقسامات حول حقوق التجمعات المستضعفة والمهمشة والأقليات، ومن ضمنها بالطبع المرأة، الأمر الذي لا يتسع المقام لنقاشه هنا.

ولدى الحديث عن “حقوق المرأة” يشتعل النقاش سريعاً بين مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية حول المفهوم الذي يلبي تلك الحقوق. ففي الوقت الذي تتعثر فيه الحركات النسوية العربية بصياغة خطاب نسوي واقعي يواجه تقلبات المجتمع السياسية والاقتصادية، تدعو التيارات المحافظة لتحقيق “مفهوم العدالة”، بينما تدعو التيارات الليبرالية إلى تحقيق “مفهوم المساواة”. ومع اتساع وتشعّب كلا المفهومين، يمكن أن يضفي تسليط الضوء عليهما مزيداً من الوضوح حول أيّهما أكثر تلبيةً لتطلعات المرأة العربية.

مفهوم العدالة في العالم العربي يرجع بالعموم إلى المبادئ الإسلامية. ويرى منظرو هذا التيار أن الدين الإسلامي أعلى من شأن “العدالة” ومارسها بالفعل بالنسبة لجميع الفئات والأقليات وليس فقط بالنسبة للمرأة، وقد تمكّن من تحقيق التوازن والتجانس داخل المجتمع الواحد. في المقابل، يرى معارضو هذا المفهوم أن عدالة الإسلام (حتى وإن جرى التسليم بها) فإنها خاصّة باحتياجات المجتمع المسلم قبل 1400 سنة، وأن تغيّر الظروف الاجتماعية والاقتصادية يستدعي إعادة النظر بالكثير من الأحكام كالمواريث وغيرها، حيث إن وصْف هذه الأحكام بالقطعية والمغلقة أمام الاجتهاد لثبوتها بالنص “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”، يعتبر تناقضاً قياساً بأحكام كثيرة تغيرت رغم ثبوتها بالنص كذلك كحد السرقة أو الزنا.. وبالتالي لا بد من تحقيق المساواة تلبيةً لما استجدّ من تطورات داخل المجتمعات العربية.

لكن، هل تلبّي “المساواة” حقاً تطلّعات المرأة في المجتمعات العربية التي تتسم بالذكورية؟ بكلمات أخرى: كيف تطالب المرأة بالمساواة مع الرجل في مجتمعٍ أبوي هو نفسه الذي أفرز “اللامساواة”؟! ربما هذه الأسئلة وسواها تنبهت لها الحركات النسوية في الغرب مبكراً. تقول رائدة النسويات الأميركيّات كيت ميليت “يمكن اعتبار النظام الأبوي الأيديولوجية الأكثر تغلغلاً في حضارتنا التي تركز على مفهوم القوة، وهي ذات الأيديولوجية التي يمكن اعتبارها المصدر الأول للسيطرة على النساء وقمعهن”. بمعنى أكثر تحديداً: لا يمكن تحقيق المساواة بين أفراد مجتمعٍ تبلور على أساس الهيمنة الثقافية والبيولوجية والنفسية لمجموعة معينة، وإن تحقيق مساواة على هذه الشاكلة لفيه ظلم للمرأة نفسها ونسف لمجمل لحقوقها. لنتخيّل مثلاً تساوي المرأة والرجل تماماً بحق العمل دون مراعاة اختلافاتها البيولوجية الطبيعية. هذا يعني بصورة مباشرة حرمان المرأة من إجازة الأمومة ومن تجهيز دور حضانة لأطفالها أثناء أوقات العمل.. إلخ. ولعلّ تعسف “مفهوم المساواة” وإشكاليته استدعى ظهور مفهوم آخر يعرف بـ “مفهوم الإنصاف” حيث يقوم على مبدأ “التمييز الإيجابي” لصالح الفئات المستضعفة. ومن خلال هذا المفوم يهيئ المجتمع الظروف المناسبة لجميع مواطنيه وفق اختلافاتهم البيولوجية “الجندرية” والدينية والثقافية.. على أن لا تعيقهم متطلباتهم الخاصة من الوصول إلى أهدافهم، لتبقى قدرات كل شخص هي الكلمة الفصل في تحقيق نجاحه.

أخيراً، قد لا تغني جميع المفاهيم ولا القوانين عن أهمية وعي أفراد المجتمع أنفسهم بذواتهم وبحقوقهم. فكل القوانين والشرائع، مهما عظمت، تبقى كلاماً فارغاً لدى مجتمع يمتلك وعياً زائفاً. خذ مثلاً بعض التجمعات القروية التي ورغم التزامها الديني حدّ التشدد تحرم المرأة من إرثها الشرعي في الأرض بحجة أن إرث الأب لا يجب أن يستولي عليه الغريب (الصهر). ومثال آخر على ذلك تلك المدائن التي تمنع المرأة عن العمل بحجة أن ذلك سيحيلها مسترجلة. إذن، فقضية حقوق المرأة في العالم العربي تستلزم أكثر من مجرد توافر القوانين أو التوافق على المفاهيم. إنها تتطلب قبل كل شيء إقناع الرجل بالتوقف عن غزله المبتذل للمرأة والبدء بالنظر لها ككيان لديه حقوق.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles